قراءات نقدية
عفيف قاووق: قراءة في رواية "ذاكرة في الحجر" للكاتبة كوثر الزّين
ذاكرة في الحجر، عنوان لافت ومُعبّر، ذلك أنّ الذاكرة العربية الجمعيّة منها او الفرديّة معظمها في الحجر وهي حُبلى بالذكريات الموجعة نتيجة الممارسات القهرية المعتمدة من قبل أغلب أدوات النظام الرسمي العربي بحق مواطنيه تحت ذرائع مختلفة حينًا ومختلقة أحيانًا أخرى. كان لإطلاق إسم "عربي" على بطل الرواية دلالة عميقة، فهذا العربي يشبه بشكل أو بآخر كل مواطن عربي في بعض محطاته. كما أتت الرواية لتؤرخ الموجة المسماة بالربيع العربي التي عصفت بأغلبية البلدان العربية في العقدين الأخيرين.
تتمحور الرواية حول الحياة التي عاشها "عربي" بكل مراحلها منذ طفولته في كنف والده المثقف المُدمن على إقتناء الكتب وقراءتها والمؤمن بفكرة العروبة إيمان لا حدود له لدرجة يقول في هذا أنّه "ابن الفكرة الشرعيّ، ولست لقيطا على أبوابها. نشأتُ في بيتها وكبرت معها وبها، وصار لا بدّ من ترتيب هذا البيت وتطهيره وتعقيمه. لقد صبرنا كثيرا،وصدّقنا على مضَض أنّ من حقّ الغاية أنّ تُبرّر الوسيلة فإذا بالوسيلة صارت هي الغاية". وأصبحت الفكرة بكامل رحابتها وعظمتها، تتحوّل إلى لباس ضيّق على مقاس نفوس صغيرة".(12). ويستذكر عربي تحذيرات والدته لزوجها من مغبّة ما هو مُقدم عليه فتقول:"لن تنفعك مبادئك ولن تشفع لك. سيفرُمونك فرمًا كما فرموا غيرك. ماذا سيكون مصيرنا لو حلّ المكروه بهذا البيت؟"(12). لكن الزوج لم يرتدع وبقي مصرًا على مواقفه آملاً بتغيير الواقع الشاذ وإعادة فكرة العروبة إلى موقعها الطبيعي ودورها الطليعي لكن كما يقول عربي "العروبة هي التي أودت بأبي إلى مُعتقل حُماتِها، حين تلصّصوا عليه في الحلم فوجدوه يردم الخندق بين الفكرة والتطبيق"(8).
لقد نشأ عربي في كنف والديه ونصائحهما فوالده ينصحه بالقول: " عِشْ أبيّا يا عربي، فالعمر وقفة إباء أو لا يكون، املأ رأسك قبل بطنك، واجعل من وقتك سلّما للصعود، ابتعد عن الثرثرة والفراغ يا ولدي، حتى تقترب من الإنجاز والمعرفة، أما والدته قتلقنه أصول الأمان وراحة البال اللّتين اختصرتهما في عبارتين حاسمتين: "احذر السياسة يا عربي.. السياسة خراب بيوت"(17). هذه النصائح المتناقضة خلقت من عربي شخصية مضطربة إلى جانب نرجسية مفرطة لإيمانه المطلق بفطنته وحنكته وبحجم المعارف التي يكتنزها، لقد امتاز عربي بشيء من الواقعية وحتّى العبثية في بعض المواقف –إذا جاز التعبير- لذا نجده ينأى بنفسه عندما تم اقتياد خطيبته تيماء متسائلاً: "ما الذي كانت ستستفيده تيماء لو اقتادوني معها، والتهموا جُبنتها أمام عينيّ، سوى مزيد من الموت قهرا أو القهر موتا؟ أوليست الحمِيّة والشهامة بغير مَقْدرة غير بطولة زائفة أو سيف من خشب؟(9). لم يكن ليدرك ذلك غير حكيم ذي فراسة مثلي، حتى لو رآني من هم دون حكمتي نذلا (وهنا مظهر من مظتهر نرجسيته). ويردف قائلًا:" سامحيني إن عجزت أن أحميك يا تيمائي.. مازلت مؤمنا بحكمتي التي اقتضت عدم الشجاعة الزائفة، ما دامت المواقف لا ﹸتقاس سوى بنتائجها(55) .
في وصف غير بعيد عن الحقيقة يقول عربي في نقاشاته مع صديقته تالا تلك الفتاة المشبعة بالأفكار اليسارية،منتقدا الشعارات الفارغة التي ترفع تحت مسمى الصالح العام فيقول: هناك أيديولوجيات ومذاهب متصارعة، تدّعي كلها امتلاك الحقيقة كي توّظفها للصالح الخاص، تحت بند الصالح العّام.(24).− ﹸكلٌ يدّعي صواب فكرته حتى شعار( أمّة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة).. لن تَجِدي منه على أرض الواقع سوى العصبيّة القُطريّة والطائفيّة، والشعبويّة والفئوية..التي ما فتأت تتقلص إلى إقطاعيّة عائلية احتكاريّة يتمّ توريثها تحت بند الصالح العام (24).
