قراءات نقدية
علاء حمد: الكائنات التأملية في نصوص الشاعر العراقي جان دمو

الشاعر الذي لم يكتب
عندما نبحر مع السلوكيات المتباينة، فسوف نصل إلى المعاني المختلفة ومنها المعنى السيمانتي (النفسي) وهو أحد الكائنات التأملية في نصوص الشاعر العراقي جان دمو.
إنّ التركيب الانفعالي أو التركيب الهادئ للجملة للشعرية يبيّـن حركتها من خلال المعنى السيمانتي (النفسي)، وهو التحرر بعينه من الرقيب وتحرر المتلقي أيضا من الدخول إلى النصّ المكتوب كحالة لسانية إدراكية ذي علاقة مباشرة مع اللغة الإدراكية التي تعد من الكائنات النصية وكيفية البناء النصّي بشكله الآلي خارج التكلف؛ حيث التبدلات التي تحدث للنصّ، هي التبدلات المختلفة وكيفية المعاينة النصّية من وإلى النصّ كجامع أولي للكائنات التي تؤدي إلى الإثارة التأملية.
إنّ النصّ تأملي بدرجاته الأولى، وكذلك تعييني عندما يكون ذا علاقة مع التصور الجدلي عندما يثير الأشياء الكامة في الذات العاملة، والنصّ بجدليته ينتمي إلى المسافة الفاصلة بين الدال والمدلول، لذلك من أولى تفكرات الشاعر هي كيفية إيجاد المساحة الجمالية بتصرّف ذاتي، أي أن تكون حالة انفتاح النصّ حالة جمالية ويكون الخروج من حالات التفكر السلبي، فطبيعة عقل الإنسان، طبيعة سلبية، فالحزن عندما يتصوره الشاعر يعتبر من الحالات السلبية، ولكن هناك الحزن المجمّل الذي تكون الإثارة به توليدية فيتضاعف الجمال التأثيري بالمتلقي على أن يكون جزءا من النصّ المنظور.
نبحر في بعض نصوص الشاعر العراقي جان دمو، هذا الشاعر الذي انتمى إلى التقليلية الكتابية، فزمنية حياته لم يكتب الكثير، بل هناك مباعدات نصية بين نصّ وآخر، وقد تصل هذه المباعدات إلى فارق كبير قد يكون السنة لكي ينجز نصّا. وخصوصا أن الشاعرانتمى إلى كتابة النصّ القصير، وهو متعته الفنية عندما يكون بحالة اندماجية مع الكتابة.
امعن في صدودك أيها الواقع
فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم
النجوم! قدم تبحث عمّا يماثلها، قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع
الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما.
آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلاثاء
بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله
ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي
الغرفة مربعة، وكذلك القلب.
مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشاً.
قصيدة: الظل – جان دمو
نستطيع أن نذهب باتجاهين تخصّ الكائنات التأملية؛ فالاتجاه الداخلي؛ ويعني لنا بأن الكتابة التلقائية المعنونة، كتابة تأمّلية تفكرية، والفضاء الذي يرسمه الشاعر، هو جزء من فضاء المخيلة التي من واجبها إنجاز العمل كمنظور مواز بين الذات الحقيقية والكتابة؛ والاتجاه الثاني، هو الاتجاه الخارجي، حيث يكون مخزن الذات في تأمّلات تطبيقية وما جمعته من مؤثرات خارجية لها أحداثها الشعرية، ولكن نبقى مع كائنات الشاعر العراقية جان دمو التأملية، ومنها الكائن اليومي وكيفية الاعتناء باللحظة الكتابية ضمن المنجز الكتابي.
