قراءات نقدية
كوثر بلعابي: الرّوائي والسّيرذاتي بين عاصفتين في "أيّام زمان" لـهادي الرقيق
(محاولة في استجلاء جانب من ملامح الكتابة في رواية الهادي الرقيق)
***
تصدير: (تعال نقيّد قيدنا) هادي الرقيق (أيام زمان ص18)
***
تمهيد: يمثّل تعدد أنماط الكتابة السّردية اليوم ظاهرة لافتة أبرز ما يُحمَد فيها هذا الثراء اللّامتناهي في تحويل التّجارب الحياتيّة الفرديّة والجماعيّة والمكوّنات الثّقافيّة والمعرفيّة إلى تجارب أدبيّة متعدّدة ومتنوّعة ممّا أدّى إلى تناسل أنماط سردية جديدة كلّ حين حتّى باتت أشكال تقاطع أنماط الكتابة في خطاب أدبيّ واحد إبداعات قد تفلت من قبضة الأجناسيّة الأدبية ونجد صعوبة في تصنيفها مثلما سُمّي بالسّرد التّعبيري في الشّعر والجُمل الشّعرية في الخاطرة والرّواية ومثله التقاطع بين الرواية والسّيرة الذي ولّد ما اصطلح على تسميته بالسّيرة الروائيّة وكذلك الرّواية السّيرذاتية التي نسب إليها المؤلّف هادي الرقيق مُنجَزَه " أيّام زمان" .. وحتى نستطيع النّفاذ نحو جانب على الاقل من سمات فنّ الكتابة السّردية في هذا المنجز نحاول تحديد أبرز مقوّمات الكتابة في هذا الصّنف الأدبي.. فإذا كانت السّيرة الذاتيّة حسب ما يستنتج من أديبات " شكري المبخوت " مثلا في " سيرة الغائب سيرة الآتي" تقوم على (سرد الشّخص الذي له قيمة اعتباريّة لوقائع حياته او لجزء منها على سبيل التّثمين والتّرميز أو ربّما على سبيل التّرشيد نمذجة للقدوة والمثل الأعلى..) فإنّ الرّواية هي بشكل عامّ واستنادا إلي ما يمكن استخلاصه من "مقدّمات توفيق بكّار والمساءلات النقديّة لبوراوي عجينة" (سرد لحياة بأسرها سردا فنّيّا يقوم على توظيف الوقائع والشخصيات قياسا إلى رؤيا معيّنة وخلفية ذهنية محورها جملة من الصّراعات والتناقضات متعدّدة الأبعاد تتشكّل حولها تلك الرّؤيا.. لذلك لا مجال في الرواية للوقوف عند نسخ التجربة الحياتية او محاكاتها..)
ومن هنا يجوز التساؤل عن مدى وجاهة هذا الإدغام الذي حصل حديثا بين ما هو روائي وما هو سيرذاتي؟ كما يجوز التساؤل عن ممكنات التّمييز بين السّيرة الرّوائية والرّواية السّيرذاتية؟
فكيف صاغ هادي الرقيق ممكنات التّعالق بين الروائي والسّيرذاتي في" أيّام زمان"؟
التعريف الأوّلي بالرّواية السيرذاتية وصاحبها:
هادي الرقيق: أديب وناقد في مجال السّرديات تونسي من صفاقس أستأذ تعليم ثانوي متحصل على الاستاذية في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب القيروان (1989) والكفاءة في البحث من نفس الكليّة (1991) ثمّ الماجستير من كلية الآداب بصفاقس (2007) وبعدها الدكتوراه حول تطوّر فنّ الأقصوصة في الأدب التونسي (2017).. كأديب يبدو مغرما بالأقصوصة في إبداعه ونقده إذ أصدر مجموعات قصصيّة منها: الوردة التي لا تذبل (2005) وأطبّاء أصحّاء (2011).. وأصدر في نقد الأقصوصة: الأقصوصة: هذا الفنّ المراوغ (2009) وكذلك: صلة الأقصوصة التونسية بالأقصوصة الأوروبية ومسألة النشأة (2019)
أمّا " أيام زمان " فقد أصدرها في 2020 عن دار الاتحاد للنشر والتوزيع.. وهي (كما ذكر المؤلّف على واجهة الغلاف) عبارة عن (رواية سيرذاتيّة) بمعنى ذاك التقاطع بين محوريّة حضور الذات في مقوّمات السّرد داخل منظومة الأحداث مسيّجة بأطرها متداخلة في شبكة العلاقات مع شخصياتها وبين التّوظيف لكلّ ذلك وفق رؤيا فنّية جمالية وذهنيّة في ذات الآن..
