قراءات نقدية

جودت هوشيار: ستيفان تسفايغ.. نهاية مأساوية لكاتب عظيم

ستيفان تسفايغ أحد أعظم الكتّاب في عصره، وأوسعهم شهرة عالمية، ومؤلف عدد كبير من الروائع الأدبية في الرواية والسيرة الفنية والتاريخ والرحلات. روايات تسفايغ القصيرة تدهش القارئ بطابعها الدرامي، وتأسره بحبكات غير عادية، وتجعله يفكر في تقلبات مصائر البشر، ومدى عجز الانسان الأعزل، وما يمكن أن يرتكبه من أعمال أو جرائم تحت تأثير العاطفة. كانت الشخصية الرئيسية في معظم رواياته امرأة معقدة ورائعة، وكان تصوير تسفايغ لها واقعياً ورائعاً، لدرجة أن العديد من القارئات أحببن رواياته، إلى حد التماهي مع شخصياتها الرئيسية.

عندما تولى هتلر السلطة في ألمانيا، شعر تسفايغ، النمساوي - اليهودي بالمصادفة على حد تعبيره - أنه لن يمر وقت طويل قبل أن يغزو هتلر النمسا أيضًا. وبعد أن شعر بذلك، غادر وطنه وعاش بقية حياته مغترباً، في إنجلترا وأمريكا والبرازيل.

كان يكره الفاشية بشدة، ويرى أن هجومها على البلدان الأوروبية الأخرى هو بداية انهيار الحضارة الغربية. النمساوي بالولادة ورجل الثقافة الألمانية، لم يستطع أن يتصالح مع حقيقة أن الأراضي الألمانية أصبحت تشكل تهديداً لوجود البشرية. ويتألم عندما يرى انهيار الثقافة الأوروبية والقيم الإنسانية.

كان كاتباً إنسانياً مسالماً، لكن النظام الهتلري عَدَّه عدواً، حيث تم حرق كتبه وحظرها رسمياً في ألمانيا. ومنذ عام 1934 رأى الكاتب بوادر اقتراب الأسوأ.فانتقل من سالزبورغ إلى لندن، وحصل على الجنسية البريطانية، ولكنه لم يشعر بالأمان.

مثلث الحب

في إحدى الحفلات التقى تسفايغ بزوجته المستقبلية فريدريكا وينترنيتز. كانت مطلقة، ولم تنجح حياتها الأسرية، ورحل زوجها من أجل امرأة أخرى، وتركها مع ابنتين صغيرتين دون مصدر رزق. كانت فريدريكا تبلغ من العمر 26 عامًا، وتلقت تعليماً جيدا، حيث أكملت دورات في علم النفس وأصول التدريس، وعملت معلمة للغة الألمانية والفرنسية، وكتبت قصصًا جيدة. وقد أحبها تسفايغ بعمق وتزوجها في عام

1920، وعاش معها عشرين سنة في سعادة ووئام. ذات مرة كان تسفايغ وزوجته يتنزهان بالقرب من منزلهما في سالزبورغ عندما صادفا رجلاً عجوزاً متهالكا على ذراع فتاة صغيرة كانت تسنده بعناية، وتمهد الطريق له.

" كم هي الشيخوخة مثيرة للاشمئزاز! - قال ستيفان بعد ذلك. لا أريد أن أعيش لرؤيتها. ماذا لو لم تكن هناك حفيدة بجانب هذا الخراب، بل امرأة شابة. هل تذكرين ما جاء في التوراة عن الملك داود؟ وصفة الشباب الأبدي تبقى هي نفسها في كل العصور. لا يمكن لرجل عجوز أن يستعيرها إلا من امرأة شابة تحبه". ستتذكر فريدريكا لاحقًا بمرارة ما قاله ستيفان، رغم أنها لم تعلق عليه أهمية كبيرة في تلك اللحظة.