امعن في صدودك أيها الواقع + فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم + النجوم! قدم تبحث عمّا يماثلها، + قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع + الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما. + آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلاثاء + بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله + ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي + الغرفة مربعة، وكذلك القلب. + مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشاً
إن استقبال اللحظة الأولى من المنظور الكتابي، قد يكون تأمّلاً بولادة لحظات أخرى، والكتابة التلقائية تعتمد على التوليد الكتابي، فأنت تبدأ وسوف تنهال عليك الأفكار والجمل الشعرية المتواصلة، وهذا مانلاحظه من خلال الجملة الأولى التي بدأ بها الشاعر العراقي جان دمو، حيث أنه استطاع أن يولّد الجمل بشكلها الامتدادي لتكون المعاني متوازية مع النصّ كصورة كبرى.
نستطيع أن نقول إنّ الجملة الأولى تخضع إلى مصطلح التجريب، إذن فهي قابلة للتغيير حتى نهاية النصّ؛ ولكن في نفس الوقت طالما أنّ الشاعر جان دمو قد انتمى إلى الرمزية، فالحالة التي اعتنى بها معاني مدغمة في الذات الحقيقية، وعملية تبيانها يكون من خلال التفكر والتدبر اللذين يستوعبان اللحظة الكتابية: أمعن في صدودك أيها الواقع..
الانتماء هنا، انتماء واقعي قبل أن يبدأ بالوعي التجريبي الذي يفقده في الكتابة ويدخل منطقة اللاوعي، فالفعل الكلامي (أمعن) ساعدنا على توجهات الشاعر بمكان معين، وإلا لم يصدر فعله الاستبياني بهذه اللحظة. فالإنسان شبيهه الإنسان، والنجوم شبيهتها النجوم، لذلك حقق الشاعر معيشته الشعرية قبل استيعابها، فالعيش مع الشعر تختلف عن الاستيعاب الشعري. لذلك أطلق الأشياء بمسمياتها ومنها الفأس مثلا التي ستبقى فأسا، والنجوم الباحثة ستبقى نجوما، وهي عملية الاستدلال التصويري المرسوم في النصّ.
بالسر يتركز النوم،
في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة
ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع
تعلمت أن أكون أنا.
وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد.
المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل.
الجمال غرفة يابسة،
مهجورة.
أتعجّل مقدم الفجر. سقوطي يمتّع
جوهر الروح.
لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.
قصيدة: السقوط – دان دمو
يمتثل الشاعر العراقي أمام بعض النصوص القصيرة، وهي تلك النصوص التي تتغير اتجاهاتها حسب السياق المكتوب في كلّ نصّ، ومن العنونة ننقاد إلى نصّ (السقوط)، ياترى كيف حالة السقوط التي امتثلها الشاعر في وحداته اللغوية. فالاختلاف الكتابي وسرّ الحقيقة وراء ذلك، هو الاختلاف بين الدوال والمدلولات، ففي كلّ نصّ تترتّب عليه القراءات الممكنة والمختلفة واللامحدود.
بالسر يتركز النوم، + في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة + ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع + تعلمت أن أكون أنا. + وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد. + المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل. + الجمال غرفة يابسة، + مهجورة. + أتعجّل مقدم الفجر. سقوطي يمتّع + جوهر الروح. + لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.
يشكل النوم، أو التفكر به، وإن كان بالسرّ، أحد مزايا السلوك الفردي، فالتدبر الذي يشغل الذات الحقيقية، ليس النوم فقط، بل تظهر الأنا الموازية للتفكر السري، وهنا نطرق باب الصمت من جهة وباب التأمل الذي ينتظر الشاعر من جهة أخرى، (تعلمت أن أكون أنا.)، فليس من السهل الخروج من منطقة الأنا طالما أن الشعرية تبدأ من الذات والتي نعتبرها ملكية خاصة لاتتشابه مع الذوات الأخرى.
