قراءات نقدية
علاء اللامي: رواية "في قرى الجن" للخليلي تصف عراق اليوم قبل ثلاثة أرباع القرن

تحدثت رواية عراقية لكاتب نجفي قبل ثلاثة أرباع القرن عن عراق الأحزان واللطم والفساد والزيف والفوضى الاجتماعية في قرى الجن والخرافة! هل قرأتم رواية "في قرى الجِن" للكاتب والمؤرخ العراقي الراحل جعفر الخليلي والصادرة سنة 1948 حسب البعض، فيما يقول آخرون إن الجزء الأول منها صدر سنة 1945 والثاني سنة 1948، أما الكاتب اللبناني والقيادي الشيوعي السابق كريم مروة الذي كان قد تعرف على مؤلفها جعفر الخليلي في بيت قريبه وابن عمه وزميله في الدراسة في حوزات النجف الدينية، المفكر الشهيد حسين مروة فيقول إن الكتاب عبارة عن سلسلة قصص ومقالات جمعها المؤلف في رواية؟
خلال إعدادي وكتابتي للدراسة التأريخية التحليلية حول الأصول القومية للشاعر الجواهري تطرقت الى رواية أشار إليها صديق للكاتب العراقي الراحل جعفر الخليلي وفيما بعد ظهر أن الرواية لخليلي آخر هو عبد الغني ابن أخ جعفر اسمها "سلام يا غريب" ثم علمت أن رواية الخليلي العم صدرت قبل ثلاثة أرباع القرن في النجف. حاولت الحصول على نسخة رقمية منها على النت فلم أفلح. وسألت أصدقاء عن إمكانية الحصول عليها في شارع المكتبات ببغداد - شارع المتنبي- فقالوا إنَّ ذلك أقرب الى المحال لقِدَم الرواية!
ما دفعني للاهتمام بهذه الرواية هو ما قرأته من نقود مهمة عنها ومن هذه النقود والإشارات إلى مضمونها المهم:
* كتب عنها الناقد حميد الحريزي الاتي: "رواية قرى الجن هي نموذج للرمزية في كتابة الرواية العراقية حيث قال الدكتور جميل سعيد (خير مثال لهذا الأسلوب–الرمزية- هو "في قرى الجن" لجعفر الخليل الذي استعاد أجواء (ألف ليلة وليلة) و(العقل في محنته) لذنون أيوب و(أفول وشروق) لخالد الدرة).
* وقد افتتح الخليلي روايته بمقدمة رائعة بإهدائها إلى مدينته مدينة النجف الأشرف، كونها تمثل روح الناس الطيبين المتنورين الطامحين بالحرية والتحضر والتقدم لمدينتهم ولبلدهم عموماً حيث يقول: "إلى المدينة الزاهرة التي كان لها الفضل في تنشئة حملة الأفكار الحرة. إلى المدينة التي أخرجت عشرات الشعراء الذين دعوا للمحبة والرفاه والحرية، فكان لها في تاريخ الفضيلة سهم كبير.. إلى مدينة النجف القاحلة الجرداء أِلا من الحس والعطف، أهدي كتابي هذا كصدى لروح الطيبين من أبنائها الذين يسعون لخير المجموع ويحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم؛ قرى الجن."
كما أنَّ الخليلي - يقول الحريزي - يؤشر إلى أنَّ الرأسمال الأكبر للمدينة هو حملها راية الحرية والتقدم لصالح المجموع، فهي لا تعدو أنْ تكون مدينة جرداء قحلاء، فخرها أنَّها تحتضن ضريح الأمام علي، وهو القائل (أحب لأخيك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها)، وهذه هي من أسمى وأنبل الصفات الإنسانية التي يصبو إليها الخليلي ومن رافقه.
* في الرواية، يطلب الغرباوي من صديقه الساعي أنْ ينقله إلى مملكة الجن فلم يعد يطيق الحياة على الأرض قائلاً لصديقه (إنّي راض بأنْ أكون حماراً ولا أكون أنساناً بهذا العيش وهذه الدنيا) ص126. فيودع أمه وقد حمله الجني إلى مملكة الجن بعد أنْ استطاع أنْ يحصل له الساعي على الموافقة للعيش في مملكة الجن. ينبهر الغرباوي بما شاهده في مملكة الجن اللباس، الجمال، الزينة ومعالم الترف الكبير الذي يعيشه سكان مملكة الجن.