هل كان من الممكن أن تظن فريدريكا أن السكرتيرة التي أحضرتها إلى المنزل لمساعدة زوجها في طباعة أعماله ستصبح أمله الذي طال انتظاره لاستعادة شبابه؟.

لم تكن فريدريكا تتخيل أن شارلوت ألتمان، وهي فتاة منحنية ونحيفة وشاحبة البشرة، يمكن أن تشكل تهديدًا لسعادة أسرتها. كانت الفتاة تبحث عن عمل من خلال لجنة اللاجئين، فأخذتها فريدريكا بدافع الشفقة. لم يكن لدى شارلوت المسكينة، البالغة من العمر ستة وعشرين عاماً، سوى ميزة واحدة مقارنة بفريدريكا: الشباب. في مرحلة ما، اكتشفت السيدة تسفايغ أنها موجودة داخل مثلث الحب. علاوة على ذلك، أخبرتها شارلوت نفسها عن هذا في رسالة، وتوسلت أن تسامحها – لأن ذلك كان مجرد حادث. وعلمت فريدريكا أن زوجها كان له رأي مختلف، عندما اقترحت تسريح السكرتيرة. قال ستيفان إن الفتاة كانت "مثل معجزة" بالنسبة إليه. استمرت هذه الحياة الغريبة ثلاث سنوات - قبلت فريدريكا على مضض شروط اللعبة.

لكن ذات يوم، عندما عادت إلى المنزل، رأت شظايا إناء مكسور ووجه زوجها المرتبك. قال إن شارلوت تسببت في فضيحة، وكانت على وشك القفز من النافذة. وطلب من فريدريكا الطلاق. كان ذلك بمثابة صفعة على وجهها، لكن ماذا يمكنها أن تفعل؟ تم التوقيع على الوثائق، لكن ستيفان أدرك على الفور تقريبا الخطأ الفادح الذي ارتكبه. وتوسل إلى فريدريكا أن ترسل برقية إلى المحامي بإسميهما يطلبان فيه وقف إجراءات الطلاق. تم إرسال البرقية، ولكن من المفارقات أن المحامي كان في إجازة. وتم طلاقهما رسمياً في عام 1938، ولكن فريدريكا كانت تتلقى كل يومين رسالة من ستيفان: «عزيزتي فريتزي!.. ليس في قلبي سوى الحزن من هذا الانفصال، الخارجي فقط، وهو ليس انفصالًا داخليًا على الإطلاق.. أعلم أنك ستكونين حزينة بدوني»... لكن ليس لديك الكثير لتخسريه. فقد أصبحت مختلفًا، تعبت من الناس، ولا يسعدني إلا العمل. إن أفضل الأوقات قد ولت بلا رجعة، وقد عشنا خلالها معًا...أتوسل إليك أن تحافظي على اسمك العائلي – تسفايغ".

في عام 1940، بعد إندلاع الحرب العالمية الثانية، هاجر الكاتب إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع زوجته الشابة شارلوت. لكنه ساعد زوجته السابقة وابنتيها من زواجها الأول على القدوم إلى هناك، والتقى بها، بل وأراد الذهاب في إجازة معًا. لم تكن روحه تعرف السلام، ولم يكن يستقر على حال. كان عيد ميلاده الستين يقترب. "ستون - أعتقد أن ذلك سيكون كافياً. العالم الذي نعيش فيه لا رجعة فيه. ولن نتمكن بعد الآن من التأثير على ما سيأتي. كلمتنا لن تُفهم بأي لغة. ما الفائدة من العيش مثل ظلك؟" وينقل يوهام ماس عن شارلوت قولها: “إنه ليس في حالة جيدة. أنا خائفة".

ولسوء الحظ، لم تتمكن السكرتيرة المسكينة من تحقيق معجزة إعادة الشباب لزوجها المسن. كتب تسفايغ في إحدى رسائله إلى فريدريكا: “لا يمكن خداع القدر؛ لقد انتهى الأمر، ولم أعد عاشقًا". واعترف في الرسالة التالية: "كل أفكاري معك".

