قراءات نقدية
سعد الدغمان: نظرية (المُفَرَغة).. آراء في تبسيط النص النقدي
كتابة موازية لما هو كائن من النقد
اختلفت موازين الحياة بشكل كامل، واختلفت معها العلوم والفنون، ومن تلك العلوم (علوم اللغة والمنطق وعلم الكلام)، وأختلفت قواعد الحديث، وتعددت اللهجات في الوطن الواحد، فما بالك وأقطار شتى أو العالم أجمع، وما كان يصلح بالأمس ليس بصالح اليوم، ففي الأسواق الشعرية القديمة (عكاظ، والمربد) وغيرها الكثير كان النقد آنياً يقدم شفاهاً، لكنه بحجم اللغة التي ينظم فيها الشعر، لغة فصيحة عربية أصيلة لا شائبة فيها، وهي لغة الجزيزة العربية وصحرائها القاحلة التي كان العرب أنذاك يرسلون أولادهم لتعلم الفصاحة في النطق هناك.
لذلك كانت علوم اللغة وفنونها توازي أو تجاري تصاريف اللغة نفسها، والفنون الأدبية بمستوياتها سواء في الشعر أو الخطابة أو النثر والملحمة كانت تتطلب مستويات متقاربة أو مماثلة لما عليه الشاعر أو الأديب، لذلك كانت لغة النقد عالية في مضامينها متشحة بثقل ما يستخدمه العرب من تعابير وتصاريف لغوية معبرة عن الصورة التي تحويها القصيدة أو الفنون الأخرى (كالملحمة).
فنرى مثلاً عند أمرؤ القيس في معلقته (ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي وما الاصباح منك بأمثل)، لغة بتكوينات صعبة قد تصل حد التعقيد في بعض الأحيان، (كساع ليس له قدمان)، (كجلمود حطه السيل من عل)، كلمات لها ثقلها ووقعها على السامع، لكنها كانت تتناسب والفترة التي راجت بها، أما عن أجيال اليوم بعد أن هجرت القراءة وضاعت المعاني، وتبدلت العربية بالعشرات من اللهجات المحلية التي غيبت معان المفردات، واستبدلتها بما يتناسب وعصرها التي هي فيه، كان لزاماً أن تتبدل قواعد النصوص النقدية وتذهب إلى التبسيط تزامناً مع واقع العصر المعاش والذي يتصف بسرعة وتيرة الحياة وتبدل كل التقاليد والقواعد الزمنية واللفظية (المكانية والزمانية) بعد ظهور الإنترنت وتقارب المسافات وأختلاط المفاهيم وتداخلها، فما كان يصلح للأمس ليس بالضرورة هو نافع أو صالح اليوم.
إن عملية التفاعل التي يخلقها النص النقدي مابين الناقد والشاعر هي تعبير عن تفاعل ذو اتجاهين من عالمين مختلفين ربما، تجمعهما التجربة، وتلعب موازين الخبرة والذائقة النقدية للشعر أو العمل الفني عموماً لدى الناقد لتفسير ما أراد الشاعر أو الفنان التعبير عنه من مضامين في عمله .
وهنا تكون النظرية (المفرغة)، نظرية تبسيط النص النقدي ضرورة فاعلة تتناسب ومجريات العصر، وانحسار تاثير القراءة وهفوت بريقها الذي كان في العقود السالفة من القرن الماضي، فالعصر الثقافي التكويني اليوم يختلف جذرياً عما كان في الأربعينات والخمسينات وما تلاها وصلاً إلى السبعينات، التي أنفرط العهد الثقافي عامة خلاله، واستبدلت المفاهيم الثقافية عموما بغيرها، وعليه لابد للنقد أن يتماشى والتغيرات المطروحة والمستوى الثقافي الذي عليه الشارع ومنه يتمخض القراء.
لابد من اخراج (النص النقدي) من سيطرة (السلطوية) على شكله بالمجمل، وترك الجمود فيما يستخدم من تعابير هي أصلاً ثقيلة على سمع المتلقي، واستبدالها بمسميات قابلة للتناغم ولغة العصر التي تتسم بالتغيير، كما هو العصر الذي نعيشه اليوم، والحال عامة لاثبات ولا نمط يسير على سكته وبقوالب ثابتة يمتلكها البعض، فيما لايفهمها الغالب من القراء.
فليس بالضرورة أن يكون المتلقي على شاكلة الثقافة التي عليها الناقد، ومن يتعامل بالأسلوب الثابت والقوالب الجاهزة، ومدارس النقد النمطية الكلاسيكية، ليس بالضرورة أن يكون القارئ منتمي لتلك المدارس ولابالضرورة أن يعتنق تلك المناهج السلطوية المتسلطة على فكر القراء لتفرض عليهم قالب واحد يتبع مدارس أسست منذ عصر النهضة وما بعدها، حتى وإن أطلق عليها مسمى (الحداثة)، أو قيل أن ما يأتي به النقاد اليوم من منهج هو التجديد الذي يتوافق وطبيعة العصر وقوالب النص النقدي وقواعده الحديثة، وهو كلام لايعتد به كون كل مايطلق عليه حداثة في النص النقدي سيكون بعد سنوات قصيرة في عداد الكلاسيكي، ذلك أن المنهج المتبع في تشكيل النص النقدي ناتج عن قواعد المدارس القديمة في النقد ومنها بل أبرزها (المدرسة الكلاسيكية).