* كلف بكتابة مقالات توضح حياة الناس على الأرض ممارساتهم وأساليب تعاملهم وطبيعة حكمهم... وقد عدّ مخالفاً في بعض مقالاته وخرق القوانين الجنية، فعوقب بتحويله إلى نملة من قبل مجلس قضاة الجن ليتعلم على طبيعة العمل الجمعي التضامني، ثم تم مسخه إلى كلب، غرّقه في بحر الدبس، ومن ثم العودة إلى بيت الشيخ غفران.. يصف في مقالاته حالة الحزن والإدمان عليه في الدنيا حيث يصفه ببلاد الأحزان "بلد الأحزان هذا هو البلد الذي يتعمد أيجاد كل وسائل الحزن والألم والشقاء لنفسه ليحزن ويشقى بمجرد أنْ يموت واحد منه- ص150- حاحوحا يبو"
"قوما سلوتهم في عزائهم وتفريحهم في مصيبتهم، ولذتهم في شقائهم - ص158".
"لقد سرت العادة من النساء إلى الرجال فلجأ قسم من هؤلاء إلى اللطم ولم يعد يأنس بغير أخبار الأموات وإقامة الأحزان وعقد المجالس- ص160"
"أحزر أية مدينة غناؤها العويل ونشيدها النشيج وموسيقاها دق الصدور ومسارح روايتها وتسلياتها اللطم وأدبها كله أو جله رثاء" - ص160".
ويعلق الحريزي بالسؤال التالي: كم تبدو هذه التوصيفات جريئة في ذلك الزمان في أواسط القرن العشرين؟
وعن الاستهتار بالقوانين وتفشي الرشوة والفساد في مملكة الإنسان على الأرض كتب الخليلي: "صدقوني إنَّ المخالفة للقوانين العامة والاستهتار بالنواميس الاجتماعية والرشوة بجميع أنواعها وصورها قد بلغت يومها بتلك الزاوية من الدنيا مبلغاً لم يطق معها إنسان أنْ يبول بدون رشوة فكيف به إذا أراد أنْ يبيع وانْ يشتري وأنْ ينقل المتاع من جهة إلى أخرى وأن يبني ويؤسس إلى غير ذلك من مقتضيات الحياة. ص168".
ترى أي قدرة تعبيرية رؤياوية أخاذة ولا تكاد تصدق كان يتمتع الكاتب العراقي الراحل جعفر الخليلي، ولعلنا لا نبتعد كثيرا عنها لو أننا ضاعفنا شحنة البؤس والأحزان واللطم وكمية الفساد والنفاق والرشى وما إلى ذلك التي نشهدها في أيامنا هذه بعد أصبح سادة قرى الجن القدماء هم سادة حاضرنا الملموس في قرى الفساد وتخبيل العقول بالخرافة والتضليل والتبعية!
وعن فقدان المقاييس ومن مقالة لناقد آخر هو عبد الله الميلي أقتبس هذه الفقرة فائقة الأهمية: "وجاء في المقال الثالث الذي حمل عنوان "فقدان المقاييس" إدانة أيضا لشرائح من المجتمع منهم: متظاهرون، وجهاء، شعراء، كُتّاب، صحافيون، موظفون، علماء دين، فنانون، طلاب، ...الخ. هذه أوضاع جرّ إليها فقدان المقاييس، وفقدان المقاييس إنما هو نتيجة الفوضى الاجتماعية وانعدام التوجيه، وفقدان الوعي الموحد العام، وخمود الحس، وخمول الأفكار، فلو كانت هنالك مسؤولية لكن هنالك تعليم وتوجيه وتثقيف تبوخ معه ألوان الصور الكاذبة فتغيب عن العيون هذه الأمثلة المفضوحة ..» ص173.
فيما كتب عنها الباحث الأمريكي جون توماس هامل في رسالة الدكتوراه عن جعفر الخليلي: "استهوت رواية "في قرى الجن" كاتب هذه السطور، ونالت إعجابه، فالرمز فيها ليس ذا بعد واحد وليس مجرد وسيلة للتهرب، ولا تمثيلاً للاشيء غير ملاذ للمؤلف. لقد نجح الخليلي في التوصل إلى بعد أدبي على وجه الدقة والضبط لأن بمستطاعه أن يستشف داخل الإنسان وجه البطل المرتقب".
تساؤل أخير، سبق أن طرحه أحد نقاد الرواية هو عبد الله الميلي، ألا يعتبر الخليلي بروايته هذه رائدا من رواد الواقعية السحرية التي شاعت وانتشرت في الروايات الاتينية في ثمانينات القرن الماضي وكان علمها الأبرز غارثيا ماركيز؟
***
علاء اللامي
..........................
* رابط يحيل إلى مقالة الحريزي:
https://www.almothaqaf.com/readings-5/940029
* رابط يحيل إلى مقالة عبد الله الميلي فأدناه رابط يحيل إليها:
https://www.albayan.ae/paths/2009-02-21-1.407694