قراءات نقدية

علي حسين: كاظم سعد الدين ووصية شولوخوف

في الخامس عشر من تشرين الاول عام 1965 وعلى شاطيء بحيرة في كازخستان، وصل خبر الفوز بجائزة نوبل للادب  لرجل قصير القامة، خشن الصوت، ذو عينين زرقاويتين حادتين كان يقضي إجازته في خيمة ومعه حقيبة مليئة بالكتب، يحملها معه أينما يذهب، يعود إليها بين الحين والآخر، إنها رواية الحرب والسلم لتولستوي ودايفيد كوبر فيلد لديكنز، وقصص موباسان ومجموعة أعمال تشيخوف، كان في الستين من عمره لم ينجز سوى كتابين الأول رواية متوسطة الحجم والثاني ملحمة روائية يعنوان " الدون الهادئ " أراد فيها أن يتبع خطى المعلم تولستوي. عندما سُأل ميخائيل شولوخوف عن خبر فوزه بجائزة نوبل ابتسم ابتسامته المعهودة وقال للصحفيين :"من الصعب أن يخرجني هذا الخبر من متعتي اليومية، إعادة قراءة الحرب والسلم، واصطياد السمك والعيش وسط الناس مثل ديكنز.. ولكن هذا لايمنع أن تأتي للانسان ضربتان من ضربات الحظ في يوم واحد، الحصول على جائزة نوبل واصطياد بطة كبيرة".158 ail hosan

ولد ميخائيل ألكساندروفيتش شولوخوف  في 24 أيار عام 1905، كان عمره خمس سنوات عندما توفى تولستوي، بعد ذلك سمع من والدته إنها كانت تشاهد الكاتب الكبير وهو يتجول مع الفلاحين ويمنحهم بركاته، كانت الأم قد تعلمت الكتابة والقراءة من أجل أن تكتب خطابات لابنها عندما سافر للدراسة في موسكو عام 1922، أما أبوه فقد عمل في معظم المهن، فلاح، بياع في دكان صغير، تاجر أبقار، عامل في مطحنة للدقيق، وعندما يصل شولوخوف الى موسكو للدراسة تضطره الظروف أن يعمل حمالاً في المراكب وكاتب حسابات، في العام 1924 ينشر أولى قصصه القصيرة، لكنه يقرر في العام 1925 أن يحذو حذو تولستوي ويكتب ملحمة روائية جديدة: "لتكن بعدة أجزاء.. تتناول الحرب والسلم.. والحب والموت.. والعدل والحقيقة". وتمضي السنوات وهو يكتب في أجزائها، حيث ظهر الجزء الاول منها عام 1928، بينما ظهر الجزء الاخير عام 1940.. هكذا حقق شولوخوف رواية بأربعة أجزاء وبثلاثة آلاف صفحة.بنفس حجم روايته الاثيرة الحرب والسلم.

في الدون الهادئ يروي لنا شولوخوف حياة القوزاقي ميلخوف العائد لقريته من آخر الحروب مع تركيا، وعلاقته بحبيبته اكسينيا وزوجته ناتاليا، واخيه واخته وجيرانه واصدقائه، واعدائه، وزملائه في الحرب والعمل والتمرد، وارتفاع نجم حياته من الارض، الى الحرب والمجد، والتحقق بالحب والانجاب، ثم تردده وسثوطه وفاجعته وانهياره الى ان يصبح طريدا محطما، فقد كل شيء، لم يبق له الا ابنه الصغير وحسه الخلقي المعذب بالاثم والضياع.. انها رواية لايكاد يفلت من اطارها العريض شيء من احداث الموت والبلاد، الحب والحرب. 

يكتب شولوخوف: "في المجال الانساني، القراء بدأو يعقدون مقارنات بين الحرب والسلم والدون الهاديء.. لكنهم لايدرون ان تولستوي غير حياتي منذ ان كنت في الخامسة عشر من عمري حيث عثرت في احدى المكتبات نسخة قديمة من كتاب المعلم تولستوي"..

ومثلما يتذكر القراء ملحمة "الدون الهادئ" واعمال شولوخوف التي وضعته في مصاف كبار كتاب العالم، ستتذكر الثقافة العراقية باعتزاز شديد  المترجم والناقد والباحث الراحل كاظم سعد الدين بموسوعيته التي كانت تتنقل ما بين حقول المعرفة، في سعي طويل وشاق لا يكف عن الكتابة والترجمة طوال اكثر من نصف قرن، كانت فيه الاعمال التي قدمها تقدم نماذج متميزة للقيمة الادبية والفكرية، كان كاظم سغد الدين يتنفس الثقافة، ويراقب اتجاهاتها، ويشعر ان عليه ان يقدم للقارئ نماذج تنحاز الى قيم الانسانية، ولم يكن هناك اقرب اليه من اتجاه الواقعية الاشتراكية بتكوينه الطبقي واحلام كتابه، وكان يعزز في وعيه ضرورة الانتماء الى هذا الاتجاه، فهو يريد كما قال يوما في حوار صحفي ان يقدم " أجمل الكتب  للقارئ"، وقد كان هذا الاختيار يعني نموذج الادب الملتزم بقضايا الناس، ولا شك في ان تنوع ترجماته هو اول ما يلفت انتباه القارئ حيث الانتقال من ادب الاطفال الى التاريخ مرورا بالتراث الشعبي الذي كان ابرز اعلامه وليس انتهاء بكتابه الموسوعي " مشاهير أدباء العالم. ذكريات وحوارات " . في سجل كاظم سعد الدين عشرات الكتب، وفي خزانته التي تركها بعد موته الكثير من الاعمال التي تنتظر ان تمتد لها ايدي الناشرين، وكان من بينها هذا الكتاب " لقاءات مع شولوخوف " المثير للبهجة والمحفز للعقل والوجدان .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم