قراءات نقدية

عبد الستار نورعلي: عدنان الصائغ بين (ومضاتـُ... كِ)، و(ومضاتُهُ...)

هدية: وضعَ الصديقُ العزيز الشاعرُ الكبيرُ (عدنان الصائغ) بينَ يديَّ (الطيبتين) – كما نعتهما- ؛ لذوقِهِ الرفيعِ- هديّتَهُ القيِّمةَ، وهي إصدارُهُ الشعريُّ الأخيرُ (ومضاتــُ... كِ) الصادر عن دارِ لندنَ للطباعة والنشر، بالاشتراكِ مع دارِ سطور عام 2024.

فلَهُ الشكرَ منْ قبلُ ومنْ بعدُ، وفائقَ التقدير؛ على هذه الهدية الثمينة، الأغلى والأغنى والأدسم.

***

يتألّفُ ديوان (ومضاتُـ... كِ) للشاعر عدنان الصائغ مِنْ ومضاتٍ شعريةٍ، وكتبٍ، ومقامات، وأبوابٍ، وغيرها، مكتوبةٍ في فتراتٍ، وأماكنَ جغرافيةٍ، ومدنٍ وبلدان مختلفةٍ، وسنواتٍ متباعدةٍ، وبعضُها مِنْ دواوينه السابقة. يجمعُ غالبيتَها الشكلُ (ومضات)، والعناوينُ التي تتكوّنُ مِنْ حروفٍ معتدلةٍ ومقلوبةٍ أحياناً تحتها، وهي الحروفُ التي تبدأ بها الكلمةُ الأولى أو لفظةٌ داخلَ النصّ. كما تتنقّلُ بين مضامينَ متنوعةٍ، منها غزلياتٌ تحملُ في أروقتها معانيَ أبعد من الذاتيات:

ل

لا يريدُ أنْ يُفارقَهما النايُ:

شفتيكِ المضمومتين عليه

أَلهذا يظلُّ يَتَأَوَّدُ

بينهما

ويَئِنُّ

*

ك

كما لو أنَّ تغنُّجاتِ نايِها

وعدٌ

متقطِّعٌ

بقبلةٍ

*

إ

إنْ تضعي

شفتيكِ على شفتيَّ

ستسمعي

ترقرقَ الخمرةِ في جداااااولِ قصائدي ورووووحي

يقووووولُ النايُ

وهناك ومضاتٌ ذاتُ أبعادٍ ودلالاتٍ وإشاراتٍ بعيدةٍ عنْ ظواهر ألفاظها، وما تعبِّرُ عنه وتصوِّرُه في تراكيبها، ومباني تلك الألفاظِ اللغوية. لكنْ إنْ عرفنا مكانَ ولادتها (كتابتها) يمكنْ لنا بتأمُّلٍ واستنطاقٍ للنصّ أنْ نصلَ الى المُبتغَى بالتأويل، والدلالةِ المختفية في ثنايا ردائها:

غ

هبطَ الغبارُ على الغبارِ

فلا غبارَ

على الغبارِ

هنا نستطيع أنْ نُخمِّنَ بما وراءَ رَمْي الشَّاعرِ بسهمِ ومضتِهِ مِنْ نَبْلِ ذِكْرِه لـ(الغبار) وتكراره، إنَّه في معرض الكتاب الدولي- القاهرة ؟! فلْنتخيَّلْ هدفَهُ، ولْندخلْ في مكامنِ التأويل، وعالم الشاعر الفسيح! الغبارُ على الكتبِ إشارةٌ، وترميزٌ عنْ أنّها عالقةٌ في رفوفِها، لم تمسْها يدٌ، ولم يفتحْها أحدٌ مُقلِّباً قارئاً، بمعنى آخر عزوفُ الناس عنِ المطالعةِ والقراءة، وأكثرُ منْ ذلك بيانُ ما آلَ إليه الناسُ في هذا الزمنِ منَ الابتعاد عن العِلْمِ والمعرفةِ وتثقيف الذات، إنّه نقدٌ، وتقديمٌ في إطارٍ فنيٍّ شعريّ لجانبٍ سلبيٍّ في عصرنا؛ لإحداثِ الأثر المطلوب.