حدّد لها المؤلّف منذ واجهة الغلاف وجهة هي التّذكّر عبر العودة إلى الماضي وهو ما أحال عليه العنوان الوارد مركبا إضافيّا يفيد تخصيص محتوى الكتابة بفترة زمنيّة انقضت عبر السّرد المعتمِد على تقنية الاسترجاع أو الاستحضار التي لا ترتّب الأحداث في الكتابة الرّوائيّة عادة ترتيبا تعاقبيّا وإنما تفاضليّا تبعا لرؤيا الكتابة وخلفيّتها.. كما حدّد لها أيضا أديما تونسيّ الجذور والأصالة في علاقة ببطل السيرة وحنينه إلى مرحلة راسخة في حياته هي مرحلة الشباب وبدايات المشوار مع مهنة الشّقاء اللذيذ في بعض القرى وفي علاقة بتونس الوطن وما شهدته القرى والمدن من أحداث ساخنة خاصة في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي ولعلّ مشهد سور القيروان التي زاول فيها المؤلّف مرحلة التعليم العالي وبعض أبوابه العتيقة يوحي بذلك فجاءت مكوّنات واجهة الغلاف في تناغم يتكامل مع محتوى الكتاب الذي صدّره صاحبه بمقدّمة موجزة وضّح خلالها دواعي التأليف (الكتابة نفيا للمسافات في ديار الغربة تصبح ضرورة ملحّة) في علاقة بخوضه تجربة التدريس بسلطنة عُمان في إطار التعاون الفنّي بينها وبين تونس.. وكذلك دواعي الإصدار بعد تردّده (قررت عدم نشره لاعتقادي أنّه تقليديّ رهن نفسه للقواعد الأجناسية الكلاسيكية) ثمّ قراره لاحقا النّشر بعد اقتناعه بكون نصّه يقوم على عودة الحكاية حاملة جوانب حديثة في توظيف أدوات الكتابة السرديّة فضلا عن كون (الشروط الموضوعية التي ألهمته المادّة الأوّليّة لمحتوى الرّواية مازالت نتائجها وتداعياتها قائمة).. وبعد التّصدير يمتدّ نصّ هذه الرّواية السّيرذاتية على عشرين فصلا محكومة بما يسمّيه الدكتور مصطفى الكيلاني بالسّرد الرّوائي الشذري الذي (يقوم على تعدّد مسارات حكاية تلتقي في مسار واحد) لذلك جاءت هذه الفصول غير معنونة وغير مسايرة للأحداث في تسلسلها الخطّي كل فصل منها يبدو وكأنّه مشهد حكائيّ مستقلّ بذاته لولا هذا الحضور الشامل لبطل السّيرة بأناه المتّماهية مع الرّاوي الأوّل والمباشر والعليم الذي هو المؤلّف في الأصل.. ولو لا محورية القرية الجنوبية إطارا مكانيا للأحداث بملامحه ورمزيّته فضلا عن ورودها بين عاصفتين: عاصفة في الفصل الأول مثّلت قادحا للأحداث وعاصفة انغلق عليها الفصل العشرون فاتحةً بذلك الاسترجاعَ على الاستشرافِ كذلك .. وبين العاصفتين سيرة الذّات في سياقها العام الثقافي والاجتماعي والسياسيّ الوطنيّ وحتى الحضاريّ .. فكيف صاغ المؤلّف فصول هذه السيرة كخطاب فنّيّ؟ وماذا حمّلها من محتوى وأبعاد ؟؟
أبرز سمات الخطاب:
خطاب سرديّ متنوّع متعدّد المشارب والمرجعيات يدلّ على سعة اطلاع صاحبه الذي أجاد توظيف التّقاطع بين الرّوائي والسّيرذاتي في منجَزه فجاء مستوعبا كما ينبغي لرؤياه الثقافية الإبداعية في تفاعلها مع رؤياه الوجودية الإجتماعية..
