قراءات نقدية

زينب الحسيني: الصراع النفسي للشخصيات الرئيسة في قصة "الاختيار"

للأديب السوري: منذر فالح الغزالي

 مقدمة: قصةٌ بديعة السرد مشوّقة، موضوعها يحمل عدّة إشكاليات؛ أولها: إشكاليةٌ وجوديّة تكمن في غربة الإنسان في وطنٍ يقمع الحريات، واضطراره للهجرة القسرية إلى منفىً آخر يعيش فيه غربةً حقيقيةً أخرى بحثاً عن تأمين لقمة العيش، وخوفاً من القتل أو السجن التعسّفي، مما يولد عنده، في الحالتين، شعوراً مقلقاً باللاانتماء الوجودي. وتأتي أيضا إشكالية التباعد بين الزوجين، مما يسببّ صراعاتٍ نفسيةً وقلقاً وجودياً من نوعٍ آخر؛ وفي القصة هذه، ضروبٌ وحكايا شيّقةٌ مفصلة عن هذه العلاقات المضطربة الشائكة؛ لذا، وحسب قول سارتر: "على الأديب الملتزم، أن يشعر بمدى مسؤوليته عن كلّ شيء؛ عن الحروب الخاسرة أو الرابحة، عن التمرّد والقمع، كما عليه أن يشعر أنه متواطئٌ مع المضطهدين؛ إن لم يكن الحليف الطبيعي للمضطهدين". وقد تكون هجرة كاتبنا القسرية إلى ألمانيا قد أوحت إليه بكتابة هذه القصة التي تحمل إشكالياتٍ يتكرّر حدوثها في أيامنا الراهنة.

عنوان الدراسة: الصراع النفسي للشخصيات الرئيسية في القصة

-أحمد، هو الشخصية الرئيسية المحورية في القصة، هو ذاك الصحفيّ ذو الفكر والقلم الحر، الذي هاجر من بلده سوريا في زمن الحرب "حاملاً ذاكرة وطنٍ ممزق"، فاضطرّ للرحيل لاجئاً سياسياً إلى ألمانيا وقد أضاع مرةً واحدة: الهوية واللغة والمهنة.  من هنا نشأ لديه قلقٌ وجوديٌّ لمجرّد إحساسه في وطنه بالغربة؛ وهو الصحفيّ الحرّ الذي مُنع من ممارسة حرية التعبير والمعتقد، ولوحِق ولم يجد أمامه من مخرجٍ إلا "الهروب أو الموت"... مضت عليه "شهورٌ قاسية... يقضيها وحيداً"، يتحدّث طويلاً مع زوجته "سمر" عبر الرسائل النصية، ويصرّ عليها أن تغيّر رأيها وتتبعه إلى ألمانيا؛ لكنها في كلّ مرة كانت تعيد نفس الجواب: " لا أستطيع... أمي المريضة، وعملي في الجامعة... كيف يمكنني تركَ كلّ شيء". من هنا أحسّ

بمرارة "تخلّي" أحب الناس إليه في أصعب الأوقات، وازداد إحساسه بالضيق والغربة، وتنازعه إحساسٌ جديدٌ باللاانتماء للمجتمع الغربيّ في ألمانيا، بعد إحساسه بالغربة في الوطن، وصار يحسّ بقلقٍ واضطراب نفسيٍّ، بعد أن فقد استقراره بعيداً عن زوجته التي "تخلت" عنه في أصعب ظرف، وصار توّاقاً إلى ركنٍ دافئٍ، أو صديقٍ أليفٍ يفرّج عنه كربه ووحدته...  وتظهر في تتابع السرد _ الشخصية الرئيسية الثانية، شخصية: إلسا، "الجميلة، معلمة اللغة ذات العينين الرماديتين، والابتسامة الخافتة"؛ وقد كان من الطبيعي جداً، أن ينجذب إليها أحمد، خاصةً بعد أن التقط "إشاراتٍ صغيرة " تدلّ على اهتمامها بوجوده.

تتابع اللقاءات الحميمية، والثقة المتبادلة بين أحمد وإلسا تجاوزت حدود الصداقة بينهما، صار أحمد يتساءل: ترى؟ ما الذي تسعى إليه؟ ولماذا اختارتني أنا؟ ثم بدأت أسئلة أحمد تزداد عن طبيعة هذه العلاقة؛ وتوالت الأيام، فأحسّ كل منهما بأن العلاقة جرّتهما إلى طرح أسئلةٍ جوهريةٍ صحيحةٍ، بدأها أحمد بسؤاله إلسا: "هل الرجل الذي يترك زوجته لأنه أحب امرأة أخرى، يخونها؟". "الخيانة ليست في الحب، الخيانة في التخلّي، في أن تترك شخصا كان يثق بك"، و"الحب الحقيقي لا يبنى على أنقاض علاقة أخرى، إنه يحتاج إلى أرض صلبة، وليس إلى قلب ممزق.".