كما قسّم الصائغ فصولَ الديوان أيضاً على كتب:

كتاب أُريدكِ

كتاب الجمال

كتاب اللغة

....وهكذا....

كتاب المدن والأسفار

وعدَّدَه على شكل مقامات:

(1)   مقام تأبَّط منفى أمام قبر ابن بطوطة

(2)   مقام Ponte Dei sospiri

The Bridge of Sighs

على جسر التنهدات؛....

صورةٌ للسجين؛ يقلّبُ في الموجِ صَفْحَاتِ  مَنْ سبقوهُ إلى

المِقْصَلَةْ

(3)   مقام مدريد....

(4)   مقام حانة مالمو

وهكذا في مقامات عديدة متواليةٍ...

ثم تأتي توالياتُ الكُتُبِ:

كتاب ثقافة التفاهة

كتاب الطُرُق

كتاب البحر...

وهكدا دواليك من الكتب والمقامات. وتحت بعضها فصولٌ، وومضاتٌ بعناوينَ مِنْ حروف، كما ذكرنا.

وبالعودة الى عنوان الديوان ورَسْمِ كتابتهِ (ومضاتُـ... كِ):

إنَّ عنوانَ أيِّ ديوانٍ، أو قصيدةٍ، أو نصٍّ أدبيٍّ- هو عَتَبَةُ الدخول إلى مَتْنِهِ، ويكونُ نصّاً موازياً للنصٍّ الأساس في البناء –كما يقولون-. وهو تهيئة المتلقي إدراكيّاً ووعياً لِما يحتويه المتنُ قبل وُلوجِه الى داخل أروقته. والعنوان، سواءً أكانَ لفظاً أم تركيباً، أم جملةً، أم علاماتٍ- هو إشارةُ إجلاءٍ (ترميز)، وخطوةٌ مرسومة منَ المؤلفِ، ودلالةُ معنىً، لِما يحتويه مضمونُ النصّ، أو  مضامينُ النصوصِ في المتن.

اسمُ الديوانِ (ومضاتُـ... كِ):- فيه تفكيكٌ لكلمة (ومضاتُكِ)، وهو تفكيكٌ مقصودٌ منَ الشّاعر؛ إنَّه بفكّهِ ارتباطَ (كاف) الخِطَابِ (كِ) الموجّه لأنثى عن (ومضاتُ)، والتفريق بينهما بثلاث نقاط، وهو ترميز وعلامة على كلام محذوف من النصّ. بمعنى أنَّ هناك كلماتٍ سابقةً على كاف الخطاب الموجَّهِ لأنثى؛ بدلالة الكسرةِ تحت الكاف (كِ). وبالتأكيد هذه المُخاطَبَةُ منَ الشاعر هي الحبيبةُ/المعشوقةُ – إنْ كانتْ شخصاً أو طيفاً روحياً صوفيَّ التجلّي والوَجْدِ.  ومِنْ خلال هذه العلاماتِ في الكلمةِ وترميزها السيميائي، ومتنِ الديوان، وما يتناوله الشاعرُ من معانٍ وأغراضٍ وأحداثٍ، يُمكِّننا مِنْ اكتشافِ الكلام المحذوف بين (ومضاتُـ) والكاف: إنَّها الأغراضُ الواردة في النصوص داخل الديوان: التاريخية، السياسية، الدينية، الأحداث الكبرى التي مرَّ بها الوطن، وما مرَّ به الشاعرُ وشاهدَهُ في رحلاتهِ الكثيرة حول العالم، وربطها ذاتياً وجَمْعياً، وفكراً، وفلسفةً، وتاريخاً، وأحداثاً عظيمةَ التأثير والنتائج (القنبلة الذرية على هيروشيما والتي سنأتي على ذكرها نموذجاً لاحقاً)، إضافةً وفي البدء جمالياً. أمّا العِشقِياتُ فقد جعلها في الأخير من خلال رمز كاف الخطاب، مع الإشارة العلاماتيةِ بإبرازه للكاف في العنوان، الى جانب بورتريه الغلاف: صورة فتاةٍ تحمل وردةً حمراءَ في يدها (رمز الحبّ). وهو من رسم الفنانة الإسبانية اميليا دياث باندا. وصورة الغلاف لأيِّ ديوان هي علامةٌ أخرى، وترميز مهم في دلالةِ العنوان، وما يحمله المتنُ مِنْ مضامين.

