قراءات نقدية
عدنان عويّد: مدخل إلى نقد قصيدة النثر. قصيدة "قليلون جداً"

للشاعرة "رنا محمود الفتيان" أنموذجاً
إن قصيدة النثر أو الشعر المنثور هي قطعة نثر، غير موزونة، وتأتي القافية فيها في مناطق مختلفة من الابيات وأحياناً تكون غير مقفاه، تحمل صورًا ومعانٍ شاعريّة، أغلبها يشكل موضوعاً واحداً.
ويمكننا القول أيضاً إنّ قصيدة النثر، هي ذلك الشكل الفنيّ الذي يسعى إلى التخلّص من قيود نظام العروض في الشعر العربيّ، والتحرّر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليديّة، وبناءً على ذلك، فقد عرفّها بعض الأدباء بأنّها عبارة عن نصّ تهجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد والنثر الفني، ويتسم بافتقاره للبنية الصوتيّة ذات التنظيم، إلا أنّ له إيقاعاً داخليّاً منفرداً بعدم انتظامه.
لقد ظهر مصطلح ما يُسمّى بقصيدة النثر، في عام 1954م، وتزامن ذلك مع صدور المجموعة الشعريّة للشاعر الفلسطيني "توفيق صايغ" تحت مسمّى "ثلاثون قصيدة"، وكان روّاد هذه الحركة هم أربعة عشر شاعراً من أبرزهم" محمد الماغوط، وأنسي الحاج، وأدونيس، وتوفيق الصايغ" الذين أصدروا مجلة "شعر".
إلا أن مصطلح قصيدة النثر، راح يتبلور أكثر عام 1960م، وعرف بأنه جنس فني جيء به لاستكشاف القيم الشعريّة الموجودة في لغة النثر، ولغايات إيجاد مناخ مناسب للتعبير عن التجارب والمعاناة التي يواجهها الشاعر، حيث يلجأ إلى تضمين قصيدته صوراً شعريّة عريضة تتسم بالكثافة والشفافيّة معاً، وتكمن أهميتها في حرصها على تعويض انعدام الوزني الموجود في القصائد التقليديّة بالصور والايحاء والاشارة.
ومن أهم خصائص قصيدة النثر، 1- خلوّها من الوزن والقافية. 2- وتحررّها من الأنماط التفكيريّة، وما يرتبط بها من قوانين وأحكام. 3- أي أنّها تكتب وفقاً للفكر الخاص بالشاعر. 4- هذا ويسود السكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع في قصيدة النثر5- وبالتالي إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة. 6- كما يتجلى الغموض في القصيدة وصعوبة الفهم والتفسير بشكل مطلق. وبالتالي هي مفتوحة الدلالات أمام المتلقي، لذلك وصفت بإسفنجيّة البناء والتركيب.
بين يدينا الآن قصيدة نثر للشاعرة " رنا محمود الفتيان" بعنوان (قليلون جداً).
ورنا محمود شاعرة اهتمت في كل دواوينها بقصيدة النثر، وهي روائية وفنانة تشكيليّة وكاتبة مسرحيّة، من سورية، عضو اتحاد الفنانين، مواليد دمشق، تقيم حاليّاً في اللاذقيّة.
صدر لها: عدد من المجموعات الشعريّة" نثر" بعنوان:
1- /صرخة أنثى/.
2- / الأرض بعض ظلي/.
3- / سر نبوأتي/
4- / حين ترسمني القصيدة/ .
5- / الروناليزا/.
6- / ما بعد السر/..
7- رواية : / سقوط الجمرة الأخيرة/.
8- مسرحيّة مونودراما قيد الطباعة/، وأجري معها عشرات اللقاءات والحوارات في سورية والعالم العربي.
البنية الدلاليّة للقصيدة:
إن ما يميز قصيدة النثر في الشعر الحديث، هو أن الشاعر الحداثي يمارس حريته في القول - كما أشرنا عند حديثنا في المدخل - بعيدًا عن أي سلطة خارجيّة تُملي عليه طريقة الكتابة والتعبير، سواء كانت سلطة المجتمع أو الدين أو اللغة أو التراث، لتخرج لنا تجارب ملهمة عبر التجريب الشعري الذي يصنع هويّة جديدة للشعر، حيث تصبح القصيدة مفتوحة على كل الاحتمالات، ومن ثم يصبح الشعر مفتوحًا للمتلقي على التأويل والتفسير والقراءة.
