قراءات نقدية

قصي إيدام: في رواية "الخامس والعشرون من ايلول"

الأديب أ. عامر موسى الشيخ يطفئ الورق بقلمه.. والسارد أ. ماجد وروار يشعله !!

قراءة تحليلية تنظيرية في رواية (الخامس والعشرون من ايلول) للكاتبين الأديب أ. عامر موسى الشيخ والأديب الفنان أ. ماجد وروار

***

"هناك تعبير أبشع من الدموع التي نبكيها، إنها الدموع المكتوبة" باشلار

(في الحزن تكمن بواعث تهالكات تتبارى متهافتة في مسارب ذات الناص، فيعمد بعد محاولات لا تنتهي لإخفائها وإضمار كل ما يمت للكمد بصلة إلى البوح بها، استعانة باللغة التي تجسد فضاء الألم وجغرافية الحزن وعظم الجراح التي تتشعب فتأخذ لها حيزآ وسيعآ من ذاكرة المبيح، وأفقآ كبيرآ من نتاجه المباح..

إنها دفائن الجروح المتراكمة تتعالى دفقآ فتضيق عليه ما يضطره إلى سكبها ليست كشكوى يعرضها بل طلبآ لارتياح يبغيه:

أرق على أرق ومثلي يأرقُ

وجوى يزيد وعبرة تترقرقُ / المتنبي

 *

ينسل في داخل الأديب ا. عامر موسى الهاجس المتشح باللوعة والمرارة عبر مشاهدة إحزان السارد للقصة الذي هو الأستاذ ماجد وروار لرواية " الخامس والعشرون من ايلول "، فيغترفها لتكون منهلآ في التفاعل معها، وبوحآ للتدليل على أننا لا يجب أن ننظر لأحزاننا بإحساس أنها لا تخص الغير ؛ ولا لأحزان الغير على أنها ليست ذات صلة بمشاعرنا..

الأديب أ. عامر موسى كان هو الأكثر تشخيصآ لمشاعر صديقه أ. ماجد وروار والأدرك في تعامله مع القاص والتحاور معه وفق سياق البعد الإنساني للخروج بما يُضئل من غاثلة الأحزان:

(هل أقوى على رؤية حزن الآخر.

ولا أكون حزينآ كذلك.

هل أقوى على رؤية أسى الآخر

ولا أبحث عما يؤسيه

هل أقوى على رؤية دمعة تهل.

ولا أحس نصيبي من الأحزان)**

السماوة مدينة تكره الأيجاز في كل شيء. إنها تفرد ما عندها دائمآ، تمامآ كما تلبس كل ما تملك، وتقول كل ما تعرف. لهذا كان الحزن وليمة هذه المدينة لما مر منها من أحداث أليمة وما رافقها من ظلم على أبنائها أبان فترة الحكم البعثي المقبور..

(أترين تلك القلعة الحجرية الجدران؟

لي فيها صراخ شاسع..R

ودمٌ 

وأضلاع مهشمةٌ..

ودمع أبٍ تجرأ بالسؤالِ

عن ابنه المحكوم بالعشق المؤبد والتغرب

والهيامْ***

أ. عامر موسى جمع الأوراق المبعثرة امامه في قصة الأخ ماجد وروار، بعضها مسودات قديمة، واخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ سنين بعض الكلمات فقط.. كي تدب الحياة فيها، وتتحول من ورق إلى أيام.

كلمات فقط، أجتاز بها الكاتب صمت السارد وروار إلى الكلام، والذاكرة إلى النسيان، يترك في كل مرة الرماد على الورق وكأنها سيجارة الحنين الأخيرة، وبقايا الخيبة الأخيرة..

فالكاتب عامر يطفىء والسارد ماجد يشعل!

الكاتب عامر لا يدري.. يحس أنه لم يكتب شيئآ يستحق الذكر مع السارد ماجد قبل هذه الرواية.. اليوم معه فقط سوف يبدأ بالكتابة. ولا بد على عامر ان يعثر أخيرآ على الكلمات التي سيكتب بها، فمن حقه أن يختار اليوم الذي يكتب، ولكنه لا يعلم أنه بعد الأنتهاء من كتابتها مباشرة سيكون هناك حدث كبير !! حيث أستشهد احد أبطال الرواية.. واصبح عامر هو الشاعل للورقة بعد ان كان قلمه مطفأة لها..

(لماذا ياعلي هكذا؟ لماذا جعلتهم يتمكنون منك)؟

 كبرت معي اللماذا، وكبرت الأسئلة، أمام تصاغر كل شيء وصولآ إلى التفاهة، ما أفعله الآن هل أبصق على الحياة؟ أم أن بصقتي ستعود علي ستعود علي مثل الذي يبصق بإتجاه السماء، درت في غرفتي راقصآ رقصة حزن مع بكاء مستمر، مستمر دون توقف، دوراني يستمر ودموعي تستمر، أدور مثل رحى تطحن دقيق الأيام والحسرات لتصنع خبزآ لمائدة الموت اليومي الذي يلهث خلفنا.

هل حقآ مات علي؟، ماذا ستقول أمه؟ علي مات! كيف سيكون حال ماجد؟  مات علي !! وأنا أكرر هذه الأسئلة، عدت إلى هاتفي طالبآ رقمه..