قوام هذا الخطاب أساسا لغة منتقاة بعناية كي تلائم بين طرائق السّرد ومحتوياته: فهي تقسو معجما وتراكيب وصورا في الإنشاء الفنّي للمشاهد العنيفة والدامية وتصوير تداعياتها المأساوية (...مجموعة اندسّت في عرش القتيل وهاجمت مقرّ الشرطة وعاثت في الأوراق تمزيقا وفي الزجاج تهشيما والكراسي والمكاتب تحطيما. وبعد أن استلّ رجال الإسعاف العونين من مقرّ الشرطة أغرقت أشلاء الأشياء بالبنزين وأشعلت النّار فتسلّلت ألسنة اللّهب من الأبواب والشّبابيك محتجّة على أنّ أكل الحطام في الوليمة يفتقد إلى دسامة اللّحم البشريّ _ الفصل 2 ص 13) فتكثيف معجم الموت والنّار والتّشظّي وما جاورهما هو الذي أثث المشهد بغلالة مكثفة من القسوة الضامنة لبلوغ بشاعة الأحداث إلى خلجات القارئ بما يلزم من الإثارة ولاستدراج تفاعله معها.. كما أنّ هذه اللغة راوحت بين الواقعية في نقل تفاصيل بعض الأقوال والأفعال والأحوال باللهجة العامّيّة المهذّبة غير المبتذلة (_ يا جماعة توحّشت الخدمة في الحانوت.. والله كأنّي فارقته لسنوات... _ أ ليس الأجدر أن تقول له انت ذلك في بيتكم _ نشوفك انت أكثر منّو... نهايتو.. السّلام _ الفصل 10 ص 70)
و بين الأدبية الفاخرة الممعنة في البلاغة الى حدّ الاكتساء بنزعة شاعرية رائقة تستلهم في كثير من الأحيان من مآثر موروثنا الأدبيّ: (أزورها خائفا وأودّعها خائفا رغم أنّ سواد اللّيل يشفع لي وضوء الصّبحِ لا يغري بي لأنّي أودّعها قبل الفجر _ الفصل 3 ص 21) وكذلك ما ورد في حوار وجوديّ بينه وبين شخصية المنصف: (اليوم خمر وغدا أمر.. لا يهم.. ستعرفني بمرور الأيّام _ الفصل 11 ص 90).. هذا التوظيف الرشيق لعبارات المتنبي وامرئ القيس ومحمود المسعدي أيضا (إنّي منها كالمقرور يلتمس نارا عليه أن يحافظ على مسافة مناسبة منها لأنّه إن اقترب أكثر احترق وإن ابتعد أكثر لا يلحقه لا يلحقه دفؤها ولا يشمله حدبها _ الفصل 16 ص 114) نجد اشباهه مبثوثة في مختلف فصول الرواية إلى جانب الاقتباس في أحيان أخرى من مَعين النّصّ القرآني وابجدياته (في هذه القرية اللّعينة يلبسون أمام النّاس لباس التّقوى على حسابنا ويريدون أن نصوم على كلّ شيء _ الفصل 10 ص 72..... فتخلّوا عن أفكارهم الهدّامة ليمنّ الله عليهم بالوفاق ويهديهم الى الصّراط المستقيم _ الفصل 11 ص 84)
بهذه السّمات ساهمت اللغة الفاخرة في صياغة كتابة روائيّة تحفظ للعربيّة الفصيحة هيبتها وتضيف إلى البعد الفنّي بعدا معرفيّا ثقافيا يثري زاد القارئ ويغنيه بالمعلومات والمفردات والاستعمالات الكثيرة لهذه اللغة التي أصبحت في عصرنا مستهدفة والبعض يشكّك حتى في قدرتها على مواكبة مُجرَيات ما يشهده من تقدّم حضاري وتكنولوجي وتحمّل تمظهرات الحداثة وهذا من قبيل اندغام الرّسالة الإبداعيّة بالرّسالة التّربويّة في تجربة الهادي الرقيق شأنه في ذلك شأن العديد من