قراءات نقدية
أمجد نجم الزيدي: عندما يكتب الشعراء الروايات
استكشاف التأثيرات المتعددة للتقارب الأدبي
كان الأدب بكل أجناسه وضروبه ساحة للتجريب والابتكار منذ أزمان بعيد، وربما كان الشعر أبرز تلك الأجناس الأدبية التي كثر حولها الجدال في أدبنا العربي، إذ كان دائما محط اهتمام وبحث وابتكار، ربما منذ كسر (عمود الشعر) الذي يصفه أحد النقاد بأنه (يشبه عمود الدين، الحياد عنه بدعة من البدع، أو ضلال يجب أن يتناول بالكراهة التي تبلغ أحيانًا حد التحريم)، إلى الزمن الحالي والجدال حول قصيدة التفعيلة، ومن ثم قصيدة النثر والنص المفتوح وغيرها، لذلك كان الشعراء هم المبادرين دائما، في الخروج عن الأطر التقليدية، وهذا لا ينكر أن هناك بعض تلك المبادرات في الأجناس الأخرى، لكنها كانت دوما ضعيفة وخجلة، وقد برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة ملفتة للانتباه، هي كثرة الشعراء الذين توجهوا إلى كتابة الرواية، حيث أخذ التجريب منحى آخر بخروجهم عن حدود الشعر وإطاره، ليغامروا في عالم الكتابة الروائية، وهناك نماذج عالمية معروفة، حيث كتب فيها بعض الشعراء العالميين الرواية أمثال (مارغريت أتوود، وسليفيا بلاث بروايتها (الناقوس الزجاجي)، ومايكل أونداتجي وروايته المشهورة (المريض الأنجليزي)، و د. ه. لورنس، وبول أوستر.. وغيرهم)، وهناك من الروائيين الذين كانت بداياتهم مع الشعر كـ( ميلان كونديرا، وغونتر غراس، وماركيز .. وأخرين)، أما الشعراء العراقيين الذين كتبوا الرواية فعلى سبيل المثال لا الحصر (فاضل العزاوي، وصلاح نيازي، وجواد الحطاب، وعبد الزهرة زكي، وعارف الساعدي، وأحمد الشطري، وحسين القاصد، وسنان أنطوان، وعلي الأمارة.. وأخرين لا يسع المجال لذكرهم)، ومن الشاعرات العراقيات (فليحة حسن، رسمية محيبس، بلقيس خالد، هدى محمد حمزة... وإخريات).
غالبا ما يتم الاحتفاء بالشعراء باعتبارهم لاعبين ماهرين باللغة وصناعة الكلمات، وقدرتهم على إثارة المشاعر، وصناعة الصور الحية، لذلك فقد يبدو لنا -على أقل تقدير- إن هذه المهارة قد تدفع أغلب الشعراء إلى أن يجربوا كتابة أشكال إبداعية أخرى، وأجناس أدبية مغايرة، ومنها الرواية، التي قد أخذت حيزا كبيرا من الاهتمام في الآونة الأخيرة، ففي عالم تتغير فيه الحدود الفنية للأجناس الأدبية باستمرار؛ يجلب الشعراء الروائيون منظورا جديدا للمشهد الأدبي، لا يثري عالم السرد فحسب، بل يرفع الرواية أيضا إلى أفاق جديدة من الجمال اللغوي والصدى العاطفي، فنحن محظوظون كقراء، أن نشهد هذا الاندماج بين البلاغة الشعرية والابتكار السردي واتساعه، مما ينبهنا الى أن الجوهر الحقيقي للأدب يكمن في الاستكشاف لأنماط وأشكال تعبيرية متنوعة وجديدة.
يُظهر الشعراء الذين يغامرون بكتابة الرواية مزيجا فريدا من المهارات الأدبية، التي تضفي غالبا على رواياتهم جودة غنائية مميزة، بلغة مشبعة بإحساس شاعري، يوفر للقارئ مساحة جمالية واسعة، وفرصة كبيرة للتأمل، فالتزاوج بين الحساسية الشعرية واتساع السرد الروائي، هو تعزيز للصدى العاطفي والفكري في السرد، إذ أنَّ قدرة الشعر على إثارة المشاعر ومناطق التفكير والخيال من خلال بناء الصور البلاغية الحية، وتوقع غير المتوقع؛ تثري البناء السردي، الذي يخلق تجربة قرائية متميزة، فعندما يكتب الشعراء الروايات، فإن فهمهم العميق لكيفية بناء الكلمات عاطفيا وفكريا، يُمكنهم من صياغة الشخصيات والمواقف والأَحداث التي يتردد صداها لدى القراء وبمستوى عميق، إذ أنَّ هذا التقارب لا يجذب القراء على المستوى الفكري فحسب، بل يجذب أيضا أحاسيسهم ومشاعرهم الإنسانية، مما يخلق علاقة قوية بين الرواية ومتلقيها.
