قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: قراءة في رواية (حلم ماكنة الخياطة) للكاتبة بيانكا بيتسورنو
خفايا الساردة المنقسمة وتمثيلات المؤلف ساردا
توطئة: إذا تأملنا الاحوال والاوضاع السردية في رواية (حلم ماكنة الخياطة) للكاتبة الإيطالية الشهيرة بيانكا بيتسورنو، والتي قامت بترجمتها عن الإيطالية إلى العربية المترجمة وفاء عبد الرءوف البية، لوجدنا ذلك النسيج المتماهي بين حياتي (المؤلفة - الساردة المشاركة) ويبدو أن الكاتبة بيانكا لديها ذلك الوعي المهني بحرفة الخياطة اعتمادا ملحوظا، على الخلفية الثرية والمفعمة بممارسة مهنة الخياطة عن حال الأوضاع القائمة بها الشخصية الساردة في تشكلات السرد وما آلت إليه أوضاع هذه الساردة المشاركة على أن تكون الواصلة التكنيكية بينها وعوالم تلك الطبقات الاجتماعية المفارقة حينا والمخيبة والمتوترة في ذاتها حينا.و تومئ عنوانات الفروع الفصولية في الرواية بالبث التفصيلي الممل والتشويقي عن أخبار وحكايا تلك العوائل المأخوذة بالخوف والقلق والتنازع فيما بينها لأجل الحضور بتلك المظاهر اللائقة من الملبس ودﻻﻻته الازدواجية في حضور مطامح ودوافع تلك الشخصيات حول عالم الومضة والازياء وكيفية كسب الرهان بأقل الكلفة، حتى وإن كان رهانا منتحلا في الحقيقة المشروخة . في الواقع أن رواية (حلم ماكنة الخياطة) من الاعمال الروائية المتكاثرة في تشكلات تفاصيلها وشخوصها المشحونة بالشك والقمع والتسلط بأشكاله القيمية البالية، لذا تتواصل انهيارات بطلة الرواية ومنذ نشأتها الأولى في بيت الجدة مع تواترات اللقطات المشهدية الكبرى والوسطى والاخيرة مع رواد تلك العائلات الأرستقراطية تغلغلا فيها لحد الاشباع والتخمة: (أنا أيضا خياطة متواضعة، أحبك الثياب منذ صباي ... هكذا أخابت بيانكا بيتسورنو مؤلفة هذه الرواية، مرات عدة عندما سألت عن شخصية بطلتها الحقيقية . /ص3 عتبة مقدمة الرواية) من هنا سوف نعلم بأن هناك القاسم المشترك بين (الساردة الشخصية - المؤلفة الساردة) لتجسد لنا الرواية تصورا متطورا بأن المؤلفة تكتب ذاتها عبر فواعل رواية السيرذاتي . واللافت في أمر الرواية، كونها جاءت بومضات متناثرة ذاكراتيا، لتصبح من خلال صوت عجلة ماكنة الخياطة للشخصية الحاكية توليفا بين الإسقاط الذاكراتي والإيحاء بحلم الشخصية الخياطة عبر سفرها الطويل بين جنبات منازل العوائل الأرستقراطية. وأحياناً يكشف خط التوازي بين طرفي (مؤلفة=شخصية) ذلك الامعان في البنية السردية المحكية لكل منهما المؤلفة والشخصية في الآن نفسه.
- جماليات الحكي وتشظيات الأبنية الحكائية:
لعل البنية السردية في رواية (حلم ماكنة الخياطة) عبارة عن حاﻻت مشيدة في التجاور والتوازي والرموز والتزامن والتضمين، لذا بدت أواصر المحكي وكأنها في حالتي (تفكيك - تشظي) لكننا صرنا نعتقد مع مستهلات الزمن الأولي من العرض المسرودي الذاتي للساردة والمؤلفة، بأن هناك حاﻻت تضفيرية بين أزمنة الوحدات والمشاهد واللقطات يدعمها النسيج التعويضي في الربط بين مستويات التألق في لغة الحكي والتوصيف، ويلاحظ تعدد الحوارات والجمل المشحونة بالتوتر والتضاد وخطية الاسلوب الزمني في عرض الظاهر والمخفي من الأحداث السردية .
1- بنية السرد و المسرود الذاتي والعرضي:
أشرت ضمنا أن مؤثرات السرد والمحكي تنهض بموجب جملة انحرافات تكرارية واستطرادات وقفز في الاسترسال والمزج بين (السرد - المسرود الذاتي - المسرود العرضي) بلوغا إلى مرحلة إحصائية الأسماء الشخوصية المتباينة والمختلفة في وحدات السرد: (السيدة أنجلينا فالييلا، مظيفتنا خلال الصيف، والخياطة الوحيدة في ستينتينو، والتي كانت تمتلك ماكينة بالمدوس جميلة للغاية - السيدة أرمينجيل ارجارج وني، المرأة الأكثر ذكاء وابداعا بين من عرفت، التي غابت عن حياتنا منذ عامين، والتي ظلت، حتى بعد أن صارت عمياء وإلى عامها السابع والتسعين، تخيط بماكينتها ذات المدوس ./ص8 الرواية) هذا الأمر ما يفسر تماهي الأزمنة وثبات المكان أي (حلم ماكنة الخياطة) عبر موقعها السيرذاتي في الاختيار ككاتبة وخياطة لأكثر الأحداث والأسماء الشخوصية تجسيدا في رؤية شمولية ورؤية أكثر جلبا لدﻻلة التواريخ المتعددة بتلك السيدات اللائي غبن صامتات أو ممن فقدن ابصارهن في عوالم حكايات زمن وموقعية السرد الذاكراتي أو الاسترجاعي .