وبناء على ذلك جاءت قصيدة "قليلون جداً" للشاعرة "رنا محمود" مفتوحةً في دلالاتها، رغم أنها تعالج قضيّة اجتماعيّة على درجة عالية من الأهميّة، وهي معاناة الشعب السوري بسبب الحرب الداخليّة والحصار الذين فرضا عليه خلال سنوات طويلة.
سنين طويلة من القهر والحزن والعذاب مر بها الوطن وأهله في سورية، حتى أصبحت معاناتهم سيرة حياة، لم تعد تلق عند من يعرفها ذاك الاهتمام والتعاطف، إلا عند نفر قليل ممن ظلت قلوبهم وعقولهم مشبعة بالهم الوطني والإنساني، وهذا ما شكّل موقف عتابٍ عند الشاعرة اتجاه لتلك الكثرة من الناس غير المبالين باللهم الإنساني ... نعم قليلون هم الذين يستطيعون الوقوف ولو قليلاً ليعرفوا من نحن؟.. وما هي أسباب جروحنا النازفة؟.. وتلك الدمعة الحرّة الراعشة في العين؟.. أو تلك النبضة الموجعة في القلب؟... تقول الشاعرة "رنا"
قليلون جداً...
أولئك الذين يستطيعون
التوغل
إلى أدغال أرواحنا
يقفون على حقيقة
من نكون؟.
ربما يمرون
من تلك الدمعة الراعشة
في العين
والنبضة الموجعة
في القلب.
من يستطيع الوقوف
على آهاتنا
في ذروة جمرها وحرقة
شهدها النازف في
أعماقنا ؟.
لقد أصبح حرف الشاعرة "رنا" جرحاً يسيل دموعاً، ودماءً حارة... أصبح حرف الشاعرة جرحاً تحول إلى وطن، لم تعد حتى طيوره ترغب العيش فيه، وقررت الهجرة بعيداً، شأنها شأن الأيائل التي قررت هي أيضاً الفرار إلى قمم الجبال هرباً من الموت والقتل على الهويّة. تقول "رنا" :
حرفي هو ذا الجرح
الذي يسيل دموعاً
ودماءً حارة
ليصبح وطن الطيور
المهاجرة
والأيائل المنتشرة على
الهضاب.
من يستطيع الوقوف
على آهاتنا
في ذروة جمرها وحرقة
شهدها النازف في
أعماقنا ؟.
قليلون جداً
من يستطيعون النظر
إلى أوجاعنا الحارقة....
نعم قليلون هم أولئك الذين وقفوا معنا في مأساتنا ولم يسقطوا في الجهالة واللامبالاة لما أصابنا. ولهؤلاء تمنح الشاعرة صورتها لكل من شعر بمأساتها.. وها هي قصيدتها الجارحة تهب رنيمها .. مفاتنها، التي تكشفت من شدّة الألم لكل عصفور رفرف بجناحيه فرحاً بأغنيتها الحزينة أو أناشيد نزفها العنيد الذي تحول إلى جسر من الأحزان يقطعه العابرون ليصلوا إلى ضفة الفرح عاشقين صاعدين إلى الحياة. حيث تقول:
أمنح صوتي كل طير
عابر في دمي
هذي أنا
جسر من الأحزان
يقطعه العابرون ليصلوا
إلى ضفة الفرح
عاشقين
صاعدين
إلى الحياة.
البنية الفنيّة في القصيدة:
الصورة في النص الشعري:
بما أن القصيدة النثريّة تنفر من القوالب الشعريّة المحفوظة والمتكررة في الشعر التقليدي، لذلك اعتمدت كثيراً على الصورة الشعريّة بشكل يمنح الأشياءَ طاقاتٍ جماليةً تساهم في نقل التجربة الشعريّة من الوصف السردي المجرد، إلى بناء علاقات مجازية مبتكرة عبر اللغة والتخييل. فالصورة الشعريّة في قصيدة النثر تلعب دورًاً أساسيًّاً في تكوين المعنى والبعد الجمالي في القصيدة، حيث تعتمد قصيدة النثر على الصور الشعريّة المتخيلة لخلق إيحاءات وتأثيرات معينة. ففي قصيدة النثر، تعتمد الصورة الشعريّة على السمات الشعريّة الدلاليّة وليست الصوتيّة، مما يتيح للشاعر استخدام مجموعة متنوعة من الصور البلاغيّة لخلق جو شعري خاص. كما أن الصورة الشعريّة هي التي تعبر عن تجربة الشاعر الداخليّة وعواطفه وأفكاره، مما يتيح للقارئ فهمًا أعمق لموضوع القصيدة، ويشارك في تجربة الشاعر بشكل مباشر، وهذا ما يخلق رابطةً بين الشاعر والقارئ. تقول رنا:
(أولئك الذين يستطيعون التوغل إلى أدغال أرواحنا).. (ربما يمرون من تلك الدمعة الراعشة في العين). (من يستطيع الوقوف على آهاتنا في ذروة جمرها وحرقة شهدها النازف في أعماقنا). (حرفي هو ذا الجرح الذي يسيل دموعاً ودماءً حارة).