الأدباء العاملين في قطاع التّعليم وتحديدا في تدريس اللغة العربية وآدابها .. فالجانب السّيرذاتي في روايته يظهر في بُنَى الخطاب فضلا عن توظيف الأحداث وتكوين الشخصيات والعلاقات بينها وفق تنويعة يتكامل فيها العجائبيّ. مع الواقعيّ التّسجيليّ حتّ يتناسل منه في مواضع عديدة مشحونة بالأبعاد الرّمزيّة منها مثلا: (جسم طائر كأجسام البشر يفرقع بعيدا فوق رؤوسهم فرقعة متقطّعة متدرّجة في القوّة. تبدأ ضعيفة ثمّ تقوى الفرقعة إلى أن ينفجر الجسم من الجنبين.. مع كلّ فرقعة يُضاء الفضاء جزئيّا ويُظلم من جديد بين الفرقعة والفرقعة..... أبهج المشهد أهل القرية وانساهم الأحداث الأخيرة ومخلّفاتها.... سارعت تلك الدّول المتحضّرة جدّا إلى تغطية إعلامية ضخمة تليق بهذا الأسلوب النّبيل في الموت ووعدت بمكافأة القرية مكافأة سخيّة على هذا الاكتشاف.. قالت إنها ترجّح ان تنال قريتنا الجائزة.. - الفصل 14 ص 107) وذلك في إحاطة بوقائع حضور مساعدات منظّمات الإغاثة الدّولية للّاجئين الأفارقة المخيّمين على تخوم القرية التونسيّة في الجنوب وما يخبّئه ذلك من محاذير قادمة وعدم فهم سكانها لحقيقة ما يجري وانشغالهم عنه بالأضواء والفرقعات اللّيلية الآتية من الطائرات وهي تلقى بالمؤن والأغطية على اللّاجئين.. تلك الوقائع التي صاغها المؤلف في مشهد عجائبيّ للانتهاك الخارجي لسيادتنا الوطنيّة المغلّف بالإغاثة الدّوليّة فصوّره في السّماء مشتقّا من مشهد واقعي للقرية وأهلها في الأرض .. و تتكامل في هذه التّنويعة أيضا المعالجة الدّراميّة مع طابع السّخرية المرّة في الإحاطة بمشاكل الواقع وقضاياه من خلال معاناة أهل القرية المنفتحة على معاناة الوطن ..
و إذا أقررنا لـ"أيّام زمان" بمواصفات السيرة فإننا لا يمكن أن نجرّدها من مواصفات الرّواية ليس فقط من خلال ما تبيّنّا من مظاهر التقاطع الفنّي بينهما في مستوى البنية السّرديّة وتوظيف أدوات الكتابة الرّوائيّة إنّما أساسا في مستوى التقاطع بين حضور الذات / الأنا الطّاغي وبين انغماس هذه الذات في مشاكل الواقع وقضاياه حتى ذابت فيها من خلال ما عاشه بطل السيرة في سياق ذاته وواقعه المهني والاجتماعي ليس كنموذج مثاليّ وُظّفت المشاهد والوقائع والمواقف في تلميع صورته بتحيّز إنّما ككائن اجتماعي متحرّك في هذا الواقع متأثّر به سلبيّا وإيجابيّا يعيش نزوات الشباب شأن جيله بشكل مخالف للعرف الاجتماعي ويشرب الخمرة المهرّبة في الأماكن غير المرخّصة قانونيّا واضعا ذاته في غمرة مجتمعه يقاسمه ما استشرى من المظاهر السلبيّة الناجمة عن الجهل والفقر والحيف السياسي وهو ينقل الوقائع المجسّدة لذلك بطريقة السّخرية اللّاذعة في أغلب الأحيان مثل: (تفشّت بفضل ذلك هواية جديدة قديمة لا أحد ينكر أنّها تجمع بين المتعة والفائدة تسلّي وتنشّط الاقتصاد وهي شرب الخمرة في الحوانيت.. ولو سِرتَ في