قراءات نقدية
محسن الأكرمين: مكناس من خلال رواية (رداء النسيان) للكاتب إدريس الروخ
مدخل: كتاب رداء النسيان، من صنف الرواية، مؤلفا للممثل والمخرج السينمائي إدريس الروخ. عندما تتبع مسارات إدريس الروخ العملية فإنك تجده بالطبع شخصية مركبة بامتياز التكوين الاهتمامات والانشغالات.
من تم فرواية (رداء النسيان) كُتبت انطلاقاُ مما يعيشه الفنان في الذات والزمن والفضاء. تم إبداعها بروافد من مؤثرات التمثيل والمسرح والإخراج والإنتاج السينمائي، هذا التعدد والتنوع الغني هو الذي قادني بطلاقة نحو متابعة قراءة نص رواية ادريس الروخ بنهم وإقبال، وكنت مرات عديدة أنتقل بخيالي من عالم الكتابة ومثيراتها المحددة في عالم تناص الخطاب اللغوي والأحداث، إلى عوالم الصورة (المبركة) بالخيال، والإبحار مع فناننا في تشكيلات تنوع الأفلام والمسلسلات التي اشتغل عليها، أو مثل أدوارا كبيرة من خلالها.
تقول الكاتبة المصرية ناهد صلاح في تقديمها للرواية: (إدريس الروخ كَتب الرواية قابضاً بأصابعه على روحها... أجواء غريبة غير تقليدية (في منهجية كتابة الرواية) نقلت حكاية معقدة تتأرجح بين "الفانتازيا" والتراث الشعبي وبين الدراما النفسية) إنها بحق العلاقة الاجتماعية التقليدية التي تربط الكاتب بوسطه الأسري وفضاء النشأة والولادة والتطور العمري الاجتماعي.
أجواء مثيرة تشبه إلى حد ما (رداء النسيان) من حيث الغوص في نقطة عميقة للنفس البشرية (الخيانة والألم والوجع). (تجد أن هنالك) حالة روائية خالصة ونشطة... تحتضن التفاصيل العاطفية المعقدة بالتكثيف والحس والسلس في آن واحد، ما جنبها الوقوع في رُهاب التطويل...).
نعم من البدء أُقر بالمناصفة والاعتراف الضمني مع الأديبة ناهد صلاح بأن إدريس الروخ (فنان يتمتع بخيال هائل، صادق، مفرط الحساسية بشكل مؤلم في تفاصيل مذهلة الإتقان والشاعرية) والمواقف الإجتماعية التي يمكن أن نقول بأننا ضيعناها منذ زمن (الحجر الصحي/ العلاقة الأسرية الداخلية).
عتبات مدينة مكناس المكانية من خلال النص الروائي (رداء النسيان)
حقيقة أدبية لا مناص من التنصيص عليها، أن دراسات المكان والفضاء في الروايات ما تزال شحيحة المورد، ورغم هنالك مجموعة من الإصدارات (الغربية) والتي قد لا توازي نهب الباحثين فى هذا السياق، وما نسعى من خلال (رواية : رداء النسيان) هو وضع بعض من عتبات لتقاسيم المكان الروائي والتركيز على مدينة مكناس .
فلم يكن المكان بالغريب عند الكاتب إدريس الروخ، لم يكن المكان بالمتخيل بل هو مكان معلوم بالتسميات والمسميات والحركة الانتقالية. مكان يُكسب الرواية أهمية فنية كبيرة، إنه الخط الزمني المتموج للأمكنة بالحضور والغياب. أمكنة باتت تشكل لوحة رسم على قماش وتعلن صراحة هوية بطل الرواية.
حقيقة أن المكان ليس ترفا أو عنصرا عابرا في الرواية، بل هو مكان معلوم الزوايا الجغرافية بالتحديد والذكر، ويتخذ معاني ومواقع عديدة (وأنت تجوب شارع محمد الخامس بالمدينة الجديدة ، أو كما يسميها المكناسيون (حمرية/24). فلم يكن المكان (مكناس) يحضر في الرواية للتباهي، بل جاء لأجل التنبيه والتغيير (تمر بجانب النافورة التي لم تشتغل منذ أمد طويل.../24).
ما أثارني واقعية الحديث وفضح مميزات المكان، وليس المكان الذي قد تصنعه لغة المتخيل في الدلالية للرواية. فمنذ بداية الرواية تجد أنها اقتحمت تفكيرك بالتحفيز، ولما لا التطويح بك في عالم البحث بين الواقع والخيال عن الفضاء وعلاقته بالحكي والسرد، فعندما صرح الكاتب بوصف المكان (باب منصور / روامزين ...) إنه بحق نوع من التسويق لفضاءات وعوالم المدينة السياحية.
