قراءات نقدية

فاطمة أيت الحاج: العلاقة بين الذات والآخر في "موسم الهجرة إلى الشمال"

"عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، بعد سبعة أعوام على وجه التحديد..." (ص 5). هكذا يفتتح الطيب صالح روايته الخالدة "موسم الهجرة إلى الشمال"، رافعا الستار عن واحدة من أعظم المغامرات الفكرية والنفسية التي شهدها الأدب العربي. فموسم الهجرة إلى الشمال ليست مجرد رواية مابعد استعمارية تروي حكاية رجلين عائدين من الغرب إلى السودان، بل هي نص فلسفي عميق يشرح الذات العربية وهي تمشي على حد السكين بين إرث الاستعمار الغائر وتمزقات الهوية. حيث تتقاطع السردية الذاتية مع الأسئلة الكبرى للوجود، ويصبح الجسد ساحة صراع، واللغة أداة سيطرة، والموت شكلا من المقاومة أو الانهيار. فمن خلال مصطفى سعيد والراوي تتحول الرواية إلى مسرح تأملي يعيد صياغة العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب، بين الذات والآخر، بين الفرد والجماعة، بين الحاضر وقضايا التاريخ والذاكرة.

في هذا المقال سندرس العلاقة بين الذات والآخر باعتبارها من أكثر المسائل تعقيدا في موسم الهجرة إلى الشمال، إذ لا يظهر الآخر فقط في شكله الاستعماري أو الثقافي الغربي، بل يتسلل إلى داخل الذات، يتقنع فيها ويعيد تشكيل ملامحها. الآخر هنا ليس مجرد "عدو خارجي"، بل هو مرآة مشروخة تعكس وجها باطنيا من الأنا فتشكل علاقة ملتبسة، حيث يتداخل المستعمِر بالمستعمَر ويتحول الآخر إلى شبح يسكن الذات. مصطفى سعيد بطل الرواية الغامض هو نموذج لهذه العلاقة المعقدة، فهو تلميذ الغرب وضحيته، مغويه ومنتقمه في آن.

يقول الراوي عن مصطفى سعيد: "وإذ بمصطفى سعيد رغم إرادتي، جزء من عالمي، فكرة في ذهني، طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيله" (ص 47). يجسد هذا القول كيف يتحول الآخر من كيان خارجي إلى جزء من البنية النفسية والثقافية للذات. مصطفى لا يعيش فقط في الذاكرة بل يتلبس الوعي ويتحول إلى صورة مرآوية يعيش بها الراوي انقسامه الداخلي، إذ يشكل مصطفى "الآخر الداخلي" الذي لا يمكن فصله عن الذات، بل يعيد تشكيلها باستمرار.

أما مصطفى سعيد نفسه فقد ولد في قلب اغتراب مبكر يتجلى في حديثه عن علاقته بأمه: "لم يكن لنا أهل. كنا أنا وهي أهلا بعضنا لبعض، كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق، لعلني كنت غريبا أو لعل أمي كانت غربية. لا أدري" (ص 21). يكشف هذا الاقتباس عن انعدام الجذر الوجودي؛ إذ إن الذات منذ بدايتها غريبة، منقطعة عن السياق الطبيعي للحياة، كالعائلة أو الانتماء. وهذا التأسيس الغريب لذاته يفسر انفتاحه غير الواعي على "الآخر" واستعداده للتماهي معه أو محاربته دون أن يكون له مرجع داخلي ثابت.

ويبلغ هذا التداخل بين الذات والآخر دروته حين يقول عن جين موريس: "كل شي حدث قبل لقائي إياها كان إرهاصا، وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذارا، لا لقتلها بل لأكذوبة حياتي" (ص 29). هنا لا تعد جين موريس شخصية فقط بل رمز للغرب وللخديعة الكبرى التي عاشها مصطفى سعيد بانبهاره بالآخر، ثم انكساره أمامه. أما قتله لها فهو محاولة رمزية لقتل الآخر الذي اختزل فيه، لكن القتل يتحول إلى "اعتذار" وكأن الذات لم تعد تملك قرارها، بل تعتذر عن وجودها نفسه.