كان الملاذ الأخير لتسفايغ هو بلدة پتروپولیس على مشارف مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل، التي أهدى لها أحد كتبه - "البرازيل - بلد المستقبل". واعترف بأن الحياة هنا مريحة، والناس ودودون للغاية.. ومع ذلك، في الوقت نفسه، شعر وكأنه منفي لن يرى وطنه مرة أخرى.

كان هو وشارلوت يجلسان في الأمسيات على الشرفة، ويراقبان الغسق وهو يتعمق تحت النهر، ويسمعان أصوات الآخرين القادمة من المنازل المجاورة،. وأصوات الراديو البعيدة، وصرير الكراسي الخشبية الهزازة، وأحاديث لا نهاية لها بلغة أجنبية غير مفهومة، تخلق شعوراً بوجود ستار لا يمكن اختراقه يفصلهما عن الحياة العادية والطبيعية.

كان تسفايغ يتقن اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية، لكنه لم يحاول تعلم اللغة البرتغالية، فقد كان مشغولا للغاية طوال الوقت - عقود مع دور النشر، والكتب الجديدة، والطلاق المؤلم من زوجته فريدريكا، والأهم من ذلك - اقتراب الطاعون النازي، الذي حرمه من منزله ووطنه ومستقبله.

قضى تسفايغ لأشهر الأخيرة من حياته في حالة اكتئاب عميق. كان يشعر بالوحدة، ولم يجد من يتحدث معه، وغاب عن المناسبات والأحداث الثقافية. ومقارنة بالفخامة التي اعتاد عليها في الفيلا الخاصة به في سالزبورغ، بدا المنزل الصغير المستأجر في پتروپولیس متواضعا لا يليق بمقامه. كان الأثاث بسيطاً، وكان كل استحمام يتطلب تسخين الماء بصعوبة كبيرة، بالإضافة إلى ذلك، بحلول عام 1942، اضطر إلى خلع جميع أسنانه.

قبل وقت قصير من انتحاره، كتب تسفايغ: "أريد أن أقوم بواجبي الأخير- أن أشكر بصدق هذا البلد الرائع، البرازيل، الذي رحب بي ترحيباً حاراً ووفر لي الظروف الجيدة لعملي. كل يوم أتعلم المزيد والمزيد. إنني أحب هذا البلد، ولم يكن بإمكاني في أي مكان آخر إعادة بناء حياتي بالكامل بعد أن فقدت عالم لغتي، ودمرت أوروبا - موطني الروحي - نفسها بنفسها؟.

:" الرعب الذي تسببه لي الأحداث الجارية يزداد إلى ما لا نهاية. نحن الآن على حافة حرب ستبدأ حقًا بتدخل آخر القوى المحايدة، وبعدها ستأتي سنوات ما بعد الحرب الفوضوية... ويتبادر الى ذهني أنه لن يكون هناك لي منزل، أو مأوى، أو ناشر، و لم يعد بإمكاني مساعدة أي من أصدقائي بعد الآن. كنت أقول لنفسي دائمًا: اصمد طوال الحرب، ثم ابدأ من جديد... هذه الحرب تدمر كل ما أنشأه الجيل السابق".

 لم ير تسفايغ مكانه في عالم المستقبل. وهكذا، فإن قرار إنهاء الوجود البغيض نضج تدريجيا، يوما بعد يوم. عندما رأت شارلوت معاناة زوجها، حاولت التخفيف عنه، ولكن دون جدوى.