أنهُجِ القريةِ بعد العاشرة شتاء ومنتصف الليل صيفا للمست أنّ الحانوت الذي يبيع صاحبه ويشتري أو يصلح أو يصنع نهارا يستحيل إلى مبغى أو حانة او محلّ قمار ليلا وقد يجمع بين الوظائف الثلاث لتعدّد مواهب مديره وتفانيه في العمل غرضه الأسمى والحقِّ يُقال التّرويح عمّن كلّت نفوسهم .. الفصل 15 ص 111) وبطريقة الدراما المؤثّرة في بعض الأحيان حتى يتهيّأ للقارئ وهو يتابع اعتناء الرّاوي بما يحدث في الواقع المحيط ببطل السيرة أكثر من اعتنائه بشخصه وإنجازاته أنّه إزاء رواية واقعية خاصّة وقد ارتكزت طريقة المؤلّف في إنشاء الشخصيات والعلاقات بينها وبين بطل السّيرة على فتح المجال السّردي على مشاكل الواقع وقضاياه في البلاد التونسيّة لا على حركته في الواقع وفعله فيه ممّا اتاح للمؤلّف تسريب مواقفه تجاه واقعه وتقييمه بطريقة أدبيّة فنّية تستفزّ دون أن توجّه.. فعلاقته مثلا بكلّ من رجاء ونجاة كانت نافذة على واقع المرأة في تونس سواء في تحرّرها المُسقط والمنسوخ عن الغرب (رجاء) أو في وقوعها ضحيّة النظرة الدّونيّة للمرأة الناجمة عن سيطرة العقلية الذكورية في القرى والأرياف.. كما كانت علاقته بكلّ من العلويني والمنصف نافذة على المؤسّسة الأمنية وحقيقة علاقتها بالمواطن والسّجن وما فيهما من مشاكل وتجاوزات (بدأت الأحداث بحرق مركز الأمن في القرية إبّان العاصفة) .. فجاءت المشاهد والأحداث وأفعال الشخصيات وأقوالهم متداخلة مع تأمّلات المؤلف لمعايب واقعه وقضاياه بما فيها العداء بين المواطنين والسّلطة التي تجلّت خاصّة في الإحالات على تحرّكات الطّلّاب والنقابيين وتعامل السلطة معها (قبل تغيّر نظام الحكم بتونس في 2011) بل وكذلك تأملاته الوجوديّة: إذ كتب مثلا (هل الحبّ والرّعب غريمان يتعايشان أم يقوى الحبّ بالإيمان... أم هل القلب خؤون متقلّب لا يثبت على حال؟؟ الفصل 3 ص 22) وأيضا (العواصف لا تهاجم الأشجار والنّباتات في الحقول والغابات ولا تحرّك الكثبان في الصّحاري وحسب.. إنّما تترصّد البشر أيضا هناك في الأركان والمنعطفات تنتظر اللحظة الملائمة للانقضاض على سعادتهم).. وقد كان المؤلف / خلال كلّ ذلك حاضرا بذاته حضورا مباشرا كبطل سيرة ذاتيّة بامتياز على صعيد لغويّ أدّاه ضمير المتكلم المحرّك الأساسي لعمليّة السّرد وعلى صعيد بناء شخصيته في تماه مع الرّاوي (الاستاذ الذي تخرج من الكلية وانتُدِب ليباشر مهنة التّدريس في قرية بالجنوب التونسي) وكبطل روائيّ أيضا بامتياز فينفعل ويتفاعل مع جزء من الحياة في البلاد التونسية بدرجة من الوعي والثقافة سمحت له أن يكون من الناحية الفنّية بمثابة الشّخصية النافذة والنّاقدة المثيرة للاشكاليات دون أن يكون الشخصّية الفذّة التي تصلح ان تكون قدوة إيمانا منه بأنّ المرحلة التاريخيّة الرّاهنة تحتاج إلى مواطن يحسن قيادة نفسه دون الاقتداد أو الانقياد لغيره..