يجد الشعراء، من خلال هذا التقارب والاندماج، مساحة تتشابك فيها سيولة اللغة الشعرية والبناء السردي المرن، والذي يقود إلى نصوص تطمس الخطوط الفاصلة بين الأجناس الأدبية، والتي دفعت بعض النقاد والباحثين للتأكيد على أهمية انتقال الشعراء إلى كتابة الرواية، كشكل من أشكال التجريب، الذي يدفع حدود البنية السردية إلى مناطق جديدة، لكن عملية الانتقال من الشعر ببنائه المكثف إلى اتساع السرد، تتطلب اتباع أسلوب جديد في الكتابة الروائية، من خلال قيام الشعراء بتكييف تقنياتهم الشعرية مع الأشكال الروائية، ليقدموا بناء سرديا جديدا، ووجهات نظر غير تقليدية، متحدين بها المعايير التقليدية للكتابة الروائية، ولكن نرى إن أغلب التجارب التي أطلعنا عليها - على أقل تقدير- انساقت مع الرؤية التقليدية للكتابة الروائية، ولم تستطع أن تتخطى حدودها، وأيضا على الرغم من الصورة الجميلة التي يمكن أن نتصورها لما يمكن أن يقدمه الشعراء للكتابة الروائية، بعيدا عن انسياقهم وراء البناء التقليدي، فهي سلاح ذو حدين، فقد تنتج من هذه العملية نصوص روائية متميزة، مكتملة فيها كل عناصر الرواية، أو ربما تتغلب على الشاعر صنعته الشعرية ولا يمكنه عقد توازن بين صنعته هذه والمجال المغاير الذي يجرب فيه، لأنَّ الكتابة الروائية عملية معقدة ومختلفة تماما عن كتابة الشعر، لها قواعدها وأعرافها التي يحيط بها صناعها، لذلك قد لا يستطيع الشاعر- الروائي أن يحقق هذا التمازج والتقارب المنشود بصورة متوازنة، تحافظ على كيان كلا الجنسين وبنائهما، الذي ينتج لنا ربما نصا هجينا، لا يمتلك هوية إجناسية واضحة.
قد يعتقد ربما بعض الشعراء الذين تحولوا إلى روائيين، أو الذين كتبوا الرواية كتجربة إبداعية جديدة، إن لديهم القدرة على التعمق في الموضوعات المعقدة، بما يمتلكونه من حساسية شعرية؛ تساعدهم على بناء روايات تدرس التجربة الإنسانية من زوايا مختلفة، حيث العواطف والأسئلة الفلسفية، والتعقيدات المجتمعية، ولكن هذه الحساسية غير كافية لبناء روايات تغوص في النفس البشرية، وتحول كل تلك التعقيدات التي تحيط بها إلى شخصيات واحداث مفعمة بالحياة والمشاعر الإنسانية، لأن الرواية هي عملية بحث وتشريح لتلك النفس البشرية، ضمن بنى وعناصر ربما لا تتشابه مع بنى الشعر وعناصره وخطابه، وإن كانت تستوعبه ضمن خطابها.
يستعير بعض الشعراء الروائيون جزءا من التقنيات الخاصة بالشعر، ويحاولون استخدامها في الكتابة السردية، كالتقطيع والتكرار، والبناء غير الخطي للأحداث.. وغيرها، مما قد يدفع بهم إلى الجنوح بعيدا عن الحدود الإجناسية للكتابة الروائية، بصورة مقصودة كنوع من التجريب وكسر القوالب التقليدية، أو بصورة غير مقصودة نتيجة عدم إدراكهم للفروق العميقة بين خطاب الرواية والخطاب الشعري.
تُظهر لنا ظاهرة تحول الشعراء إلى روائيين مدى تنوع الكتابة الإبداعية، والقدرة على دمج الشعر بكل نسيجه الفني والبلاغي في نسيج الكتابة السردية الروائية، من خلال روايات تتشابك فيها عوالم الشعر والسرد، لتشكل نسيجا أدبيا آسرا.
***
أمجد نجم الزيدي