نهاية مأساوية

في 22 فبراير 1942، كتب ستيفان وشارلوت 13 رسالة إلى الأصدقاء، بما في ذلك رسالة ستيفان الى زوجته الأولى فريدريكا التي يقول فيها:" لقد سئمت من كل شيء". لم تترك شارلوت حبيبها، وأخذت معه جرعة قاتلة من الباربيتورات. عندما دخل خدم المنزل غرفة النوم لتأخرهما بالاستيقاظ المعتاد، وجدوا الكاتب و وزوجته قد فارقا الحياة في عناق أبدي ودون إثارة ضجة. وكانت هناك رسائل وداع على الطاولة.

قالت شارلوت في رسالتها الوداعية : " إن الموت سيكون تحريراً لستيفان، ولي أيضا، لأنني تعذبت بسبب نوبات الربو ". وكتب ستيفان :"بعد الستين، هناك حاجة إلى قوة خاصة لبدء الحياة من جديد. لقد استنفدت قوتي بسبب سنوات التشرد بعيدًا عن وطني. بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أنه من الأفضل الآن، ورؤوسنا مرفوعة، أن نضع حداً لوجود كان فرحه الرئيسي هو العمل الفكري، وقيمته العليا الحرية الشخصية. أحيي جميع أصدقائي. دعهم يرون الفجر بعد ليل طويل! "لكنني غير صبور جدًا وأغادر قبلهم.

في اليوم التالي تصدر خبر انتحارهما الصفحات الأولى لكبريات الصحف العالمية. وتحت الخبر المحزن صورة الزوجين المتوفين. كان وجه تسفايغ في صورته الأخيرة مسالمًا. وضعت شارلوت رأسها على كتف زوجها وأخذت يده في يدها بحنان. دفن ستيفان وشارلوت تسفايغ في المقر الصيفي السابق للأباطرة البرازيليين في بتروبوليس.

في عام 1942، لم يكن من الممكن أن يظل هذا الخبر مثار ضجة كبيرة لفترة طويلة، في ذروة الحرب العالمية التي كانت مستعرة في أوروبا والشرق الأقصى. أثار سلوك تسفايغ الدهشة في الأوساط الأدبية.

يبدو للوهلة الأولى أنه لم يكن لدى تسفايغ أي أسباب واضحة للانتحار. لا أزمة إبداعية، ولا صعوبات مالية، ولا مرض قاتل، ولا مشاكل في حياته الشخصية. ووفقا لمعايير ذلك الوقت، كان يعتبر رجلا ثرياً جداً.

صدمت الأوساط الثقافية في العالم بالخبر المفجع وطرح العديد من التأويلات المختلفة الحافلة بالتكهنات والاستنتاجات النفسية حول أسباب الإنتحار: ربما سئم من التشرد والبحث عن وطن جديد. كانت البرازيل ملاذاً مريحاً، إلا أن الكاتب كان يتوق إلى موطنه النمسا.

. وقال توماس مان، وهو كاتب ألماني عظيم آخر في المنفى، بأنه "هروب من مصير المهاجرين المشترك بيننا جميعًا وانتصار للطبقة الحاكمة في ألمانيا، التي تم التأكيد على "براعتها" المثيرة للاشمئزاز من خلال ضحية بارزة بشكل خاص". ومع ذلك، بعد مرور عشر سنوات، اعترف مان بأنه بدأ يفهم تسفايغ، الذي لم يكن يريد ولا يستطيع أن يعيش في عالم مليء بالكراهية والمصائب والحواجز العدائية والخوف الذي لا يرحم الذي أحاط به.

وربما كان التفسير الذي قدمه إريك ماريا ريمارك هو الأقرب الى الحقيقة:

" الأشخاص الذين ليس لديهم جذور، غير مستقرين للغاية، وتلعب المصادفة دوراً حاسماً في حياتهم. لو تمكن تسفايغ وزوجته في المساء الذي انتحرا فيه في البرازيل، من التعبير عن حزنهما لشخص ما، على الأقل عبر الهاتف، فربما لم تحدث هذه الكارثة. "لكن تسفايغ وجد نفسه في أرض أجنبية بين الغرباء ".

***

د. جودت هوشيار

في المثقف اليوم