أكثر ما كان يمض إلسا، ويحدث في نفسها قلقاً هو "تخلّي" زوجها الفجائيّ عنها، بعدما كان يبدي لها كلّ الحبّ والثقة.

وأعود لأحمد، الذي كان يحسّ في أعماق نفسه بالضياع و"الصراع" بين الحب والالتزام، بين الماضي والمستقبل، وبين الواجب والممكن، وكان يعلم أن إلسا تريده أن يحسم "الاختيار" بقولها له: "البقاء في المنتصف هو الخيانة الحقيقية ". إلسا، رغم حبها لأحمد، كان يسكنها "الخوف" من المضيّ قدماً في علاقة حبٍّ جديدة، بعد فشلها في الأولى؛ وكانت تلحّ على أحمد في السؤال: "هل هذا حبٌّ حقيقيٌّ، أم مجرّد هروبٍ من الوحدة؟". ورغم تأكيد أحمد لإلسا بأنّ حبه لها حقيقيٌّ، وأن "وجودك أعاد لي معنىً جميلاً فقدته."، ظلت إلسا "حذرة خائفة. 

وهكذا يتصاعد الصراع في وجدان أحمد ويدفعه لاتخاذ "اختيار" حاسم ينقذه من كلّ هذا الضياع والفوضى، فيخبر زوجته سمر بقرار أخير، خاصةً أنّ سمر كانت لا تزال مصرّةً على البقاء في سوريا، ولها أعذارها الخاصة. قرار أحمد أرسله لسمر وهو "الانفصال الكلي " كي لا "نستمرّ في خداع أنفسنا ". اتخذ القرار بمسؤوليةٍ مقرونةٍ ب"حرية" تامة، ودون أن يحسّ بوجعٍ، أو تأنيب ضمير، بعد اقتناعه الكلي بأن سمر تخلت عنه في أصعب لحظات حياته؛ وأنها أرادت أن تلحق به في ألمانيا لأسباب عديدة أرسلها لإلسا ويقول فيها: "ستأتي لتبرر أنانيتها، كي تظل ممعنة في حصاري، أشعر أنها شريكة في اضطهادي... تأتي أو لا تأتي، هذا خيارها، أما أنا فقد اخترت وحسمت أمري".

- الشخصية الثالثة الأقل حضوراً هي "سمر" زوجة أحمد. وقد ورد ذكرها والحديث عنها أثناء توصيفنا لعلاقة أحمد وإلسا وعبر ذكرٍ لبعض رسائل هاتفية بينها وبين أحمد. وقد وصفها أحمد بأنها أنانية، فضّلت ترقيتها في وظيفتها على اللحاق بزوجها في أصعب أيامه.

وهكذا تنتهي هذه القصة الرائعة، بلا نهايةٍ مؤكَّدة، ودون أن نعرف قرار إلسا الأخير، تاركةً للمتلقي كثيراً من التكهّنات والإسقاطات الواقعية.

يكشف لنا كلّ ما تقدّم ذكره الحالات النفسية، والصراعات في نفوس الشخصيات الرئيسية الأساسية (أحمد وإلسا)، كما يكشف خياراتهما الراقية التي لم تبن على نزوات عشوائية حسية وإنما تشكلت بعقلانية وحرية "اختيار" مبنيةٍ على مسؤوليةٍ مصحوبةٍ بحبٍّ حقيقيٍّ صادق.

ومما لا شكّ فيه أنّ كاتبنا القدير الأستاذ منذر قد أبدع، فنجح أيّما نجاحٍ في توصيف حالات الصراع النفسي، ودوافع "الاختيار" لشخصيات أحمد وإلسا، وسمر، الكاشفة لتموضع الشخصيات الثلاثة في الواقع الاجتماعي والإنساني والحضاري، ووظّف التوصيف للدلالة والإيحاء على فصول علاقة الحب التي تنامت في قلبي أحمد وإلسا، دون الحاجة لسردٍ إخباريٍّ خالٍ من اللغة الأدبية السردية الشيقة.

***

زينب الحسيني

١٠/٧/٢٠٢٥

 

في المثقف اليوم