لكنْ يبقى التساؤل: لماذا ركَّز بالذات على الأنثى (كِ)، فما تقدّم من لفظٍ (ومضاتُ)، إشارةٌ الى أنّ الديوان يحتوى ومضاتٍ شعريّةٍ. بالنظر المُستَكشِفِ الاستقرائيِّ لكلمة (ومضات)، نستطيعُ أنْ نستنبطَ فيها التوريةَ بين معنين: الظاهر والمستتر. ومضة معناها لمعانٌ وبريقٌ خاطف، والمعنى الآخر المُستَخدَمُ شعرياً هو لقطة شعرية خاطفة قصيرة جداً؛ لإثارةِ إحساس القارئ وتذوقهِ وخطفِ اهتمامه، وترك تأثير النصّ في نفسهِ ، مثل بريقٍ يخطفُ الأبصار. وهنا استخدم الشاعر (الصائغ) الماهر التوريةَ بمعنييها: الشعري، واللمعان والبريق البصري، ولذا عمد الى إضافةِ كاف الخطاب بعدَ إبعاده عن (ومضاتـ...)، بمكرٍ فنيٍّ شعريّ، ليقول للقارئ ما يحتويه الديوان من ومضات شعريّة، ثمّ أدخلَ بالإضافةِ كاف المُخاطَبَة، فالديوان مهدىً (لها)، وفي عين الوقت فيه ومضاتٌ تتغزَّلُ بها. والدليلُ هو بورتريه الغلاف: فتاة يلمعُ – بياضاً - ويبرق جسدُها جمالاً وفتنةً وسحراً، وبيدِها وردةُ الحبِّ. إنّها لعبةُ الشاعر الفنيّة؛ لإثارةِ فضول المُتلقّي وإغرائه، ليُبحِرَ بزورقِ ذائقتِهِ في متنِ الديوان، وإنْ كانَ اسمُ (عدنان الصائغ) وحدَهُ  كافياً!

وفي مَتنِ الديوان؛ وأصرُّ على تسميتِه بديوان (تاريخ) الحروف والومضات، والأمكنة، والأزمنة، والشخصيات المذكورة في ثنايا النصوص، والموضوعات (الأغراض الشعرية). إنّه تاريخٌ ذاتيٌّ، جمعيٌّ، تسجيليٌّ، فكريٌّ، روحيٌّ، لغويٌّ، صوفيٌّ، شعريُّ المَبنى والمَعنى والصُوَر، شكلاً ومضموناً؛ ألم يقولوا قديماً بأنَّ الشعرَ ديوانُ العرب! فهذا الديوانُ هو ديوانُ (عدنان الصائغ) بقضِّهِ وقضيضِهِ. يحتاجُ الى دراسات أكاديمية ونقدية متخصصة منهجيةٍ، في كلِّ بابٍ مِنْ أبوابهِ، وفيه من السيميائيات الكثير، يمكن للباحثين استكشافها واستخراجها والإشارة إليها، وهو ما نتوقع حصوله طبعاً وبكلِّ تأكيد. وهذا ما يرمي اليه الناشرُ منْ خلال العمل على أنْ يكونَ في متناول أيدي الباحثين والمتخصّصين في أنحاء العالم كافةً، وعلى الخصوص مراكز الأبحاث العلمية والتوثيقية في بريطانيا. ويكونُ محفوظاً في المكتبات الكبرى والجامعات في بريطانيا، كما ذُكرَ في نهاية الديوان.

