قراءات نقدية

أمجد نجم الزيدي: الرسائل بوصفها سرداً

بين النصوص الأدبية والمراسلات الشخصية

أقيمت خلال مؤتمر السرد الخامس الذي نظمه اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، طاولة نقاشية بعنوان ""الرسائل بوصفها سرداً"، وقد طُرحت فيها الكثير من الآراء، التي احتاجت نقاشا مطولا لما أثارته من اشكاليات، لكن ضيق الوقت لم يتح - لي ولا للحاضرين- فرصة التعقيب عليها، فقد تداخلت في ذهني مجموعة من الأسئلة تتعلق أغلبها بأسئلة جوهرية – كما أعتقد- وهي هل يمكن اعتبار الرسائل شكلا أدبيا، وما مدى قدرتها على بناء نص سردي، وكيفية تعاملها مع الزمن السردي والشخصيات، وما إذا كانت الرسائل تتطلب تأطيرا خاصا يمكن أنْ يميزها عن الأشكال الأخرى للسرد، مثل الرواية والقصة القصيرة، وهل يمكننا اعتبارها سرداً مكتملا بذاته، أم أنَّها تحتفظ بطابعها الذي يحد من إمكانية تحولها إلى شكل أدبي مستقل؟

كنت سابقا من هواة المراسلة، وكانت تصلني في ذلك الوقت الكثير من الرسائل ومن مختلف الأمكنة، حاملة بين طياتها، في بعض الأحيان، حكايات متنوعة، أشبه بقصص متسلسلة، فكل رسالة جديدة تضيف لبنة إلى تلك السردية التي تجمع بين الواقع والمتخيل، ولكن تلك السلسلة لم تكن متواصلة كما في قصة أو رواية تقرأها دفعة واحدة؛ بل كانت تصل بصورة متباعدة، بسبب بطء البريد في ذلك الوقت، أو ربما ضياع بعض الرسائل، ومع كل تأخير تتصاعد حدة الترقب، فيضيف هذا التباعد الزمني لوصولها، عمقا سردياً خاصاً، يتيح لي التأمل في ما قرأته، ويدفعني إلى إعادة تركيب الأحداث وإعادة تفسيرها من جديد، وربما التشكيك فيها في بعض الأحيان.

كانت تلك الرسائل، وإنْ اختلفت في الشكل والمضمون، تقدم لي سرداً متماسكاً، يقربني من تفاصيل حياة أناس بعيدين عني في المكان، لكنهم قريبون في الأثر الذي تتركه كلماتهم، لذلك، وبهذا المعنى، تحولت المراسلات من مجرد وسيلة اتصال إلى عمل سردي حي، يتدفق مع الزمن، ويعيد تشكيل اللحظات والأحداث داخل إطار سردي غير مكتمل، ينتظر أنْ يكتمل بما تحمله الرسالة التالية.

فعلى الرغم من أنَّ الرسائل قد تبدو في ظاهرها وسيلة للتواصل الشخصي أو ربما الرسمي، إلا أنَّها تحمل في طياتها ملامحاً سردية، من حيث بناء الشخصيات، ونقل الأحداث، وتوظيف الزمن، تجعل منها نصوصاً تستحق الدراسة بوصفها نوعاً من السرد، بما تحمله من غنى وتنوع في التعبير، قادرة على تجاوز وظيفتها التواصلية المباشرة، لتصبح عملاً سردياً، فهي ليست مجرد وسيلة لنقل الأفكار والمشاعر، بل فضاء للتأمل، حيث تعكس أحيانا جوانباً من ما يضمره الكاتب، ولعل التفاعل بين الذات الراوية والآخر/ المتلقي، يُضفي عليها طابعا سردياً، حيث ينقل الراوي/ كاتب الرسالة من خلالها تجربته السردية ضمن سياقات زمنية، تتداخل فيها الذاتية مع السرد، عندما يكون الراوي شخصاً حاضراً في الحدث، مما يعطي السرد طابعاً ذاتياً، لتبرز الجانب الشخصي والإنساني، وتصبح وسيطاً لرواية التجربة الإنسانية في صورها المختلفة، وربما يكون الراوي، في بعض الأحيان، محايداً يتخذ دور المراقب أو الناقل.

لكن مع ذلك ليست الرسالة بالضرورة سرداً مكتملاً بالمعنى التقليدي للرواية أو القصة، بمعنى آخر أنَّها تمتلك عناصراً سردية مثل الراوي والمروي له، وهناك تسلسل للأحداث، ووصف، وربما حوار داخلي، لكنها غير ملتزمة بالبناء السردي المتكامل كما في الرواية والقصة القصيرة، من تسلسل للأحداث، والحبكة.. إلى آخره، فهي قد تروي أحداثاً وتصف مشاعر وتفاعلات، لكنها غالبا ما تكون مجزأة وتركز على لحظات محددة أو تفاعلات شخصية، مما يجعلها أقرب إلى نصوص تحمل ملامحاً سردية أكثر من كونها نصوصا سردية متكاملة.