2- فعل كينونة التكرار ومراوحة الذات الفاعلة:
لعلنا نقول في صدد (فعل كينونة التكرار) كون حياة حكاية الساردة تتنفس في أعماق وبواطن زمن ماكنة الخياطة، لذا بقيت الذاكرة في (مراوحة الذات الفاعلة) إذ ينطبع من خلال سردها التناظر بين المحكيات المحكومة بمعيار التفصيل وخصيصةالانفتاح نحو استجلاب المتخيل بالواقع الطردي ليؤسس نوعا من الترابط والدﻻلة الناظمة: (جدتي بيينا سيستو التي علمتني التوشية بالخيط الأبيض والألوان، والتي كانت تراني استخدم الإبرة دون إرتداء الكشتبان - كما فعلت دوما وﻻ أزال . تشكوني لأمي متنبئة بأنني سأصبح امرأة صعبة المراس . / ص9 الرواية) ولعل أهم خصيصة في جملة هذه الوحدات، ذلك القول (كما فعلت دوما ولازال) يحدث مثل هذا في مجرى تقليب الزمن المعطى الأخذ في التكر وحتى مرحلة ملازمة مبدأ الدخول الكلي في النسيج تمفصلا بالسرد صعودا إلى مشروطية الفقدان: (لم يتبق غيرنا نحن فقط من العائلة بأكملها بعد وباء الكوليرا الذي أطاح في طريقه، دون تمييز للجنس، بوالدي وأشقائي وشقيقاتي، وكل أبناء جدتي الآخرين وأحفادها - كنت في السابعة عندما بدأت جدتي تعهد لي بأبسط لمسات التشطيب على قطع الثياب . / ص١٢ الرواية) ومن خلال الوقائع الجديدة التي أحدثت تغيرا سرديا في منحى الأحداث، نقول إذا كانت الساردة الشخصية إلى الآن وقد تمت عامها السابع، فمن كان يتولى مهام سرد الرواية؟ حتما هي المؤلفة وقد حلت حلولا محل (المؤلف الضمني) أو السارد العليم، مما ترتب على ذلك النظر في كون وجهة نظر المؤلفة ضمن الحدود المماثلة في تواصلات المواقع السردية المتعددة: (الراوي - المروي له - التجميع - الاقتباس - ذات المؤلف =هيأة مواضعة حاكية) امتدادا نحو تفعيل وحدة الفاعل العاملي ضمن صيغة الخطاب من حاضر واقعة (المبأر - جواني الحكي) فالعلاقة بين المبئر والمبأر في مثل هذه الوحدات المعروضة ﻻ تقف عند حدود المشهد الخارجي للزمن، بل يركز المبئر في تبئيره على دواخل المبأر فيقدمه لنا من الداخل: (عندما لم يتبق سوانا، كنت في الخامسة من عمري وجدتي في الثانية والخمسين .. كانت لا اتزال قوية .. اليوم هكذا راهنت نفسها أنها ستنجح في أعالتنا معا معتمدة على عملها في الخياطة فحسب . /ص١٤ الرواية) .
- تعليق القراءة:
إذا تأملنا إجمالا سير عملية الخطاب السردي والمحكي في رواية (حلم ماكنة الخياطة) وصلنا إلى حقيقة مفادها أن الخطاب السردي يحتوي على معادلتين احدهما تشمل الأخرى ضرورة . إذ يبدا السارد المشارك بتأطير فضاءات الزمن بوصفها الأجزاء والمكونات التي يتم الكشف من خلالها عن مجاﻻت الأحداث والأفضية المكانية، الى أن تصل صيغة الخطاب المسرود صوتا مهيمنا على صيغة الخطاب المعروض الممسرح . في رواية (حلم ماكنة الخياطة) ثمة علامات وإشارات بالغة التوظيف لكل مكون من مكونات الصنعة الروائية، لذا تبقى مساحة المنظور السردي محددة من خلال (خفايا السرد) المشاركة بأختلاف (إظهارية تمثيلات المؤلف ساردا؟) لذا تبدا كل شخصية في الرواية بالتكون والتشكل والستقلال، نظرا لما يتيحه مجال وموقع الساردة المشاركة من حافزية ومضاعفة بتأطير جل الفضاءات الشخوصية، بطريقة تذكرنا بعلاقات التركيز الفضائي الحاصل على خشبة العرض المسرحي، ولكن عملية الظهور في مكونات رواية (حلم ماكنة الخياطة) تحكمها آليات البناء الروائي المحتدم ومنظومة الأفضية الذاكراتية والحاضرية من واصلات الفواعل المتحركة ضمن حركتي السرد والتبئير وإحاﻻت صيغة الخطاب المسرود في رسم الأحداث الروائية وفق رؤية حكائية روائية نادرة، تفسح لكل شخصيات بالظهور على سطح السرد، مظهرا متفاعلا مع جوانب تعدد الأصوات ومعالم الأمكنة والأزمنة تحوﻻ وتدليلا في كشف الاسرار والخفايا عن وجوه وحلم ماكنة الخياطة الأخرى من العلاقات الدﻻلية الناظمة والمنظومة للسرد المركز واللامركز .
***
حيدر عبد الرضا