إنَّ المضامينَ والأغراض التي دارَ حولها الديوانُ متعددةٌ: بين الغزليات عديدة الدلالات، والروحانيات الشرقية، والنَقْديات السياسية والدينية، والمرور بالأحداث الكبيرة التي مرَّت بالوطن والأمة والعالم. ومما يُمكن الإشارةُ اليهِ نموذجاً ومثالاً مِنْ موقفٍ نقديٍّ فيه حكمةُ الناظرِ المُبصِرِ هي الومضاتُ التالياتُ:

كتاب الحياة

ح

خَبرتنا

الحياةُ وخَبرناها

مثلَ لا عبَين بَرِمَين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يُعيدانِ اللعبةَ نفسَها

في مقهى بلا زبائن ولا أقداح ولا نرود

*

كتاب السياسة

ج

الجماهيرُ العمياءُ

قوةٌ هادرةٌ

يحرِّكُها نصٌّ

لكنْ قد يُسحقُ هذا النصُّ حينَ تمرُّ به الجماهيرُ

*

كتاب الربّ

خ

خرجَ

الإنسانْ

من عصرِ الحَجَرِ الَصوَّانْ

ليدخلَ – جَبْراً أو قَدَرَاً –

بكهوفِ الأديانْ

ولمّا يخرجْ منها للآنْ!

ألِأنَّ الدينَ سباتٌ غيبيٌّ. لا عقلَ. ولا سُؤلَ ولا برهانْ!

*

كتاب التاريخ

ت

التاريخُ؛

عندما لا تقراُهُ بجِدٍّ،

يُعيدُنا إلى سبورتِهِ، بصفعاتٍ أشدّ

*

كتاب الأرض

ل

لم تكنْ مُرَّةً هذهِ الأرضُ

لكنَّ مَنْ

مرُّوا بها

مرَّروها

*

ك

كيفَ

أصدِّقُ!

ربَّاً أو حزباً أو مخلوقاً؛

يأمرُ – [أو يتغاضى أو يرضى]- بالقتلِ!

ذكرنا سابقاً بأنّ هذا الديوانَ هو تاريخُ الشاعرِ، في ترحاله وتجواله وأسفاره في خارطة الشعر الواسعة، وعلى خارطة العالم، ليُسجّلَ لنا شعرياً ما مرَّ به منْ مضاربِ الشعر الداخلية وَحْياً وتحليقاً، ومنْ ترحاله جغرافياً باحثاً مستكشفاً فكراً وفلسفةً وروحاً وحوادثَ؛ لتكوِّنَ تجارِبَ غنيّةً، ألقتْ مرساها في وادي شعرهِ نصوصاً غنيةً بالمعرفةِ والإحساسِ ومعايشةِ المتلقي معه؛ لما اختزنه واكتنزه من روحانيات وتجليات هذه التجارب والأسفار الكثيرة والكنوز الثرية. وهنا لا بدَّ لنا أن نمرَّ على نموذج منها؛ لنغتني نحن أيضاً، ومنْ "كتاب المدن والأسفار" الذي قسّمه الى مقاماتٍ:

(8) مقام اليابان

في

هيروشيما؛

آهْ ...

سقطتْ قنبلةٌ

فتكَرْكَبتِ الأرضُ

وتهدَّلَ

وجهُ اللهْ

ديوان (ومضاتـُ... كِ) للشاعر الكبير عدنان الصائغ محيطٌ؛ في أعماقِهِ الدرُّ كامنٌ، درٌّ بألوان القوس وقزح. بإمكان الغوّاصين المحترفين الماهرين أنْ يصطادوا ما يشاؤون، ويستكشفون، ويرون؛ لتقديمها على طبقٍ برّاق من كؤوسٍ عابقاتٍ بنبيذ شهيٍّ، وثمارٍ من فاكهةِ الشعرِ الدانيةِ قطوفُها، ليقدموها للظامئين الى سَكْرةِ الشعرِ والغيابِ في عالمِه الجميل الحالم.

***

عبد الستار نورعلي - السويد

الأربعاء 25 أيلول/سبتمبر 2024

 

في المثقف اليوم