قراءات نقدية
محمد كريم الساعدي: رؤية نقدية في مسرح الشارع (1)
تساؤلات في أصل فكرة مسرح الشارع
الشارع هو مكان مفتوح لا يمكن السيطرة عليه، تحدث فيه قصص وأحداث مختلفة في كل دقيقة وثانية، وكل قصة لها أحداثها وأبطالها ولها من المشاركين والمشاهدين، وهذه القصص عندما تتحول إلى مسرحية وتقدم من على خشبة المسرح يصبح لها شكل آخر، تكون فيها المشاهدة على وفق ما يقدم على الخشبة من تشويق وإثارة خاصة بتحديد شكل المكان وطبيعة العرض .
إنَّ الشارع وما تحدث فيه من أحداث يكون من المصادر المهمة التي يستقي منها الكاتب أفكاره والمخرج رؤاه الأخراجية والجمالية، كون أن الشارع بمختلف أمكنته يعطي للمشتغل في المسرح مساحة فكرية واسعة للتأمل، لكن هل الشارع نفسه من الممكن أن يكون هو المعطي وهو الآخذ للفعل المسرحي في نفس الوقت؟، أي هل المسرح من الممكن أن يكون هو البديل الذي يقدم عليه الكاتب أفكاره والمخرج رؤاه من بعد ما كان الشارع هو المغذي الرئيس لهذه الأفكار والرؤى الإخراجية؟، هذه من جهة، ومن جهة أخرى، هل الشارع يصلح أن يكون مكان للفرجة المسرحية بشكل قصدي مباشر؟ من خلال عرض مسرحي يقدم بعنوان مسرحي أصيل يحوي على عناصر درامية وتكوينية وجمالية؟، أم يكون مكان للفرجة بشكل قصدي غير مباشر من خلال عرض مسرحي لا يبيّن للجمهور في الشارع بأن ما يقدم هو مسرح، ومن ثم يقنع المشاهد بأنه حدث يومي عابر يحدث في الشارع كما هي العادة في كل يوم في هذا المكان؟.
وبتصور آخر: هل أن مسرح الشارع هو: حكاية ما يحدث يومياً في الشارع من خلال أشخاص يجسدونها ويقدمونها للآخرين الذين يقفون عندها لدقائق ومن ثم يواصلون سيرهم في أشغالهم ومتعلقاتهم اليومية واهتماماتهم التي تنسيهم ما شاهدوه وتابعوه من أحداث طبيعية حدثت أمامهم في الأسواق العامة والساحات المفتوحة؟. أم أن مسرح الشارع يوصف بأنه عرض مسرحي محبوك على أساس درامي يشبه بما يقدم على خشبة المسرح، عرض مسرحي يتدرب عليه أصحابه من ممثلين وتقنيين لأيام وليالي قد تصل إلى شهور مع أزياء خاصة وإكسسوارات متعلقة بالعمل المسرحي ذاته، وبعض القطع الديكورية التي قد تكون بسيطة تلاءم طبيعة المكان ويأتي الجمهور ليشاهد عرض مسرحي بعنوانه ومكانه المحدد للوقوف والمشاهدة كون أن هذا العرض المسرحي ينتمي إلى مجال مسرحي درامي بحت؟.
أليست مشاهدة حدث عابر كما يحدث بشكل يومي في الشارع أمام المارة قد لا يعون بأنه عرض مسرحي هو مسرح شارع؟، وإذ وعوا الظاهرة بأنها دراما أخرى تختلف عن دراما المسرح التقليدي، مقدم أمامهم يعرفون بأنها تحمل طابعاً فرجوياً درامياً ينتمي الى الفن المسرحي بما تحمله كلمة مسرح في هذا المجال؟ . كذلك هل سيختلف الحكم لديهم في حال تقبلهم لها، أي دراما مسرح الشارع بنفس تقبلهم للدراما التي يشاهدونها في المسرح التقليدي؟ . وهل سيختلف الغرض بين الدراما التقليدية والدراما المقدمة في الشارع، كون أن ما بينهما يوجد تدرجات في الرؤى والحكم والنقد حول طبيعة وانتماء هذا الشكل الدرامي أو ذاك . إذ يوجد عرض مسرحي يحمل طابع الدراما هدفه المتعة والترفيه، ويوجد عرض مسرحي هدفه ليس المتعة والترفيه للمتفرج، بل هدفه التحريض السياسي والاجتماعي وغيره .
إنَّ الممارسات النقدية الموجهة لشكل العرض المسرحي وطبيعته جعلت من تحديد الغرض من وراء انتماءات المسرح لأمكنة (مفتوحة،أو مغلقة) تقع في جدلية تحديد الشكل المسرحي وخصائصه الجمالية والفنية، كون أن هذه الآراء أصبحت في جدال مستمر تجاه كل عرض مسرحي وخاصة التي تقدم في الأماكن المفتوحة بأنها تنتمي لمسرح الشارع حتى وإن كان أصحاب هذا العرض لم يقصدوا الأنتماء لهذا الشكل المسرحي .
من هذه التباينات بين المشتغلين في المجال المسرحي، أو المجال النقدي للمسرح جاءت بوادر الأختلاف والانقسام بحقيقة وطبيعة مسرح الشارع، وما هي طبيعة هذا المسرح؟ وما هي الانتماءات الحقيقية لهذا المسرح؟ هل ينتمي من طبيعة عروضه إلى الطريقة التي تتوافق مع المسرح التقليدي؟ أم هو ظاهرة عادة ما تكون أقرب إلى سلوك وطبيعة الحدث اليومي العادي الذي يقع في الشارع بين الناس من الأفراد والجماعات بشكل يومي؟ .
ومن ثم فإن على من يريد أن يتصور دراما الشارع عليه أن يأخذ بالحسبان جانبي المفاجئة والصدمة للمتفرج، المفاجئة للحدث الذي يقع، والصدمة للمتفرج عندما يعرف بإن ما حدث هو دراما وليس حدث ينتمي للحياة العادية .
أن هذه الدراما قد تقع في حياتنا دون أن تكون ممثلة، أو تقع في حياتنا وهي مصممة على أن تكون شبيه بما يحدث في الشارع يومياً لكنها ممثلة وليست حقيقة، ومن هنا يكون جانب الصدمة والتساؤل؛ لماذا قدمها أصحابها هنا وليس في المسرح؟ أي، لماذا في الشارع وليس على الخشبة؟ وما هي الرسالة المختلفة بين الشارع والخشبة؟، وهل هذه الرسالة ممنوعة على المسرح مما أضطر أصحابها أن يقدموها في الشارع؟، وهل الشارع أكثر حرية من الخشبة؟ أم ماذا كان المقصد والغرض من العرض في مثل هكذا مكان والقصد هنا الشارع .
تساؤلات عديدة واختلافات كبيرة بين المشتغلين في مجال المسرح حول مفهوم مسرح الشارع، وحول الاصطلاح والأشتغال، وحول الغرض منه، وما هو الفارق بينه وبين المسرح الذي يقدم على الخشبة في مسرح العلبة وغيره من الأمكنة المخصصة للمسرحيات التقليدية. من هذه التساؤلات، نتبين حقيقة مسرح الشارع ونحدد على وفق المسار التاريخي والفني الدرامي طبيعته واشتغاله ومقاصد أصحاب الفكرة من وراء تقديمها في الشارع وليس على الخشبة في المسارح المغلقة . هذه التساؤلات وغيرها جعلت من مسرح الشارع ووجوده إشكالية متداولة بين أصحاب الاختصاص ذاتهم .
***
أ. د. محمد كريم الساعدي