قراءات نقدية
سعد الدغمان: "جنون العواصف".. متلازمة شعرية بأبعاد دلالية جمالية
تجربة قراءة مستفيضة مقرونة بصور التخيل
بحرف ينبؤ عن دقة التوصيف جاء به شلال عنوز في قصيدته (جنون العواصف) ليضعنا في خضم بوح الحالة التي تشعر القارئ بالانقلاب على لاشيء، على كل شيء، يدفعنا بحرفية مايوظفه من صورة تنطق بجمال الوصف عبر تكريس التنافر في الدلالة والمعنى عبر الزمن باختلاف تقلباته مابين الانتظار والضياع الذي تمثله الخيبات التي عبر عنها ب(تذرع الوقت وتحصي مطارق الخيبات) تلك الخسارات التي يحصيها بحساب الوقت، ضياع في ضياع.
أي أن عنوز ادخل عنصر الوقت لأحصاء الزمن ومايتركه على الإنسان بحسابات الخسارة والربح مخلفا حالة من الضياع أو الشتات في الفكر الذي يتجاوز الحاضر وينشغل بما كان.توصيف دلالي رائع هو أقرب للفلسفي في توظيف الشعر الوجداني، فالخسارة حالة وتجربة حياتية، وكلاهما معايشة إنسانية تترك أثرها على كل ماله علاقة بالإنسان، اجاد شلال عنوز بمدخل وصفي دلالي استطاع من خلاله أن يترك أثره المغاير على طبيعة القراءة السائدة عند المتلقي، ويحفز عقله للخوض في تجربة قراءة مستفيضة مقرونة بصور التخيل الذي ترك فيه عنوز الحرية للمتلقي من أن يبحر خلاله عبر الصمت الذي وشحه بطيلسان يلف فيه مواطن ما تخلفه العاصفة من وجع.
في عُنف جنون العواصف
كنت تذرع الوقت
وتُحصى مطارق الخيبات
تُلملم أذيال الاغتراب مُنهكا
تُدثّر مكامن الوجع
بطيلسان الصمت
وحين أراد أن يصور مواسم الدهشة في قصيدته، أوقفنا شلال عنوز عند منعطف الاستفهام فأورد تساؤل دلالي ب (مَن) الاستفهامية، ليضع القارئ في حيرى السؤال وحيرة الإجابة، فليس من بيننا من يعرف جواب ذلك الاستفهام (من القائل) وتلك حركة تصاعدية في توظيف الصورة الناطقة في القصيدة ليضفي على شكلها العام جمالية مزدوجة تنبؤ باستمرار التخيل والقراءة في آن، والتصاعدية في التوظيف الدلالي تتوج أبيات عنوز بغموض موشح بالغيبيات التي غالبا ماتضع القصيدة في خانة الاستفهام الدلالي الذي جاء به بدلالة الزمان (النهارات وسكنات الليل).
مَن قال أن للعواصف حَين
ومواسمها مُطلَقة النزول
هي تأتي حيث لا يشتهيها
بَوح النهارات
وقد لا تشتهيها سكنات الليل أيضا
صور شلال عنوز الشعرية في قصيدته جنون العواصف لم تخرج من فراغ، بل على العكس سعى جاهدا من خلالها وبخبرته وتجربته الشعرية الفذة ليضع بين يدي القارى مصارف التوظيف الدلالي فذهب لاستخدام الدلالة العلمية (علمنا) أي أن هناك تجربة للتعلم عاشها الشاعر ووظفها في أبياته، فجاء ب (علمنا الدهر) نانجة عن فعل التعلم والجمع (نحن) جماعة المتكلمين، اي تجربة عامة، جمالية الصورة التي وصفناها بالناطقة فعلا، ومنها ادخل عنوز الوصفية الدلالية فقال (عاصفة تسر وعاصفة تضر)، أراد منها تقلب الأحوال وانطباعات الناس فيما تجسده من اختلاف وهنا الجمالية الحركية للصورة التي ترك من خلالها عنوز فسحة الأمل لمن يتضرع لينجو ممن اسماهم ب(الخائفون).
استطاع عنوز عبر صوره تلك رسم لوحة شعرية مطعمة بالتوصيف والدلالة الحسية والمكانية وصور التخيل الوصفي من أن يسحب القارى نحو استنطاق المشهد الشعري برمته في قصيدته ليضعه على مكامن التقلبات الحركية التي أبدع فيها عبر توظيف عناصر البناء الشعري بما يخدم التصور والتخيل، ثم ليستبدل ذلك كله بمشهد شعري رائع ينفي فيه كل ماكان فجاء بحقيقة كونية جسدها الإيمان القطعي بالإستفهام حيث قال متسائلا في ختام قصيدته (وهل صدق المنجمون)؟!!
تساؤل يجسد حقيقة المقولة المأثورة التي تقول :(كذب المنجمون ولو صدقوا).
متلازمة شعرية رائعة بأبعاد دلالية وصفية حسية جمالية رسم من خلالها شلال عنوز قصيدته الجميلة (جنون العواصف) فأبدع بما جاء من صور شعرية احتوت في الكثير منها على التناقض الممتع الذي يخدم المشهد الشعري بشكل عام.
عَلّمنا الدهر أنّ العواصف نوعان
عاصفة تَسرّ وعاصفة تَضرّ
ومابينهما يتضرع الخائفون
بالنجاة
من أعاصير تأكل آمالهم
وأنت المٌقيّد بسلاسل القهر
تُمعِن النظر في عين السماء
وترفع كفّيك بالدعاء
عَلّ العاصفة تنجلي
عن بريق فرح
في خضمّ وِفادة
عام قادم
وهل صدق المُنجّمون ؟!!
***
سعد الدغمان