وقد وقفت على نوع من الإقحام اللين لفضاءات بالمدينة، نشترك فيها جميعا بمجموعة من الذكريات التي تبق عالقة بالذاكرة (سينما أبولو والمونديال والأطلس...أن تشاهد أفلام الحركة والهندية/ ص25). بالطبع هي ذاكرة سينمائي في (رداء التذكر) أتى بها إدريس الروخ ليستمد منها عشقه للسينما.
قد يكون الفضاء في متن رواية (رداء النسيان) متحركا، حيث وظف إدريس الروخ الأمكنة مرات بالتماهي، ومرات بالنقد والوصف، فوضع ذاته ومواقفه تتحرك بين الأمكنة وتترجل الوصف والحكي والمشي، ومرات عديدة تعطي أحكاما نوعية وذات قيمة اجتماعية.
نوع ثان من الأمكنة المتحركة (الحافلة) يقول: (لم تكن من هواة ركاب الحافلات البئيسة أو الازدحام مع الأجساد الذابلة وسط سيارات طاكسي المليئة بالجراح والهموم وكثرة الآهات... / ص24)
نعم، بين الكاتب والأمكنة علاقة تبادلية التأثير والتأثر، وفي كلتا الحالتين يبقى المكان نوعا من الإيقاع المنظم لرواية (رداء النسيان). فالكاتب عمل على تركيب صور للفضاءات يُماثل تصوير الأمكنة الخارجية كمشاهد سينمائية.
فالوضع المكاني ما بين نافورة (شارع محمد الخامس بمكناس) حمرية وديور الجداد بحي بني امحمد تصبح المساحات الهندسية مادة للحكي الروائي، ولتلاحق الأحداث بالتفاعل بعضها ببعض الآخر. فالكاتب عمل على نسج الخيوط المتشابكة، لتخلق بحق شبكة العلاقات والتنافرات التي تصنع الحدث بالتوافق والاختلاف.
فقد كان فضاء رواية (رداء النسيان) أوسع شمولا من حدود المكان ومتغيراته المتعددة، فالزمن العمري بمحدداته بين الماضي الذي ما انفك يمضي، وحاضر المدينة الذي ما فتئ يأتي هو زاوية الرواية الحادة التي صنعت (تاريخ المدينة الأنيق في الماضي، والمكره بنقصان التمكين التنموي في الحاضر/ 24). إنه المكان الذي ينكشف بالفضح على مجموعة من الخلفيات اللاتنموية التي تتحرك بالمدينة، وأمامها الشخصيات أو تقع فيها الحوادث والمشاهد (وسط حمام الدرب عندما تسكب على جسدك دلو ماء ساخن/ ص24).
اختراق البطل للأمكنة ، حين أدخلنا سليمان الأحمدي إلي بيت الأسرة، حين نسيت القراءة والقراءة النقدية، واقتحمت معه عتبة الدار باستقبال الأم و مكونات الأسرة . حين تخيلت كيف هي الدار وألوان الزليج.
نعم سحبني الكاتب برفق وعشق وعشت معه (كونك كنت فقيرا ويتيما/ ص25)، ألم الفقد والوجع (أن أمك التي فقدتها حديثا... / ص25)، (كم تمنيت أن تكون بروسلي وتهجم على الزمن الذي جعل أمك أرملة/ص25) و (هكذا كانت أمه تمشي ساعات من أجل لقمة العيش)... إنها مشاهد عديدة من الألم والوجع، مرات بالتصريح و أخرى بالاستضمار، على اعتبار أن الأمكنة تحمل تجربة المعاناة والوجع والألم لدى المؤلف.
مما أثار فضولي حين اكتشفت وصول الكاتب إلى أنسنة الأمكنة على اعتبارات التفاعل والعيش (لتفاجئهم مرة في الأسبوع بطبق من السردين المقلي مع صحن بيصارة ساخن/ ص27)
هنا باتت الدار والعيش الأسري، سندا متكاملا للبناء الروائي النسقي عند إدريس الروخ. فلم تعد هنالك مفارقة بين تسمية الأمكنة (الحقيقية) حيث باتت الرواية تحيل القارئ لزاما على الاسم نفسه في الواقع والمتخيل، لذلك كانت حتمية الوصف والسرد في الرواية قد فرضت ذاكرتها الحاضرة لا المنسية(سلك طريقا آخر...عرج على شارع الجيش الملكي،...باتجاه شارع محمد السادس...عقبة دار السمن ...ساحة الهديم...بني امحمد ...الديور الجداد...صهريج سواني ...القصر الملكي...(المحنشة) / ص50).