لقد انحنى الشاعر أمام بعض المعاني التي ظهرت من خلال الحركة الفعلية، فالفعل يتركز، من الأفعال التموضعية فهي في مكان ما، ولا تصيبها الحركة الانتقالية، بينما الفعل (أقذف) فهو من الأفعال الانتقالية، ولم يوضح الشاعر جان دمو عملية القذف (فهو يميل إلى العادة السرية) فقد وظف الإشارات لكي تتبين المعاني الإيحائية التي رسمها خلف بعض الرموز وخلف بعض الأفعال الحركية الانتقالية وكذلك الأفعال التموضعية، فالعلاقة بين (يتركز النوم) أي أن يكون المرء ليلاً، وبين الرغبة الجنسية، هذه العلاقة أثارت وضوح النصّ الذي رسمه الشاعر جان دمو.
الضفادع تشم رائحة القصيدة
مثلها مثل الغرف والورقة
ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها.
لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم.
يا للهزل! أي فوضى!
أيتها الأشياء، أأنت مصممة
ألاّ تفصحي؟
أية مفارقة.
لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.
قصيدة: صدى الضفادع – دان دمو
ننزل إلى عبقرية الشاعر ومنظوره الكتابي في النصّ؛ والهدف من وراء ذلك معتقداته والتصورات التي تشكل ضرباً من التناسق، أمّا الاعتقاد فهو الهدف النصّي ومدى ترجمته للوصول إلى أبعد نقطة رسمها الشاعر جان دمو؛ فلاشكّ أن الانفعالات والغضب زائداً الرغبة الاندفاعية، كلها تشكل وسائل في الكتابة النصّية كي يفرغ الشاعر شحناته السلبية.
الضفادع تشمّ رائحة القصيدة + مثلها مثل الغرف والورقة + ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها. + لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم. + يا للهزل! أي فوضى! + أيتها الأشياء، + أأنت مصممة + ألاّ تفصحي؟ + أية مفارقة. + لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.
عندما نطرق الجملة، وهي جملة تعني الوجود، أي القادرة على الاستدلال، نكون قد وفقنا بين الروابط التي تربط الجمل الشعرية من جهة وبين انسجام المعاني التي تمتد بعضها على بعض؛ لذلك لايكتفي الشاعر بتسمية الأشياء أو الخوض بمشتقاتها وكذلك الاستعارات التي يعتمدها، بل يرى أن يغزو الطبيعة وما آلت إله من كائنات ترغب الظهور، فقد رمز الشاعر جان دمو إلى الضفادع وأشار إلى بعض المتعلقات ومنها الغرف والورقة والجندي والربيع، كلها كانت إشارات دلالية لتنشيط النصّ،
وكلّ إشارة تحوي على المتعة الداخلية من خلال المنظور الجمالي المختلف، الذي ساعدنا بأن ننظر إلى نصوص الشاعر العراقي جان دمو وهو يقودنا بين المنظور المحلي اليومي والمنظور البعيد الذي ربّما لم يأتِ دور حضوره؛ هذه الخصائص التي تمتع بها الشاعر هي العناصر الرابطة والمؤثرة في النصّ المكتوب، وكلّ شاعر يمتلك من المتعلقات الذاتية التي تُظهر أسلوبية كتابته وتنوعها وتجعله يختلف عن الآخرين.
نحو العبور ميتاً
أساهم في تطوير الأسبوع
أسجن نفسي في ميناء السرير
أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ
في جذور جبهتي
غيوم كثيرة تتعثر
في
الكلام، لن أمنعك
عشب كثير يتكلم لغة الزنجي
أقفالٌ.
قصيدة: جيلي – جان دمو
عندما ينجز الشاعر منظوره الذاتي، فإنه مع الإنجاز التأملي، التأمل الذي يدور في النفس بين الشكّ في النصّ المكتوب وبين الإنجاز الحتمي، لذلك يكون الإنجاز الجوهري بعد الكتابة، أي بعد أن يكون للنصّ استعمالات جديدة لوحدات خصصت لالتقاط الابتكارات وكذلك لرسم الأبعاد والمتقاربات في النصّ الشعري المكتوب من خلال الذات المختلفة، فاختلاف الذات يؤثر على اختلافات النصّ.
