قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: روح بغداد.. قراءة أسلوبية- رمزية- نفسية لقصيدة

الشاعر العراقي: عمر عبد الناصر

تتناول هذه الدراسة قصيدة "في روح بغداد" للشاعر العراقي عمر عبد الناصر من خلال ثلاثة محاور تحليلية: الأسلوبي، الرمزي، والنفسي. وترصد كيف تتحول بغداد في النص من مدينة جغرافية إلى كائن شعري أنثوي، وتُستعاد كذاكرة جمعية، وجمالية، وحسية. تتجلى قوة النص في انسيابيته الإيقاعية، وغنائيته، وفي بنائه الرمزي الذي يُماهي بين المرأة والوطن، ويخلق بُعداً نفسياً يعكس مقاومة الفقد والانتماء من خلال الحنين واللغة.

في زمن تعاني فيه المدن العربية من التشظي والتمزق، تأتي القصيدة كفعل وجودي مضاد، حيث تتحول الكلمة إلى وسيلة لترميم الذاكرة واستعادة الهوية. "في روح بغداد" ليست مجرد قصيدة حب، بل هي نص مركّب يعيد تعريف المدينة من خلال العاطفة والرمز. بغداد هنا ليست مكاناً، بل استعارة كبرى للأنثى، للحضارة، ولحالة وجدانية يُعاد استحضارها عبر الكلمات، في محاولة للتغلب على ألم الفقد والاغتراب.

أولاً: البنية الأسلوبية – لغة التكرار والإيقاع الحسي.

تعتمد القصيدة على التكرار الإنشادي كوسيلة لبناء الإيقاع، وهو ما يتجلى في اللازمة المتكررة ،يقول الشاعر عمر عبد الناصر:  "في روح بغداد / هناك أحب أن ألقاك".

هذا البناء يُعطي القصيدة طابعاً إنشادياً يدور في حلقة وجدانية متكررة، ويُعيد تشكيل "الروح" كحيز شعري، غير مادّي، تستعاد فيه كل معاني اللقاء والانتماء. ويتعزز الإيقاع من خلال التوازي التركيبي كما فيةقوله:  "في أغانينا... في أمانينا".

اللغة في النص تتراوح بين الفصحى الرقيقة والعامية المُضمّنة داخل السياق، مما يعكس ثنائية الهوية الصوتية: الرسمية والحميمية.

ثانياً: الرمزية – بغداد كأنثى / المدينة كذاكرة:

تأخذ بغداد شكل الحبيبة. هذا التماهي ليس سطحياً بل ينبع من آلية رمزية متجذرة في الخطاب العربي حيث تتماهى الأنثى بالوطن. يقول الشاعر:

 "في سماركِ المثيرِ اللامنتهي

وفي الوجه الإلهيّ.. البهي".

الوجه البهي، والسمار، ليست صفات أنثوية فحسب، بل استعارات حضارية لمدينة ذات بعد إلهامي. الرموز المحلية (شارع الرشيد، المتنبي، شاي الهيل) تشكل "أيكونوغرافيا" يومية تُعيد تمثيل بغداد بوصفها مركزاً وجدانياً للذاكرة والهوية.

ثالثاً: البنية النفسية – الحنين كآلية دفاعية ضد الفقد.

يوظف النص آليات "التعويض الرمزي" عبر الحب لاستعادة ما فُقد. يختلط صوت العاشق بصوت المواطن، حيث يتحول اللقاء الشخصي إلى لحظة انتماء جماعي، يقول الشاعر عبد الناصر: "كلَّ ما مرّ السلام فينا

كلَّ ما مرّ الزمان فينا".

هذا التكرار ليس فقط جمالياً بل يحمل وظيفة نفسية، حيث يصبح الزمن – عبر التكرار – جزءاً من فعل المقاومة والتشبث بالحضور الداخلي لبغداد. كما أنّ استخدام الأغاني الشعبية والأمثال (مثل "ما أجوزن أنا") يحمل دلالة انتمائية: إنه عناق جماعي للثقافة والهوية من خلال اليومي والمألوف.

الخاتمة:

في قصيدة "في روح بغداد"، للشاعر العراقية عمر عبد الناصر لا يستعيد الشاعر المدينة بوصفها مكاناً، بل بوصفها حالة شعورية مركبة تتجاوز الجغرافيا والتاريخ. تتجلى قوة النص في قدرته على محو المسافات بين الذاتي والوطني، بين الأنثى والمدينة، بين الحب والانتماء. ولعل هذه القصيدة مثال حيّ على كيفية صوغ الذاكرة عبر الفن، وكيف يمكن للشعر أن يكون مرآة لروح شعب بأكمله.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

في روح بغداد

في روحِ بغداد

هناكَ… أُحبُّ أن ألقاكِ

في ذلكِ الجمالِ الذي...

أصِرُّ أن أراهُ فيكِ دوماً، وفيها

في شارعِ الرشيد

في خطانا التي يُزيِّنُها تلاقينا

في أغانينا... في أمانينا

في روحِ بغداد

هناكَ.. أحبُّ أن ألقاكِ

وأُسلِّمُ عليكِ كلَّ ما ...

مَرّ السلامُ فينا

في روح بغداد

في زحمةِ المقاهي

وضجةِ الساحات

أرى الحياةَ تكتُبُ..

كلَّ ما قيلَ عنه انمحى

وأنا وأنتِ نهيمُ في "المتنبي" *١

و"الدرابينُ"*٢ شهودٌ "بفيِّها" *٣…

وقتَ الضحى

و"شاي الهيل"*٤ قد حانَ موعدهُ

وناظمٌ بصوتهِ صدحا

و"أم العيون السود" معي هنا

وأنا… "ما اجوزن أنا"

"وخدك الگيمر وأنا اتريگ منا" *٥

في روحِ بغداد

تحلو حكايانا

وعراقية، تحلو أغانينا

في روح بغداد

جوٌّ غريبٌ…

ساحرُ الألحان

ودجلةَ بين عينيكِ

يُغازل الشطآن

ويؤنس ليلَ العاشقينا

بغداد… بغداد يا لهذي المدينة!

في روحِ بغداد

في ذلك الوجعِ الذي لا يَنقضي

وفي الجمالِ الذي صِغنا منهُ الذكريات

في لحظةٍ فيها التقوا..

عند ثغري وثغركِ فجأةً دجلةَ والفرات

في سَمارِكِ المثيرِ اللامُنتهي

وفي الوجهِ الإلهيِّ.. البهي

وفي التفاصيلِ المُشبّعاتِ بشمسٍ…

أطفأ نارَها عصيرُ الزَبيب المُعتّق

وفي نُقوشٍ على مَبْنَىً مُنمَّق

هدّهُ الزمانُ والصيفُ والآهات

لكنه ما زال واقفاً يُقاومُ الحرَّ…

ليُثْبِتَ أن بغداد أعرق

بغداد... بغداد يا لهذي المدينة!

في روحِ بغداد

تحلو حكايانا

وعراقيةً، تحلو أغانينا

في روح بغداد

هناك أحب أن ألقاك

وأسلمُ عليكِ كلَّ ما..

مرّ السلامُ فينا

كلَّ ما مرّ الزمانُ فينا

كل ما مرَّ الحنين

وغطى ليالينا...

بغداد... بغداد يا لهذي المدينة!

 

في المثقف اليوم