إن المتابع للخطاب السردي في القصيدة، يجد أن القصيدة في معظمها قد اتكأت على الصورة بكل أشكالها الحسيّة منها والتخيليّة من جهة، أو في نسيجها البلاغي القائم على التشبيه والاستعارة والكناية والانزياحات اللغويّة، والتعبير المجازي من جهة ثانية.
اللغة في القصيدة:
لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.
التكرار في الشعر:
إن ورود التكرار في النص عند الشاعر يشير إلى محتوى معين يريد إظهاره والتأكيد عليه. فهو الحاح على فكرة هامة من النص الشعري يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك ذو دلالة نفسيّة قيمة، كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم، فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار وخاصة في القصيدة الحديثة، والتكرار هو أحد مفردات الإيقاع بجميع صوره، قد نجده بالقافيّة، أو في تكرا الحرف أو الكلمة أو العبارة أو الصورة، وله دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغيّة الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه داخل بنية النص، كما هو الحال في قصيدة" قليلون جداً)
(قليلون جداً... أولئك الذين يستطيعون التوغل إلى أدغال أرواحنا ويقفون على حقيقة من نكون؟.).( قليلون جداً من يستطيعون النظر إلى أوجاعنا الحارقة.). (قليلون جداً من وقفوا على شجر الورد ولم يسقطوا في الظلال....). هذا مع تكرا الكثير من المفردات التي تعبر عن الألم والقهر مثل ( جمرها – النزف – النازف – الجرح – دموعاً – ودماءً – المهاجرة – الجارحة – نزفي.. الأحزان ... الخ .).
ففي تكرا عبارة قليلون جداً، تحاول الشاعرة "رنا" التأكيد على غياب حس المسؤوليّة والإنسانيّة عند الكثير من الذين يشاهدون مسرحيّة قهر وظلم الشعب السوري. أما في تكرار المفردات التي تحمل دلالات القهر والظلم والدم والجراح.. فتريد الشاعرة التأكيد على عمق المشهد الدموي الذي يعيشه هذا الشعب أيضاً.
الرمز والايحاء والاشارة في القصيدة:
إن توظيف الرمز في القصيدة الحديثة سمة مشتركة بين غالبية الشعراء على مستويات متفاوتة، مع تنوع عمق سيطرة الرمز والايحاء على لغة القصيدة الحديثة وتراكيبها وصورها وبنياتها المختلفة، فالرمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة هو تعميق للمعنى الشعري، ومصدر للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري.
إن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص، هو اعتمادها على الرمز والاشارة وأبنية المجاز. فهي لا تطمح كثيرا على إبراز الوجدانيات والعواطف كثيراً في بنيتها، بقدر ما تطمح إلى التعبير عن نوع من فهم الواقع نفسه. دون إعلاء حالات جدانيّة أو عاطفيّة أو غنائيّة صاخبة. وبذلك عملت الشعريّة في قصيدة النثر على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة. فالرمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة يهدف إلى تعميق المعنى الشعري، وجعله مصدراً للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري ذاته.. تقول الشاعرة "رنا محمود":
(قليلون جداً...أولئك الذين يستطيعون التوغل إلى أدغال أرواحنا ويقفون على حقيقة من نكون؟.).. فهنا نجد ايحاءً يريد القول بأن أكثر الناس لم يعودوا يهتموا بمأساتنا. (من يستطيع الوقوف
على آهاتنا في ذروة جمرها وحرقة شهدها النازف في أعماقنا)... هنا إشارة إيحائية تريد القول: لقد عجز الكثير ممن يتابع مأساتنا أن يقف إلى جانبنا ويساعدنا للخروج منها... (حرفي هو ذا الجرح الذي يسيل دموعاً ودماءً حارة ليصبح وطن الطيور المهاجرة)..