خلاصة القول:
هذه الرّواية السّيرذاتية رغم محوريّة حضور المتكلّم في جميع أطوارها وفي مقومات الخطاب السّردي.. فإنّ الهادي الرقيق لم ينتهج فيها نهج التّعاطف الكلّي ولا حتّى النّسبي مع الذّات كما فعل طه حسين في أيامه أو تمييزها كما فعل جبرا ابراهيم جبرا في شارع الأميرات ولا تبييضها كما فعلت بعض الشخصيات السياسيّة والثقافيّة في عصرنا ممّن بلغ إعجابهم بتجاربهم في الحياة إلى درجة اقتناعهم بضرورة تخليدها .. واكتفى بإبراز سمات ذاته كما هي على علّاتها.. لذلك هي تتقاطع كثيرا مع الرواية الحديثة في منحاها الذي يتشابك فيه التسجيلي مع الإشكالي.. ولعل هذه السّمات هي التي جعلت المؤلف ينسبها إلى الرّواية السيرذاتيّة (و لم ينسبها إلى السّيرة الرّوائيّة التي يمكن اعتبارها بإيجاز سيرة الفرد بفنّيّات الرّواية) بما هي سيرة جيل بأسره يشعر بالغربة عن زمانه لمّا تجاوزته وسائل النقل الحديثة وتكنولوجيات التّواصل مع تجاوزها لمعضلة المسافات المكانية مكرّسة لمعضلة أعمق هي المسافات الزمانية والحضاريّة خاصّة في عصر العولمة التي كتب فيها ذات حوار (_ عمّا تنوين القراءة ؟ _عن كل شيء ولنبدأ بالعولمة.. اريد أن أعرف المثالب والمحاسن من الإنجازات على حدّ سواء...
_ليس فيها غير المثالب.. إنها تحيا من لدغ الآخرين وتشيّد مجدها المزعوم على أنقاضهم.. _ الفصل ص 134)
و بما هي سيرة وطن أنهكه جحود أبنائه وعلى رأسهم المتداولون على المناصب والمسؤوليات مُمعنِين في تلويث أجواء الحياة فيه وتهميش أرجائه النّائية (خاصّة الجنوب)..
و هي سيرة جيل من المربّين تجشّم اوجاح الزلزلات الأولى التي أدّت الى انهيار منظومة التعليم العمومي في تونس بعد مرحلة تعتبر مثمرة من مكاسب المدرسة العموميّة العصريّة التي كانت تتسم بمستوى محترم من الجودة علميّا وبيداغوجيّا على مستوى العالم ..
هي أيضا سيرة المواقف أكثر من كونها سيرة الواقع والوقائع في مرحلة من حياة المؤلف ومن تاريخ تونس التي حضرت مُختزَلة في القرية بمن فيها من نسيج اجتماعي ومن مشاغل ومشاكل.. صاغها المؤلف روائيّا وهو يُوكل إلى نفسه الانخراط فيها ليكون شاهد عيان وجزءً من المشكل وركنًا من القضيّة لا يستثنى نفسه من المسؤوليّة مُحاوِلا المحافظة على موقعه الذي حدّده لنفسه كمؤلّف تونسي في مجال السّرد العربي خلال مرحلة التّجريب من أجل التّحديث متّزنا ومتوازنا ودون أن يرتمي تماما في حضن المدارس الغربية بحثا عن الفخامة او العالمية لذلك جاءت روايته متماهية مع تربتها متجذّرة في أصولها التاريخية والثقافيّة باحثة عن ممكن استباقيّ يستمدّ رؤاه من الماضي ويقيسها على الراهن وينقلها تجاه الآتي وتجاه الكتابة السّردية في علاقتها بالتجربة الحياتيّة وبما جاورها وما حاورها من اوساع الوجود وأنماط الإبداع..
***
كوثر بلعابي – أديبة وناقدة / تونس
.......................
المراجع:
- الهادي الرقيق (أيام زمان)
- د. مصطفى الكيلاني (الأدب التونسي هذه الأعوام)
- أ. جاسم الموسوي (تحوّلات الرّواية العربيّة الحديثة: مجلّة الدراسات العربيّة)