- الو ماجد، أنا عامر، أين أنت...؟

- عامر، لقد استشهد علي في أبي غريب، أنا ذاهب لجلبه، مع السلامة ! السارد للقصة في الرواية أ. ماجد وروار ذاكرته ثقيلة لا يشفى منها أبدآ.. تجد في سرده للقصة أنه غادرته الحروف كما غادرته قبلها الألوان، وتحول العالم فيه إلى جهاز تلفزيون عتيق، يبث الصور بالأسود والأبيض فقط، ويعرض شريطآ قديمآ للذاكرة، كما تعرض أفلام السينما الصامتة .

قصة كان يمكن أن تكون قصتنا جميعآ، لو لم يضعنا القدر كل مرة مصادفة، عند منعطفات فصولها.

ماجد أثناء سرده للقصة وكأنه يأتيه صوت عتيق غائب، وكأنه يطرح السؤال على شخص غيره، معتذرآ دون اعتذار، على وجه للحزن لم يخلعه منذ سنين، يشعل سيجارة عصبيته، فيذهب يطارد دخان الكلمات التي احرقته منذ سنوات، دون أن يطفئ حرائقها مرة فوق ورقته.

اليوم ماجد يكتب عن حياته وهو لم يشفَ منها بعد، ويلمس جراحه القديمة بقلم يؤلمه مرة أخرى.. قلمه اليوم أكثر بوحآ والأكثر جرحآ.القلم الذي لا يتقن المراوغة، ولا يعرف كيف توضع الظلال على الأشياء، ولا كيف ترش الألوان على الجرح المعروض للفرجة. يدون كلماته التي حرم منها، عارية كما أرادها، موجعة كما أرادها، وكأنه يستبدل بقلمه سكينآ، فالكتابة إلى من فقدهم قاتلة.. كحبه لهم.

تمطر ذاكرته فجأة ويسرد احداثا ومواجعَ ما زالت تشبهه، وأصبح يشبهها، وأصبح هو جسرآ معلقآ لها، وما زالت وجوه الاحبة التي فارقها تعبر الجسر على عجل..

ماجد يسرد قصته ويبعثها كرسائل وبطاقات خارج مناسباته المعلنة.. ليعلن عن نشرته النفسية، لمن يهمهم أمره.

ماجد في سرده في الرواية تجد أن الموت كان يمشي إلى جواره، وينام ويأخذ كسرته معه على عجل، تمامآ مثل الشوق والصبر والإيمان.. والسعادة المبهمة التي لا تفارقه. كان الموت يمشي ويتنفس معه.. وكانت الأيام قاسية دائمآ، لا تختلف عما سبقتها سوى بعدد شهدائها، الذين لم يكن يتوقع موتهم على الغالب.. فهو لم يكن يتصور لسبب أو لآخر، أن تكون نهايتهم، هم بالذات قريبة إلى ذلك الحد.. ومفجعة إلى ذلك الحد.

ما زال ماجد يتذكر اخوانه الشهداء، أولئك الذين تعودنا أن نتحدث عنهم بالجملة ! وكأن الجمع في هذه الحالة بالذات، ليس اختصارآ لذاكرتهم، بل لحقهم علينا.

تجد ماجد لم يتحدث عنهم كونهم شهداء.. بل كان كل واحد منهم شهيدآ على حدة. كان هناك من استشهد في كوكبة الشهداء البكر، وكأنه جاء للحياة خصيصآ للشهادة، والثاني من كان يحلم أن يعود يومآ لكي يتزوج.. ولم يعد.

والشهيد الثالث سقط في أرض المعركة قبل زيارته المسروقة إلى أهله بيوم واحد، بعدما قضى عدة أسابيع في دراسة تفاصيلها، والإعداد لها..

ذهبوا وتركوا خلفهم قبرا طريا لأم ماتت مرضآ وقهرآ، وأب مات كمدآ وهو كان مشغولا بمطالب أبنه للعرس..

(خداه، عيناه، طوله، اناقته، كله كان حلاوة، نعم انه شقيقي وصفي الذي خلف الباب..

فرحتي بتواجده بيوم زواج محمد كانت قد اعطتني همة بأن اخرج كل الصحون من الغرفة كي يبقى على رسله في الغرفة..

وبما انه وصفي لم استغرب هذا الدخول المفاجئ فقد كان على قدر كافٍ من الذكاء من أجل انهاء اية مهمة، نعم هذا وصفي مؤرق رجال الأمن والبعث، حضنته قبلته، شممته قلت له كيف، ماذا، قال لي: وهل تريدني أن لا أحظر حفل زفاف محمد.. !

:

:

بعد اتمام مراسم الزفاف، لم ينم وصفي، قال لي: رافقني إلى كراج سيارات بغداد، كان هذا عند الساعة الرابعة فجرآ، قلت له:

لم نشبع منك يا أخي، تأخر قليلآ، قال بهدوء وابتسامة تخبئ خلفها حدسآ غريبآ: لا، فعناصر الأمن سيأتون عند الساعة الخامسة ليلقوا القبض علي، دعني اذهب، رافقته حيث اراد، ودعته... وبالفعل ما ان جاء فجر ذلك اليوم، واذا برجال الامن يملؤون الشارع طارقين الباب بعنف " وين وصفي؟

الكتاب: رواية الخامس والعشرون من أيلول

المؤلف: عامر موسى الشيخ - ماجد وروار

الطبعة الأولى ٢٠١٦ / دمشق - مطبعة تموز

***

قصي إيدام

.........................

(*) نص ادبي للكاتب الكبير أ. زيد الشهيد / كتاب مملكة الأبداع

(**) نص ادبي للكاتب وليم بليك / حزن الآخر

(***) نص للشاعر الكبير أ. يحيى السماوي / ديوان جرح أكبر من الجسد

في المثقف اليوم