فلا مناص لي من الاعتراف أن الوصف في رواية (رداء النسيان)، شكل وظائف تماثل التصوير الفني، والتدقيق في التفاصيل الصغيرة الحاملة للدلالة الكلية، حتى أنك تترجل المشي مع إدريس الروخ ذهابا وإيابا من وإلى حمرية والديور الجداد بحي بني امحمد(هكذا كان القدر يجمعه بوجعه وألمه الذي انتصرت فيه إرادة الحياة وأمل العودة إلى نور / ص38).
حين ولجت من خلال وصف الكاتب لدار الأسرة بحي الديور الجداد، اكتشفت أن الأمكنة ليست بالمغلقة في الرواية، بل المفتوحة للحكي والبرهان الصادق بتزكية الماضي بذهبيته رغم آهاته (فتحدث عن مكان أليف، وهو البيت الذي يوجد فيه الإنسان (أنسة المكان)، ثم تحدث عن المكان المتناهى فى الصغر والمكان المتناهى فى الكبر/ (سيزا). وكما عثرت عليه فإن: (مصطلح الفضاء الروائى يتسع ليشمل العلاقات المكانية أو العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، ويعلو فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها/ موير).
فحين قرأت النص الروائي لإدريس الروخ عن فضاء الدار (بالديور الجداد)، وجدت أنني أعاود تذكر بيت الطفولة، حتى أن عيني أدمعت وقلت كذلك (أحبك أمي وجعي)، فهذا الإحساس يوجد في دواخلنا وليس بالضرورة بشيء مفارق في الخارج !!حقيقة لا مناص من التركز عليها أن إدريس الروخ خلق آفاقا خصبة غنية واسعة في الوصف والسرد الروائي، وقد وجدت متعة قراءة فى التعامل مع المكان الروائى بمدينة مكناس.(هكذا علمته أمه أن يزهد في الحياة وان يمشي جنب الحيط...أو جنب نفسه في الحقيقة/ ص27)
(أزقة (المدينة) التي عشقها حد النخاخ...علمته كيف يقابل الجمال بين أسوارها الإسماعيلية...وبين أبوابها...نجمة تضيء تاريخ المغرب المجيد/ص28). أو قوله: (محطة الأمير عبد القادر... واجهة بئيسة وباب حقير وجدران عفنة...محطة مهملة في قرية منسية... / ص 108)
الشخصيات الرئيسة في رواية (رداء النسيان)"
1/ سليمان الأحمدي:
في الرواية (يود أن ينتهي بدون نهاية) يرغب في عيش (الظلام ويبقى نائما ولا يدري هل يستيقظ أم لا...فقط يريد عيش رداء النسيان/ 190ص) و(إغلاق باب الذكريات نهائيا (سليمان) عندما خانته زوجته، لبس رداء النسيان/ ص39).... (لقد عطل زر "إحياء" الذكريات/ص 38)
سليمان الأحمدي: يعيش ازدواجية الشخصية التي تصنع التوافق بين التربية والنشأة التقليدية (موقع الأسرة في قلبه وخاصة أمه/ مكناس)، وترف حياة البذخ (الحفلات/ المنشطات الروحية/ الفنادق الفاخرة/ السكن.../ الرباط ومدن العالم التي زارها لعرض لوحاته).
سليمان الأحمدي:(اغتصب في رجولته/ حينها أنه كان غبي مورد الثقة) عندما خانته زوجته (سلمى) مع صديقه (عادل). عاش أزمة نفسية، وبات غياب حلم أمل التغيير من باب (رداء النسيان).
عاش بين الماضي والحاضر، ولم يقدر على اختيار طريق النجاة. عاش مستويات من التغرير به في زواج مفبرك كما صرحت به خادمته (زينب). عاش في صراع طبقي بين مرجعية عادل الأسرية (الحداثة/ البورجوازية)، ومورد أسرته التقليدية والتي هي (على قد الحال).
سليمان الأحمدي: (يفتح باب ذاكرته ليسد طريق النسيان ويمنعه من التسلل ليلا إلى فراشه/ ص 29)، أراد معرفة حقيقة الخيانة من زوجته (سلمى) ليتخلص من كراهة الماضي، وفي هذه المغامرة قد لا يرجع تماما من الرباط (كما حدثه شيخ مقهى القرب من محطة الأمير عبد القادر).
سليمان طيلة الرواية لم أجده تناول المنشطات الروحية بمدينة مكناس وخاصة بمرسمه (175 حديقة كونيط)، بل كان مدمنا على القهوة السوداء والتدخين، خارج المدينة كان سلوكه من الحداثة (البعدية).
سليمان، عاش مرارة الخيانة، فلم يقدر حتى على المغامرة مع فتاة فندق الرباط، حين سترت عورته، وآوت الى فراشها، وناولته منشطات روحية، لكنه هرب بشرف وأدب...