فحرف الشاعرة "رنا محمود" هنا (رمز) يشير إلى أن بلادي التي تعتبر مهد الحرف، ها هم أهلها يتركون البلد ويهاجرون في أصقاع العالم هرباً من الموت والتخلف والجهل...( هذي أنا جسر من الأحزان يقطعه العابرون ليصلوا إلى ضفة الفرح عاشقين صاعدين إلى الحياة.).. ها هنا إشارة مجازيّة تريد الشاعرة أن تقول من خلالها بأن الحزن بكل عمقه لا بد أن ينتهي ويتحول أخيراً إلى جسر يقطعه العابرون المتعبون، ليصلوا إلى ضفة الفرح أخيرا بعد كل ما لاقوه من عناء ومعاناة، وليمارسوا حبهم وعشقهم وهم يضعون أمامهم بناء حياة جديدة خالية من القهر والحروب والجوع والهجرة.
الغموض في القصيدة:
إن ما يميز القصيدة النثريّة هو الغموض، والسبب في ذلك برأيي، هو أن الشاعر يلجأ كثيراً إلى الصورة التخيليّة في التعبير وهذا ما يمنح القصيدة إيقاعاً داخليّاً يعوضها عن الوزن والقافية، وأن التوجه نحو الصورة يوقع الشاعر بالاعتماد على المجاز والتخيل، وهذا التوجه يُفقد كثيراً ارتباط القصيدة بالواقع. من هنا جاء الغموض واضحا في قصيدة "قليلون جداً". إن بنية القصيدة كما بينا عند حيثنا عن الصورة الشعريّة جاءت مشبعة بالصور الحسيّة منها والمجازيّة، وكأن القصيدة لوحة من فن الكولاج، وهو الفن الذي لا يهتم بترابط مكونات اللوحة، بقدر ما يقوم بلصق صور إلى جانب بعضها ليجعل المتلقي يلهث وراء دلالات اللوحة، بالرغم من أنها تشير إلى هدف عام، ولكن يظل المتلقي من خلال ثقافته واهتماماته هو المعني بمعرفة هذا الهدف.
تقول الشاعرة:
إمنح رنيمك
لكل عين
كانت تريق دمعها
على عتبات روحك
ولكل من احتمل نارك
وأنا أغني موالي الحزين
بين شلال دمي
وانطلاق العصافير منه.
هنا يكمن الغموض من تداخل المعاني ولصقها ببعض ولا أقول ترابطها. لقد اختلطت دلالات العين التي تريق دعها... مع عتبات الروح ... واحتمال النار ... وغناء الموال... وشلال الدم.. وانطلاق العصافير.
***
د. عدنان عويّد - كاتب وباحث وناقد من سوريا
.............................
قليلون جداً / رنا محمود
قليلون جداً...
أولئك الذين يستطيعون
التوغل
إلى أدغال أرواحنا
يقفون على حقيقة
من نكون؟.
ربما يمرون
من تلك الدمعة الراعشة
في العين
والنبضة الموجعة
في العقل؟.
من يستطيع الوقوف
على آهاتنا
في ذروة جمرها وحرقة
شهدها النازف في
أعماقنا
قليلون جداً
من يستطيعون النظر
إلى أوجاعنا الحارقة....
حرفي هو ذا الجرح
الذي يسيل دموعاً
ودماءً حارة
ليصبح وطن الطيور
المهاجرة
والأيائل المنتشرة على
الهضاب
قليلون جداً
من وقفوا على شجر
الورد
ولم يسقطوا في الظلال....
إنني اليوم.
أمنح صوتي كل طير
عابر في دمي
فها هي قصيدتي الجارحة
تهب مفاتنها
لكل عصفور
رفرف بجناحيه
فرحا بأغنيتي
بأناشيد نزفي العنيد
إمنح رنيمك
لكل عين
كانت تريق دمعها
على عتبات روحك
ولكل من احتمل نارك
وأنا أغني موالي الحزين
بين شلال دمي
وانطلاق العصافير منه
هذي أنا
جسر من الأحزان
يقطعه العابرون ليصلوا
إلى ضفة الفرح
عاشقين
صاعدين
إلى الحياة.
روناليزا.