قراءات نقدية
محمد حسين الداغستاني: إيماءات الصورة الشعرية في نصوص الشاعرة عالية ميرزا
يرى الكثير من النقاد بأن الصورة الشعرية في النصوص واحدة من المعايير التي يُحكم بها على أصالة التجربة الشعرية، وعنصر من عناصر الإبداع في الشعر وتضفي على القصيدة او النص بُعدا جماليا وطاقة ايحائية تعبّر عن تجربة الشاعر واحتدام مشاعره السيكولوجية والتي يعكسها باستخدام الإنزياح الاسلوبي لضمان تفاعل المتلقي مع تاويلات نصه من خلال التفسير والكناية والمجاز واستخدامات زمن الفعل …. إلخ، في مسعى لتوظيف الصورة الشعرية التي تتباين من شاعرٍ الى آخر، بل هي التي تؤطر بُنية القصيدة بكاملها وتستعين بإيقاعها الداخلي للتأكيد على مهارته وموهبته وبراعته الشعرية .
أسوق هذه المقدمة لكي أبدأ بها قراءتي لنصوص المجموعة الشعرية للشاعرة عالية ميرزا الموسومة (68 شهوة بيضاء) والتي تضم ثمانيةً وستون مقطعاً تشكل بمجملها كتلاً مرصوفة من الصور المستلهمة من خيالها ببراعة مدهشة وقدرة اخاذة ممزوجة بفيض من الجرأة والوضوح فضلاً عن تحميل الكلمة بالدلالات والمعاني الى أقصى مداياتها المتاحة . وبفعل البيئة الفكرية والاجتماعية التي عاشتها الشاعرة في المهجر فإنها اكسبتها مساحة واسعة من الانفتاح والانعتاق من الكوابح والقيود الاجتماعية التي أثرّت تجربتها خلافا للسائد في مجتمعاتنا الشرقية التي تتسم أغلب نتاجات العنصر النسوي فيها بالتورية والرمزية والانكفاء على الذات:
في المرة القادمة عندما نلتقي
اعلمك ثقافة إهداء الزهور الصباحية
واقود اصابعك لتكتشف كالاعمى
خريطة جسدي بحواسك الاخرى
لتصل الى عوالم لم يطأها قبلك أحد !
وتجوس عالية في تقنيات اللغة الشعرية وتركن الى التشبيه التي هي من أقدم الوسائل الفنّيّة في بناء الصورة الشعريّة وتحديد أبعادها، فتهرب من الذاكرة وتحيل الوقت الى سائل، وتجعل من الضوء كائناً ذي حركة بل وتحيل الانتظار الى جمرة من النار لتمزج هذه التشابيه في مقطع يموج بالحركة ويمور بالحيوية:
أُراوغ ذاكرتي كي لا أنهمك فيها
فينساب الوقت ويتبع ضوء
مُرتد للفضاء
أطارد ظلك الموشح بهالة
الشبق المنفلت من روح إلهٍ تمرد
وتنازل عن عرش إلوهيته
ليتذوق لسعة جمر الانتظار.
من الواضح إتكاء الشاعرة التام على الفعل المضارع في نصوص المجموعة في تكوين الصّورة الشعريّة التي تُعدّ الرّكن الأساس في البناء الشعريّ لتوظيف الإمكانات الزمنيّة له في السياقات التركيبيّة للبنية اللغوية للمجموعة من منطلق قناعتها بأن هذا الفعل الأثير ليس لديها فحسب بل ولدى جمهرة واسعة من الشعراء لإضفاء سمة الاستمرار والتجدد على النص والتعبير الدقيق عن مكنونات الشاعر نفسه في زمنه الحاضر في منحى لمزج ذات الشاعر مع المتلقي بحيث يكوّنان معا نسيجاً مشتركاً من المعاناة والمكابدة او الفرح والحب الغامر مثل (أعلمك، أقود، أستعير، أحملها، أعبر بها، أخبئها، ألتقط، أصونها...) وحشد كبير من مثيلاتها في جلّ النصوص:
من الشمس أستعير
حفنة دفء
وخصلة من جديلتها
أحملها في حنايا الروح
كذكرى الوطن عند الغريب
اعبر بها الحدود نحو المحال
أخبئها تحت جلدي
أخبئها ... في الجانب الأيسر من صدري
ألتقط أحلامي التي ارتكبتها خلسة
أصونها من فم العتمة !