نحو العبور ميتاً + أساهم في تطوير الأسبوع + أسجن نفسي في ميناء السرير + أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ + في جذور جبهتي + غيوم كثيرة تتعثر + في + الكلام، لن أمنعك + عشب كثير يتكلم لغة + الزنجي + أقفالٌ.
سلطة النصّ؛ هي سلطة الشاعر وما ينوي أن يرسمه من كلمات مركبة تؤدي وظيفتها ضمن الإطار النصّي، وأن يكون للشاعر بعض المفاهيم التي ينطلق منها ومن أهم تلك المفاهيم غير المنظورة هي كتابته خارج التكلف، أي أن يكون للموضوع النفسي (المدلول) الأهمية في التدخل النصّي، وما الخيال إلا بعض عناصر الشروط النفسية عندما يغيب الشاعر عن الوعي الكتابي؛ وقد لاحظنا أن الشاعر جان دمو قد أكد على مفردات تؤدي إلى النهاية (الموت) إذن الحالة التأملية قد يأس منها الشاعر وهو في دوّامة من حياة لا يستطيع أن يصرعها.
(لاتتأثر بيئة النصّ ضمن سياق الاتصال فقط بمعرفة الفرد أو مقاصده أو بوظائف النصّ في تأثيرها في مواقف أفراد آخرين وسلوكهم، فإن جماعات ومؤسسات وطبقات تتواصل أيضا تواصلا جماعيا أو عبر أفرادها من خلال إنتاج النصّ. ويبرز كذلك مكان الفرد ودوره ووظيفته في هذه الأبنية الاجتماعية من خلال سلوكه اللغوي. وقد رأينا بأن الفرد يجب أن يتصرّف من خلال سلطة أو وظيفة محددة أيضا لإنجاز أحداث لغوية معينة. " "). وبذلك عندما يكون الشاعر متعلقا بإنجاز النصّ، فهو متعلّق لغويّ، وكذلك هناك علاقة جدلية بين النصّ والبيئة الأصلية التي ينتمي إليها، وليس هناك شرط ارتباط بالبيئة الأصلية بقدر ما تكون تلك البيئة التي عاشها في زمنية النصّ حتى وإن كانت بيئة مؤقتة.
لقد وظف الشاعر بعض المفردات الرمزية والتي من خلالها استطاع أن يصل إلى تعابير ضمن المفهوم النصّي، لتصبح تلك المفاهيم الدالة، كدلالات تقودنا إلى غايات معينة؛ مثلا: ميناء السرير؛ الرمل؛ الجبهة؛ الغيوم والزنجي؛ وهي كلها رموز وظفها الشاعر لتكون الجمل الشعرية مرتبطة ومنسجمة مع بعضها بعض، لتؤدي وظيفتها في المفاهيم الهادفة بالنسبة للشاعر.
***
علاء حمد - ناقد عراقي
.......................................
نصوص للشاعر العراقي جان دمو
الظلّ
امعن في صدودك أيها الواقع
فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم
النجوم! قدم تبحث عما يماثلها، قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع
الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما.
آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلثاء
بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله
ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي
الغرفة مربعة، وكذلك القلب.
مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشا.
**
السقوط
بالسر يتركز النوم،
في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة
ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع
تعلمت أن أكون أنا.
وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد.
المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل.
الجمال غرفة يابسة،
مهجورة.
أتعجّل مقدم القجر. سقوطي يمتّع
جوهر الروح.
لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.
**
صدى الضفادع
الضفادع تشم رائحة القصيدة
مثلها مثل الغرف والورقة
ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها.
لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم.
يا للهزل! أي فوضى!
أيتها الأشياء، أأنت مصممة
ألاّ تفصحي؟
أية مفارقة.
لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.
**
جيلي
نحو العبور ميتاً
أساهم في تطوير الأسبوع
أسجن نفسي في ميناء السرير
أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ
في جذور جبهتي
غيوم كثيرة تتعثر
في
الكلام، لن أمنعك
عشب كثير يتكلم لغة الزنجي
أقفالٌ.