قراءات نقدية
زكية خيرهم: الصراع بين الهوية والجماعة.. قراءة لرواية "الطلح لا يخطئ القبلة"
للروائي الغلى بوزيد
بوزيد الغلى هو باحث وروائي مغربي متخصص في التراث الحساني، وله بصمة واضحة في الساحة الأدبية الوطنية والعربية. يُعد من أبرز المساهمين في الحفاظ على التراث الشعبي الصحراوي، وذلك من خلال مجموعة من مؤلفاته التي تستعرض ثراء هذا التراث وتنوعه. من بين أبرز أعماله "زاوية أسا: جدل التاريخ والأسطورة"، "دراسات في المأثور الشعبي الحساني"، و"عتبات صحراوية: قراءة في المنجز السردي والأكاديمي بالصحراء". كما أنه نشر العديد من المقالات الأكاديمية في مجلات مرموقة وشارك في فعاليات ثقافية وعلمية داخل المغرب وخارجه.
"الطلح لا يخطئ القبلة" هي رواية تتناول قصة شخصية تمر برحلة فكرية ونفسية، تكشف من خلالها عن هويتها وتخوض تجارب سياسية واجتماعية معقدة. هذه الرواية تقدم سرداً عميقاً لحياة الفرد داخل مجتمع يمزج بين الدين والسياسة، ويعالج قضايا الانتماء والصراع بين الطاعة والتحرر. الرواية تركز على شخصية رئيسية تشعر بالضياع بين ما تؤمن به وما تراه في حياتها الواقعية. بطل الرواية ينتمي إلى تنظيم ديني متشدد، لكنه مع مرور الوقت يبدأ بالتساؤل حول مدى صحة هذا الالتزام الصارم الذي فرضه عليه التنظيم. الرواية تظهر كيف أن مثل هذه الصراعات الداخلية تدفع الشخص لإعادة التفكير في معتقداته وخياراته. من خلال رحلة الراوي في الرواية، نرى معالجة لمسألة الانتماء، حيث يتم تقديم الانتماء إلى الجماعة كنوع من الأمان والمعنى، ولكنه يتحول لاحقاً إلى عبء يقيد حرية الفرد ويحد من قدرته على التفكير بحرية. هذا الصراع هو أحد المحاور الرئيسية في الرواية، حيث يظل الراوي يتردد بين الولاء للجماعة أو السعي نحو التحرر الشخصي واستعادة حريته الفكرية. البعد النفسي لشخصية الراوي يظهر بوضوح في الرواية. هذه الشخصية تبدأ رحلتها كفرد مطيع ومنخرط في التنظيم، لكن مع مرور الزمن يتحول إلى شخص متسائل، ومن ثم متمرد. الرواية تسلط الضوء على الطريقة التي تؤثر بها التنظيمات المغلقة والمتشددة على نفسية الفرد وتفكيره، وكيف أنها قد تدفعه إلى إعادة تقييم حياته واتخاذ قرارات جريئة بالتحرر والانفصال عن تلك الجماعات. في بداية الرواية، يظهر الراوي كشخص تائه يبحث عن اليقين والطمأنينة داخل الجماعة. مع مرور الوقت وتزايد التناقضات بين قناعاته الشخصية وما تمليه عليه الجماعة، يبدأ الراوي بالشك في الطريق الذي اختاره، وهو ما يقوده في النهاية إلى اتخاذ قرار بالتحرر والانفصال عن التنظيم، ليصبح فرداً مستقلاً وقادراً على اتخاذ قراراته بعيداً عن الضغوط الجماعية. في المقابل، تأتي شخصية "أبو النواجر" كأحد الشخصيات القيادية في التنظيم الديني المتشدد. "أبو النواجر" يمثل شخصية قيادية تسعى للسيطرة على أتباعها من خلال الدين، إلا أن الرواية تكشف عن تناقضات جوهرية في هذه الشخصية. فعلى الرغم من ظهوره كمخلص لأفكاره، إلا أنه في المواقف الحاسمة يظهر انتهازية واضحة، حيث يضع مصالحه الشخصية فوق مبادئه التي يروج لها. في نهاية المطاف، تتجلى هشاشته أمام التحديات والمواقف الحقيقية. الرواية تتعامل مع مواضيع حساسة مثل الدين والسياسة، وتوضح كيف يمكن استخدام الدين كوسيلة للسيطرة على الأفراد واستغلالهم من قبل الجماعات المتشددة لتحقيق أهداف سياسية. الجماعة التي ينتمي إليها الراوي تسعى إلى استغلال الدين من أجل فرض سيطرتها، مما يجعل الراوي يشكك في مصداقية أهداف الجماعة. قضية الهوية تمثل أيضاً موضوعاً مركزياً في الرواية، حيث يتصارع الراوي مع ضياع هويته الشخصية بسبب انتمائه إلى الجماعة. الرواية تعالج ببراعة هذا الصراع بين الانتماء والتحرر، وتظهر كيف أن الابتعاد عن القيود الجماعية يفتح الباب لاكتشاف الذات والهوية الشخصية الحقيقية. البنية السردية للرواية تعزز من تجربة القارئ، حيث تميل الرواية إلى الانتقال الزمني التدريجي في سرد أحداثها، مما يسمح بفهم تحولات الراوي الداخلية. يبدأ النص بتقديم الراوي كشخص مؤمن تماماً بما تمليه عليه الجماعة، ثم تتغير تلك القناعة تدريجياً مع مرور الزمن، حتى يصل إلى مرحلة التمرد والاستقلال. الأسلوب الأدبي الذي يستخدمه الكاتب في الرواية يتميز بالعمق والرمزية. بوزيد الغلى يعتمد على لغة غنية بالتأملات الفكرية والفلسفية، وهو ما يجعل القارئ يتفاعل مع التجربة النفسية والروحية التي يخوضها الراوي. النص مليء بالتأملات الداخلية التي تمنح القارئ فرصة لاستكشاف الحالة النفسية للبطل، وكيف يواجه التحديات الداخلية والخارجية.
في النهاية، "الطلح لا يخطئ القبلة" تقدم رحلة عميقة نحو التحرر الشخصي والوعي الذاتي. الرواية تطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول الهوية والدين والسياسة، وتسلط الضوء على أهمية الحرية الفردية في عالم تسيطر عليه الجماعات المتشددة.
***
زكية خيرهم