وتتعمق العلاقة المعقدة بالآخر لحظة محاكمة مصطفى ووقوف والد آن هاند قائلا إنه لا يستطيع أن يجزم إن كان لانتحار ابنته علاقة به، حيث يقول مصطفى سعيد: "ومع ذلك يقف أبوها وسط المحكمة ويقول بصوت هادئ، إنه لا يستطيع أن يجزم، هذا هو العدل وأصول اللعب، كقوانين الحرب والحياد، هذه هي القوة التي تلبس قناع الرحمة" (ص 63). هذا الاقتباس من أكثر المواضع دلالة في الرواية على نقد المؤسسات الغربية التي تمارس السلطة باسم العدالة والحياد. فمصطفى سعيد يعري الخطاب الأخلاقي للغرب ويكشف كيف أن الحياد ليس بريئا، بل هو شكل من أشكال القوة الناعمة. إن السلطة الاستعمارية لا تمارس بالحديد والنار فقط بل تخفي عنفها في قوالب العدالة والإنصاف مما يجعلها أكثر دهاء وفتكا.

وعلى الرغم من أن مفهوم “الآخر” في الرواية يرتبط غالبا بالغرب، فإن النص يقدّم مستويات أخرى للآخر، أهمها الآخر الداخلي: المجتمع، التقاليد، السلطة الأبوية، والأعراف. حيت جاء على لسان حسنة بنت محمود، إحدى أكثر الشخصيات رمزية في الرواية، في لحظة مفصلية تكشف بوضوح توتر العلاقة بين الذات الفردية والآخر الاجتماعي داخل البنية الثقافية السودانية: "إذا أجبروني على الزواج منه فسأقتله وأقتل نفسي" (ص 85) وهذا يفتح نافذة على صراع الذات الأنثوية مع الآخر المحلي الذي يقيد خياراتها.

تعكس صيغة التهديد في الجملة: "سأقتله وأقتل نفسي" وصول الذات إلى أقصى درجات الوعي بذاتها وبحدودها وخياراتها. حيت تظهر بوصفها كيانا حرا، واعيا بأن له إرادة، رافضا للتشييء، ساعيا إلى حماية هويته ورغبته في تقرير مصيره. إنها ذات أنثوية تتمرد على دورها التقليدي كأداة في ترتيب اجتماعي يحدده الرجال، وتعلن استقلالها حتى ولو كان الثمن الموت.

الآخر هنا ليس الآخر الغربي، بل الآخر الداخلي المتمثل في المجتمع المحلي، الأعراف، سلطة الشيوخ والرجال، القيمة الاجتماعية للزواج بوصفه مؤسسة تتحكم في المرأة. هذا الآخر يمارس إكراها على الذات، يريد أن يفرض عليها زواجا لا تريده، أي يريد أن يمحو إرادتها ويعيد إنتاجها ضمن نظام اجتماعي أبوي. ومن ثمّ، يتبدى الآخر هنا بوصفه قوة قمعية تسلب الذات حقها في الاختيار، مما يجعل الصراع بينهما وجوديا.

يتجاوز صراع حسنة مع الآخر حدود التجربة الفردية، ليصبح رمزا لصراع الذات السودانية مع أنظمة القهر، الاستعمار، السلطة التقليدية، وكل قوى التهديد الخارجي. وبهذا يصبح صوتها امتدادا لصوت الرواية نفسها في بحثها عن هوية حرة، غير خاضعة لا لهيمنة الغرب ولا لهيمنة الداخل. إن العلاقة بين الذات والآخر في الرواية -سواء كان الآخر غربيا أو محليا- علاقة مأزومة، تنتهي غالبًا إلى العنف، المحو، الانتحار، أو الغرق (كما في مصير مصطفى سعيد). إنه صراع لا يجد مخرجًا بسبب اختلال ميزان القوة، فيتحول إلى مأساة، هذه العلاقة الملتبسة تفضي إلى سؤال فلسفي وجودي "هل يستطيع الإنسان المستعمَر أن يعرف ذاته دون الرجوع إلى الآخر الذي صاغ ملامحه؟ هل يمكن التحرر من الآخر؟"

***

فاطمة أيت الحاج

 

في المثقف اليوم