وفي موضع آخر تبرز لنا الرواية ضعف النفس البشرية التي غالبًا ما تودي بالمبادىء التي تسقط وتنحني لسلطان الرفاه وبحبوحة العيش! فقد فوجىء عربي خلال بحثه لاحقا عن تالا عبر الفايسبوك بأنّ صفحتها شبيهة بصفحات إعلانات للموضة ومظاهر الرفاه سيّارتها الفارهة، حديقتها بمسبحها المستدير! مظاهر ثراء فاحش لشيوعيّة متعصّبة تنحاز للطبقات الكادحة لكن المفاجأة زالت بظهوراسم زوجها وهو سليلٌ لإحدى مافيات الاقتصاد ممّن انتفخت بطونهم بالتُخمة على موائد الجياع. (142).
ويبدو اننا في عصر المفاهيم المقلوبة، والوازرة تزر وزر أختها وليس كما آمنّا، لذا فإن عربي حُمِلَّ وزر أبيه، عندما أوقف من قبل أحد الحواجز، "فأي مهزلة أن يتحوّل اسم أبيك على بطاقة هويّتك، بعد عشرين عاما من غيابه، إلى دليل إدانة كامل ضدّك"(29).
أجادت الكاتبة في وصف الممارسات في اقبية الإعتقال وصورتها كما عاشها الكثيرين من المواطنين العرب الذين أصابتهم هذه اللعنة، ويصف عربي هذا المشهد بالقول: "كلابٌ جائعة لاستفتاح الحفلة ولعقِ عصائر النزيف.. ﹺعِصِيّ غليظة لهشاشة العظام..حبالٌ لتعليق الجلود الممزّقة بالسياط، ودواليبٌ لطيّها.. كلاليب للأظافر، ﹸبصاق وأكفّ غليظة للصحو.. مسامير وسجائر مطفأة للكلام.. أسلاك ﹺمكهرِبة، تجوس بين السُرّة والفخذين لامتحان الرجولة.. صيام للنهارات والليالي، ينتهي بربع رغيف عفن، وطاسة ماء صدئة.. وقتلى بلاجنازة.لكنّني نجوت وهربت (31)..
وتنقلنا الرواية إلى إحدى تداعيات الربيع العربي وإلى أصحاب اللحى الذين سخروا الدين لغايات شخصية وقاموا بأعمال السبيّ والقتل باسم الدين، وكان من بين ضحاياهم الأزيدية جيلان التي وهبها الأمير إلى عربي الذي بفطنته إستطاع نيل ثقة الجماعة لدرجة كُلف في إحدى المرات بخطبة الجمعة، ولتبيان الإنتقائية التي تعتمدها هذه الجماعات وخصوصا في تعاملها مع الدين وأحكامه يورد عربي اعتراض أمير الجماعة عليه لأنه ذكر في خطبة الجمعة الآية 125 من سورة النحل: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(ص46). متمنيا عليه اللجوء إلى آيات أخرى تحث على الجهاد والقتال وليس الحوار والجدال الهادىء.
ينتقل عربي بعد الإستعانة بحيتان التهريب ليصل إلى فرنسا ويخضع للتحقيق حول سبب مجيئه هربًا، وهنا تبرز العنصرية لدى المحقق الفرنسي بعد أن عرف أن اسمه عربي فقال: عربي! ومحترم! هل تدفع الشُبهة عن نفسك أم تؤكّدها(161). لقد ضقنا ذرعا بكم" لكن عربي بسرعة بديهيته يجيب: "سبق وأن ضاقت شعوبنا ذرعا بكُم على امتداد عقود من الاستعمار، لا بأس أن تتحمّلونا قليلا إلى أن تضع حربُنا أوزارها. (85).
وفي فرنسا محطته الأخيرة يلتقي عربي بصديقته "أوود" التي تعمل في إحدى المنظمات الإنسانية وتسمح له بالعيش معها، وفي إشارة ألى إختلاف الثقافات والتقاليد بين الشعوب يقول : "لم أسأل أوود يوما عن سابق علاقاتها مثلما سألتُ ذات يوم تالة عن عذريّة شفتيها ولا منحتُ نفسي قطّ حقّ السؤال. هل تراني سقطت وانحدرت أم ارتفعتُ وارتقيت؟(88). ولأجل إزالة الغشاوة عن الأعين حيث ينظر الجميع الى الغرب وكأنه مهد الحريات والديمقراطية توضح أوود لصديقها عربي الأمر وتقول:" لا تغرنَّك حريّاتنا وديمقراطيّاتنا الغربية كثيرا. هي اسم يفتقر إلى مسمّى حقيقيّ، بدليل أنّنا نؤمن بها داخليّا وننتهكها خارج حدودنا ومع غيرنا وكأنها حقّ محتكَر لنا. لا أنصحك أن تصدّق كثيرا أننا جنّة اﷲ على الأرض، فليس كل ما يلمع ذهبا يا حبيبي 107).
ختاما إن رواية ذاكرة في الحجر مليئة بالإشارات وتسمح بإجراء إسقاطات كثيرة على واقع البلدان العربية كل من منظوره وخصوصيته.وهي بشكل أو بآخر تشكل نوعا من الوثيقة التاريخية لحقبة من الزمن العربي المكلوم.
***
بقلم: عفيف قاووق – لبنان