سليمان، عمره ما ركب الطاكسي حتى الصفحة (62)، (لم تكن من هواة ركاب الحافلات البئيسة أو الازدحام مع الأجساد الذابلة وسط سيارات طاكسي المليئة بالجراح والهموم وكثرة الآهات... / ص24)
2/ سلمى زوجة سليمان:
فنانة بامتياز وتفرد، في عيش مُتع الحياة (الجنس الترف...البذخ)، فنانة في التمثيل والإغواء وإسقاط سليمان بتحفيز من صديقها (عادل) في شباك زواج صوري (مكيدة العمر).
لم تتكلم طيلة الرواية، وحتى في النهاية، عندما ساء وضعها الصحي والمادي، وفي مواجهة لسليمان (فيلا غير أنيقة بالرباط) لم تحرك شفتيها حتى للتبرير عمَّا حدث، بل كانت ثملة تقاسي مكر الزمان والعمر، وسوء الاختيارات (لو أنها تكلمت وقالت أي شيء...أن تنطق بحرف واحد...قد تعلني أرى حياتي المقبلة بشكل مختلف/ ص189). لكن سلمى تكلمت اللوحة المرسومة بديلا عنها أكثر مما حضرت سلمى في الأماكن والأحداث طيلة الرواية.
3/ عادل صديق سليمان:
يقول سليمان: (هل عادل صديق عمري طعنني في ظهري؟ /ص 189). عادل (الفاسي الأصل والولادة) مارس نزق الطبقات الاجتماعية، واستغل سليمان في تزويجه بسلمى عبر مكيدة مدبرة، استغل طيبوبة سليمان، ومارس الجنس مع سلمى لما يربو عن ثلاث سنوات. استغل الثقة ورؤية ولد لبلاد (مشاركين الملحة اصعيب تخونو).
عادل شيطان الرواية، بقي يعيش حياة مزدوجة بين الكذب على زوجته (ابتسام) وعلاقته بسلمى، وحتى ليلة سقوط سليمان مغمى عليه عند شاهد عيان على الخيانة (على فراش الزوجية) ، فانه كان يمارس النفاق الاجتماعي ولم يصارح ابتسام بأنه كان هو الخائن لصديقه.
4/ زينب الخادمة:
العلبة السوداء (لَبْوَاتْ انْوَارْ) في تلك العلاقة غير الشرعية بين عادل وسلمى وفي فراش الزوجية.
صحوة الضمير أفاقها، وأرجعت سليمان من أوربا (توقيع عقد عمل) ليقف على الخيانة الكبرى، كانت ترغب في أن تنتهي أزمتها النفسية والعودة إلى مبدأ الحياة السليم.
5/ أسرة سليمان الأحمدي:
أسرة تقليدية من مكناس (الديور الجداد) ، تعيش أزمات حياتية (المستوى المعيشي/ الهشاشة المرتبطة بالفقر لا الأخلاق)، وأزمة الفقد (اليتم /الأب 1975)، وحديثا موت الأم، باعتبار مركزية التضامن الأسري.
أسرة تعيش بالكد والسعي، وكذا بقيم الترابط الأسري، أسرة لم يقدر الكاتب على تسمية أي أحد من أفرادها، بل ترك الجميع يتحرك بالصفات (الأم الإخوة الأخوات).
الأم كانت محور الرواية الأساسي ، والتي داوم النص السردي حكي حكاية الأسرة من خلالها وبالتفصيل الصحي، وتجدها تسكن الرواية وقلب الكاتب من البداية إلى النهاية، حتى ما بعد فقدها (أمك التي فقدتها حديثا بسبب وعكة صحية ألمت بها/ص 26).
خاتمة:
من حس الوجع (والفجع) والذي مرات عديدة كان كبيراً ولا طاقة للكاتب على رده (الخيانة بين عادل وسلمى)، (كان لا بد من التعبير عنه بدرجة ما من درجات الخصوصية، والكشف القاسي ...) فقد يكون العنوان منبها أوليا لكل قارئ(رداء النسيان وأن ينعم بدفئه/ ص103)، لكن عنوان (رداء النسيان) بات عندي عند نهاية الرواية يوازي عنوان (رداء ذاكرة نشطة). رواية نشطة من ذكريات مصادر ومراجع (الفيد الباك) للفنانين والفلسفة العالمية، إنه بحق (تناص التعامد) النوعي لا التراكمي.
***
محسن الأكرمين
.......................
* نص مداخلتي في حفل توقيع رواية (رداء النسيان) للكاتب إدريس الروخ بالمركز الثقافي (الفقيه المنوني) يوم السبت مساء 25 ماي 2024.