وأذكر أني قد سبق لي وأن قرأت نصاً يتناول أراء الأستاذ (محمد بنيس، أودونيس) وأرائهم مما يعتد بها في مجالات النقد، تفيد بأن (صعوبات الفهم للمنتج النقدي وفق الطرق التي أرستها المدارس القديمة على اختلافها من قبل القارئ يعد تقصيراً في وظيفة النقد الذي نراه وفق التصورات التي خلفتها المدارس الكلاسيكية قصوراً في ايصال معاني النص إلى القارئ، وتلك الصعوبات قد تكون ناجمة عن توظيف المصطلحات النقدية التي ينفر منها القارئ اليوم في غير مجالها، كاستخدام ألفاظ وجمل غير مألوفة أو صعبة الفهم أو أن تكون ذات عمق فلسفي يحمل تصورات غريبة على فهم القارئ. وبالتوافق مع ما جاء به (محمد بنيس، أودونيس)، نرى أن تغير الحال واقع مفروض وليس طارئ، وهذا التغيير شامل لايجزء، ومنه أن تسري قواعد ذلك التغير على النقد بوصفه جنس من أجناس الأدب، إن تغيرت تلك الأجناس فلا يقف النقد محصوراً في زاوية القواعد النافذة وفق التصورات الدارجة في أسس النقد.
من هنا جاءت دعواتنا للنظرية المفرغة (تبسيط النص النقدي) ونعني بالمفرغة، أي التي لاتحتوي التعقيد في تفسير النص كما في النقد القديم أو الدارج. والدعوة تقوم على أساس تضمين الاستبدال في النص النقدي، فلا يكتب بمضامين خارجة عن مألوف ثقافة العصر الذي نعيش، ومنه تستنبط ثقافة القارئ عموماً. وحسبي أن القارئ يبحث عن ما هو سلس بسيط يتوافق والقراءة السريعة التي باتت تشكل سمة العصر الحالي.
إن أهمية النقد على الساحة الثقافية يتشكل منها حجر الأساس في بناء المشهد الثقافي نحو إنتاج رؤية أعم وأشمل، فالناقد يتناول النص بطريقة مغايرة لما عليه القارئ، وما لايدركه القارئ يفسره الناقد، لذلك فالناقد الحصيف هو الذي يعمل بتوافق الأسس وسرعة رتم الحياة وما يتطلبه استدراك القارئ للمعاني، وتوضيح الصورة التي يضمنها الشاعر أو الكاتب في ثنايا نتاجه الأدبي.
لكن قد يقول قائل أن هذا التحول في حالة النقد قد تفتح الباب لحوار يطول ولاينتهي إلى شيء، ولاينال القارئ منه إلا الضياع وسط ما يطرح من مفاهيم وتنظيرات في النقاش الدائر بين مؤيد ومعارض، وهذه ايضاً تدخل ضمن تفصيل دعوتنا لحل مثل هذا الاشكال، فنحن لاندعو لترك الجذور أو الأسس التي عليها النقد بقدر ما تتضمن دعوتنا التبسيط في طرح النص النقدي وفق أسس وعناصر بناء وتكوين النص، أي عدم الخروج على الأساسيات بل تجاوز ما يشكل صعوبة في الفهم عند القارئ، إلى التبسيط ثم التبسيط وبعدها التبسيط.
ولنذهب إلى مثل معين للتقريب، فبدلاً من استخدام مصطلح (التناص) الذي يتداوله النقاد كجزء من أساسيات صنعة الكتابة، ولتبيان حرفية الناقد في ما يكتب، نقول التشابه في النص أو التشابه في التناول الشعري أو السردي عموماً، (التشابه)، وهو المعنى الحرفي لمصطلح (التناص)، هناك من يذهب إلى تأويل المصطلحات، وطرح تفسيرات ومرادفات عديدة لها اعتراضاً على استبدال المصطلح، والطرح بصورة مبسطة، وهذا من حق أي ناقد أو اديب يتبنى المنهج الكلاسيكي أو الواقعي أو غيرها من مدارس الأدب ومذاهبه، إلا أن المحصلة لاتعدو أكثر من نقاش عقيم لايقدم للفكرة أي اضافات وسيبقى القارئ حائر بين من يعترض ومن يدافع، وتلك هي اللاجدوى بعينها.
سيداتي سادتي ...رتم الحياة تبدل شئنا أم ابينا، وهذا التبدل، وهذا التغيير سيطال كل شيء ومنه تلك الأشياء هو المنهج النقدي، فقد ذهبت تعاليم الكنيسة، وذهبت معها تنظيراتها التي تبين إنها من ابرز أسباب تخلف أوربا في تلك القرون وظهرت مراحل التنوير والانفتاح بعد الثورة الفرنسية، وثبتت أراء أرسطو، واخذ العالم الثائر بما جاء به روسو وفولتير بعد عصر الكنيسة.
اليوم نقول بعد الذي شهدناه من هول التغير الذي لفت صفحاته مشاهد العالم أجمع، ووصلت أن يطال هذا التغيير حتى القيم الإنسانية، فهل سيسلم النقد، هي دعوة للتمسك قبل التخلي، التمسك بالأسس والمحافظة عليها، وضرب التعقيد والتشدد والتمسك بصعوبات ما يكتف النصوص، إلى تبسيطها وجعلها في متناول الجميع فهماً وتفاعل.
***
سعد الدغمان