قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: إضاءة في رواية (البعوض) لوليم فوكنر

تعدد الأهواء السردية بتعدد الأمزجة الشخوصية
توطئة: تجسد الأحداث في رواية (البعوض) للكاتب الأمريكي وليم فاكنر، ترجمة جمال الدين الرمادي، ذلك النوع من التشكل الوقائعي بفكرة جعلت ترتبط بعنصري الزمان والمكان بصورة قائمة في حدود تركيز الحكي على وقائع ذات ملامح تقترب من حياة الأهواء والأمزجة الفردية، تفردا يجعلها متعددة في أدوارها وتنقلاتها القائمة بطريقة البناء الاستعراضي في الفنون التراجيديا، وهذه الوقائع لربما بدا من جهة عامة متنامية غير أنها من جهة خاصة تبدو غير دالة عن فحوى ركيزة مدلولية معتمدة، فهي بكل الاحوال رواية لا تحظى بأهمية أدب فوكنر الروائي الكبير، بقدر ما تبرز في كونها محض سلوكيات تمثل فئة من الشخصيات الارستقراطية التي تجمعها واقعة مكانية متحركة في فلك ذلك اليخت العائم فوق أمواج ثقيلة وكأنها مياه ملوثة ببقع زيوت أو طبقات من حشرات البعوض افراضا على حد توصيف وسائل ومعادلات السرد المكشوفة والمتشظية في الإقناع والتماسك السردي والفني.
- الخطاب السردي وديمومة الوقائع المتناثرة
يحشد الكاتب في مجموع أحداثه الروائية، جملة من التنوعات الحوارية التي تتسم بالوحدة الزمنية المؤشرة لذاتها ضمن يافطة كل عتبة متنية للنمو السردي، لذا واجهتنا ثمة حوارات لا تقتضي الغاية منها سوى فرض أسلوب الإسهاب في الحوار دون ربط الأحداث بوازعة دﻻلية من شأنها دعم هوية الرؤية السردية في المبنى الروائي.. وﻻ تتوقف انشغالات المساحات الحوارية المقتضبة عن أية وقائع تقودنا نحو فسحة تبئيرية تجذبنا نحو غاية مدلولية ما، فقد وجدنا الوحدات الحوارية تعبر عن مسارات كاشفة من الغو والفضاضة المعتمدة من قبل مستويات الركة في الوعي الشخوصي. أخذت الرواية (البعوض) مسار حركتها من بيئة صراعية في المشاهد التي تتعلق بعملية إبحار المجموعة الشخوصية على ظهر ذلك اليخت. ولكنها جميعها محض حاﻻت ليست بما يمكنه وصفه بالدوافع الحقيقية لمووعة الرواية: وأين هي بالضبط فكرة الرواية ؟ وما الدور الذي تشكله تلك المجموعات المتحاورة في ما بينها رجاﻻ ونساء، إذ لو معنا فيها، لما وجدنا سوى ضخامة هائلة من التهريج والاستعراضية في خضم سياحة جماعية على ظهر ذلك اليخت الذي يشكل بدور الوحدة العولمية للكائن الارستقراطي بكامل علاماته وسماته الأهوائية. فالسارد يضع المتلقي من بداية السرد الحواري وحتى آخر لمحة عابرة في مسار الرواية داخل حدود حجامية نقاشية ﻻ تعكس أية علامة ثقافية على نوع ومظهر الشخصيات، بقدر ما تبرز حاﻻت ضوضائية وضجيجية قائمة ودائرة بين كل طرفين من شخصيات اليخت المتعددة. لعل تزايد عد الشخوص الفجائية في ظهوريتها، جعل من الرواية كمكنون غاكس في نزوات وأمزجة غير مدروسة ومحسوبة. الكلك يتحاور، الكل يضع الأجواء في النص ضمن مقاربة مخصوصة بكونه ذلك الفرد الأكثر جدوى ثقلا في سماته الإدراكية والعقلية، لذا هذا الأمر الذي جعل بدور من كل هوية شخوصية وكأنها منفتحة على دواخل الشخصية الأخرى من ذات الوحدة السردية: (جلس الجميع حول مائدة البريدج وهم يتحدثون ويمرحون وراحت السيدة مورير تتطلع نحو الفضاء أحيانا، والسفينة تشق عباب الماء. / ص٤٤ الرواية) يستهل السارد بضمير الأنا العليم سرده بخطاب أتى أرهاصا للكشف عن أجواء الحكي وعن تلك الدوافع السلوكية والأفعالية التي تقف وراء بعض محفزات عن طبيعة تلك الرحلة البحرية التي هي بحد ذاتها ﻻ تتجاوز البناء التعددي دون انقطاع لتقديم الأوضاع الشخوصية وكأنها ذلك الصرح المتصاعد نحو هدية الحياة الحقيقية. ولكن في الواقع كوننا كقراء للرواية، ﻻ يصادفنا سوى التكرار لبعض من الأحداث وإعادة الهيئات المحورية ضمن فرصة عروضية تحكي هذرا داخل الأحداث. الغريب في أمر أننا ﻻ نواجه ثمة محصلة حقيقية لوجود مكون (البعوض) سوى من ناحية تهكنية خاصة بمؤشرات المعادل التقريبي في مرمزات الوظيفة الروائية.
- تعليق القراءة:
لعل من مظاهر لنا أن رواية (البعوض) قد جاءت كحكاية روائية من دﻻﻻت الخارج الروائي، ذلك لكونها تتطلع نحو ذلك الشكل المتنامي بالأفعال الخاطفة والمبعثرة حيث ليبدأها السارد بتهيئة الحوارات المقتضية، ويستكملها بحاﻻت صورية هامدة في الحكي والشد الموضوعي، ولأجل تسوية اصة للرواية أجدني أقول أن الخطاب السردي في (البعوض) حله في حدود العلاقات والاضطراب الشخوصية الخارجية مع انشطار الوظيفة المركزة للمهمة الموضوعية الجادة. لقد فارقت حبكة الرواية الحوار الداخلي للشخصية واللغة الوصفية العميقة وتقانة أدوات بناء الأحداث بالصورة والأسلوب والشعرية الجمالية الكبيرة، فيما بقيت صور وأحوال مدار حكاية الرواية حالة غارقة بتعدد الأهواء السردية بتكاثر واقع نفسي استعراضي جعلها رواية ذات دﻻﻻت ترتبط بأحساس المؤلف للواقعة الخاصة بمقصديات الذاتية ، دون أن تسجل الرواية ذاتها أدنى صورة فنية بالاحواء التي كان يقصدها المؤلف في عين طاته الفردية. وكأنها صورة رامزة تبحر على ظهر تلك السفينة العائمة وسط أمواج الأهواء والأمزجة الشخوصية الموظفة تهكما في أدوات السرد الروائي.
***
حيدر عبد الرضا