لكن غربة الروح ومكابداتها لا تحول دون خلق مساحات شاسعة من الرقة والرومانسية في نصوص المجموعة فترتقي عالية بأدواتها التصويرية ولغتها الدافئة نحو الركون الى أعماق القلب، وتتجاوز الصيغ السطحية المبتذلة فتحيل كلمة (أحبك) الى طاقة حسية تنبض بالمناجاة والتعاطف والرجاء، بل إن سحر هذه الكلمة قادرعلى ان يخوض مديات التجربة ويغير من طبيعة الموجودات المادية من حولها:
حين أقولُ أحبك
تلبس الكلمة حلتها
لتهرب من شفتي
وتسكن زاوية بعيدة من قلبي
أنتشل نفسي
أتلاشى فيك
فيغير النهر مجراه
تسبقني الصفصافة
لتقف أمامي وتلفني بظلها
فأهمس باسمك !
وتمضي عالية في سعيها المحموم للتشبث بالأرض التي لا تشعر بالإنتماء إليها هناك في المهجر، فتقع في حيرة الاختيار بين الريح المنسلة من بين أناملها وبين ذرات الرمل التي تتحايل عليها لتحشرها في محبس الزمن لكن وجع الانتظار يلسعها وهي تترقب إنقضاء فوضى الحبيب للعودة الى دفء السكون، وهي تستعين بلغة صافية وموحية ترسم عبرها صورة شعرية لتحافظ على إصرارها الذي لا يلين:
أتشبث بذيل الريح
ناسية أصابعي
وهي تطارد ذرات الرمل
أضعها عنوة في قنينة الوقت
لتطفو فوق الغيم
أترقب طيفك المنفلت من قبضة
فوضاك المتمردة
أغريه بخصر ساعة الرمل
ليستكين .
ورغم قدرة الشاعرة على التعبير عن مكنونها الداخلي بإستخدام تقنيات الصورة الشعرية بإقتدار واضح، إلا ان بعض نصوص المجموعة تلكأت في اللحاق ببراعتها وعانت من تكرار المرادفات التي أضعفت مقاصدها رغم محاولتها إستلهام بعض الوقائع المحورية كمحنة الخروج من الجنة فعادت في العديد من نصوصها الى مرادفات المطاردة والزمن والاستكانة والظل والرمل والفوضى وغيرها، بل والإحساس بالتوتر نتيجة ترويض جموحها وتعاملها مع الحدث الآني بفوقية بينّة:
لا هدنة مع الوجع
أتكور في جحرٍ
أدخل في سبات الأفعى
أطارد غفلة أمواج البحر
بين المد والجزر
أصطاد الوهلة
من غفوة الزمن
لأروض اللبوة في صدري
كشرنقة منسية
ألف ظلاً حول ظلي
لتستكين على ورقة توت
هاربة من الجنة.
ولأنها تتجرع جائحات الغربة عن الوطن والأحبة بوجع ظاهر، فهي مع تأكيد الحاجة الى التلفع بأعباء التعبير الصوري تتناول معاناتها وتوقها الى حضن الوطن البعيد بأسلوب سردي مباشر ا لم يؤثر سلباً على ميزة المجموعة التي حفلت بالصور الشعرية الشفافة التي هي من أبرز سماتها:
في المكان نفسه
أجلس على طاولتي المنزوية
في الركن للمرة بعد الألف
أنتظر بعضاً من الشمس
الهاربة من بوابة الشرق
لعلها تحمل ومضة دفء
بين خصلات جديلتها
لتذيب صقيع الشمال
أمسك الزمن من عنقه
ليكف عن التثاؤب والهذيان
ثم أطوي وحدتي في كتابي
وأمضي ...
وفي خضم جحيم الانتظار واللوعة لا تزال عالية تتمسك بأملها الضائع بين الشظايا والمدن الأفلة خلف الضباب والريح المجنونة والموج الصاخب والانتظار الممض ليأتي الغائب الحاضر ويأخذها خلف المسافات أو على متن غيمة مطيرة تحمل معها مفاتيح الرجاء والرخاء معاً:
خذني غيمة شاردة
لسماء قلبك
أو قبضة قمح
زادا لمواسم القحط
وشحة الشجون .
وهكذا فإنها أسرفت في إعتمادها التشابيه الاستعاريّة كما في النصوص المماثلة في المجموعة، لتعيد إلى التشبيه فاعليّته في خلق الومضة الشعرية، ورفد الصورة بعناصر التخيّل الابتكاريّ والابداعي .
***
محمد حسين الداغستاني