ما يميز الرسائل عن غيرها هو قدرتها على تجاوز الحدود بين الأنواع الأدبية وغير الأدبية، والتي يصطلح عليها في اللغة الإنجليزية (fiction) و(nonfiction)، فهي تحمل في طياتها جوانب من السيرة الذاتية، واليوميات، والمذكرات، وفي الوقت ذاته تحتفظ ببنية سردية قائمة على الحوار الداخلي (المونولوج) والخارجي الموجه للآخرين، هذه الخاصية تجعل من الرسائل نصوصًا مركبة، فالرسالة بوصفها نصًا سردياً تتحدى القوالب التقليدية للسرد، إذ تسهم في تشكيل نصوص سردية دون الحاجة إلى حبكات متماسكة أو تطورات درامية متتابعة.

من أهم الخصائص التي تجعل الرسائل نصوصًا سردية هي طبيعة بنيتها الزمنية، ففي الرسائل، نجد الزمن يتشظى ويعاد تركيبه وفقًا لمنطق التجربة الشخصية، فغالبًا ما يتلاعب الكاتب بالزمن في الرسائل، إذ يعيد ترتيب الأحداث بطرق لا يتبع فيها السرد الخطي، مما يضفي على الرسالة طابعاً تأملياً أشبه بنص سردي يعيد تشكيل الماضي والحاضر في إطار من التدفق الحر، وهذا البعد التأملي يعطي للرسائل دفقاً سردياً لا تتسم بها النصوص الرسمية أو اليومية الأخرى.

يتمثل في الرسائل مزيج من الواقعية والذاتية، حيث تظهر الشخصيات في النصوص الرسائلية بوصفها ملامح للأنا، فالشخصيات في الرسائل غالبًا ما تكون انعكاسًا مباشرًا لشخصية الكاتب نفسه، والتي تعزز البعد الذاتي للسرد الرسائلي، إذ يتركز السرد حول التجربة الداخلية للراوي أكثر من تركيزه على تصوير واقع خارجي متماسك.

ومن أبرز الخصائص السردية في الرسائل هي العلاقة بين الراوي والمروي له، ففي الرسائل، يكون الراوي معروفًا عادةً للمروي له، مما يضفي طابعًا شخصيًا على السرد، هذا التفاعل بين الشخصين يسمح بوجود سرد يتجاوز الإخبار العادي أو العلاقة التواصلية المباشرة، إلى مستويات أعمق من التفاعل النصي، حيث يتداخل الحوار الداخلي والخارجي، ولا يمكن التمييز بينهما، في أكثر الأحيان، والذي يحول الرسالة إلى أداة للتعبير عن الذات وعن الآخرين في آنٍ واحد.

أما على صعيد الأدب، فنجد هناك العديد من الروايات التي تتخذ من الرسائل المتبادلة بين الشخصيات أساسًا لبناء حبكتها، فعلى الرغم من هيمنة نوعها الأدبي، إلا أنَّها تثير تساؤلات عديدة حول طبيعة تلك الرسائل وما إذا كان يمكن اعتبارها رسائل حقيقية أم أنها مجرد أداة أو آلية موظفة ضمن إطار سردي، فالرسائل في هذا النوع من الروايات، رغم كونها تحمل ملامح الرسائل العادية، إلا أنها خاضعة لبنية السرد الروائي؛ فهي مكتملة العناصر من حيث الحبكة، وتسلسل الأحداث، وبناء الشخصيات.

أما الرسائل المتبادلة بين الأدباء والفنانين، كرسائل فرانز كافكا إلى ميلينا أو رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، فهي تمثل نوعًا مميزًا من الكتابة الرسائلية التي يمكن تصنيفها في مساحة وسطى بين الرسائل الشخصية والنصوص الأدبية السردية، فهي تتجاوز وظيفتها التواصلية البسيطة لتصبح نصوصًا أدبية عميقة، تعبر عن هواجس الكتاب وتصوراتهم، وتصور مواقفهم العاطفية والفكرية بأسلوب يجمع بين الشعرية والتأمل، لذا فهذه الرسائل، تشكل نصوصًا أدبية حية يمكن دراستها وتحليلها بوصفها تجارب سردية مكتوبة بلغة الرسائل، فهي أقرب إلى الأدب منها إلى المراسلات التقليدية، إذ نلمس فيها بوضوح النزعة السردية، فهي ليست مجرد وسيلة لنقل المعلومات أو المشاعر، بل هي فضاء لإعادة بناء الذات ولتجسيد تجارب فنية وشخصية عميقة، إذ أنَّها تمزج بين الخيال والواقع، وتتجلى فيها شخصيات كتابها كجزء من النصوص الأدبية ذاتها، مما يجعلها تستحق الدراسة كنماذج تحمل بنية سردية متكاملة، يمكن النظر إليها بوصفها جزءًا من سيرهم الذاتية غير الرسمية، إذ تروي تفاصيل حياتهم الداخلية من خلال حوارات نصية تتسم بالتدفق العاطفي والبعد التأملي الفلسفي، تلك الفروق الدقيقة بين الرسائل في الروايات والرسائل الواقعية تفتح المجال أمام دراسة أوسع لعلاقة الرسائل بالسرد، حيث يمكن اعتبار الأولى نموذجاً للأدب السردي الموجه، بينما تظل الثانية فضاءً مفتوحاً للتعبير الذاتي العفوي، الذي يُظهر ملامح سردية غير مكتملة.

***

أمجد نجم الزيدي

في المثقف اليوم