قضايا

عبد الأمير الركابي: "الوطن كونية العراقية" حين تظهر (4)

اذن مر تاريخ المجتمعية اليدوية على الكائن البشري بدون ان تعي المادة الحيه حقيقة ومنطوى ماهي  عنصر  وخلية وجوده وتشكله،  ومع ذلك  ورغم الحاصل اليوم من انقلاب  نوعي في الاشتراطات الوجودية المجتمعية، فقد جرى التصرف قصورا على اساس ان العقل المتاح  مؤهل،  للاحاطة بالمستجد  بلا اي شك، فعومل على انه القادر على ادراك منطويات الانقلابيه الالية بداهة،  بحيث لم يظهر وقتها والى الساعه،  مامن شانه الدلالة على الرغبة في التوقف امام ما يمكن ان يكون غير ظاهر، وليس متوفرا التعرف عليه في لحظته، بانتظار السياقات والتداعيات واجمالي المسار الالي غير العادي والاستثنائي بكل المقاييس.

ومن الواضح بلا لبس ان التناقضية المركبه كانت هي المتغلبه وقتها،  وكمثال فان اصحاب ومن اسسوا ل"علم الاجتماع" لم يسالوا وهم يقرون قصورية العقل البشري في الماضي الطويل اليدوي لهذه الجهه، عن مستجدات هذه الناحية الاساسية المتوقعه في الوعي، وكيف يمكن للعقل القاصر على المدى المنقضي ان ينقلب فجاة ليتحول الى القدرة على اختراق ما هو فائق ومختلف نوعا، مع ان الانقلاب الراهن لم يحصل عقليا بل ماديا على مستوى الوسائل الانتاجية، هكذا تعتبر الاله  وكانها حاضرة كسبب لتخلص العقل من قصوريته التاريخيه، لا على صعيد بعينه، بل واستعمل مثل هذا  الفهم الاقرب للاحتيالي، لاعتبار النقلة الاليه بحد ذاتها نقلة عقلية، عزز الركون اليها ما قد حصل في حينه من منجز عقلي مقارنه بما قبل، ومايعود الى الطور اليدوي المنقضي  ومجمل منجزه الادنى.

لم يات على البال بان العقل السابق على الانقلاب الالي هو "عقل يدوي"، في حين ان العقل الحالي لم يصبح بعد "عقلا آليا"، بمعنى المتطابق مع الاشتراطات الانقلابيه النوعية الراهنه، مايحتاج الى زمن من التفاعلية، ومن الاختبار واحتمال التقلبات، والمحاولة والخطا، ومن تطور العقل بضوء التفاعلية، كما كان حصل من قبل مع بدايات تبلور الظاهرة المجتمعية اليدوية، واجمالي مغامرتها الكبرى وعيا، قبل ان تستقر بمرور القرون ملامح وحدود الوعي المتاح المطابق للحظة البدئية التاسيسية.

هذا ويبقى العنصر الشديد الاهمية ضمن المشهد المختل الانف، العجز عن ربط منطويات الماضي واحتمالاته وماقد يكون حاضرا ويبقى مستمرا بانتظار اجمالي متحققات المسار المجتمعي الشامل، وهنا على سبيل المثال يحضر امامنا مثال ما قد اعتبره صاحب النظرية المادية التاريخيه بمثابة "عود على بدء" من "الشيوعية البدائية" الى " الشيوعية العليا المكتمله" بحيث يصير التاريخ وحركته ومساره هو تحقيق لمالم يكن بالامكان تحققه عند الابتداء، والصورة المشار اليها دالة بغض النظر عن توهميتها، لارتكازها للازدواج " الطبقي" بدل المجتمعي الرافديني المابين نهريني، حيث يفترض ومن قبيل اللازم وجوبا القول باللاارضوية المنتهية الى اللاارضوية، تبدا اولا في ارض سومر غير متوفرة على اسباب التحقق الواقعي ماديا وادراكيا، الى ان تتوفر الشروط مع انتهاء صلاحية المجتمعية الارضوية، بناء على مفاعيل الانقلاب الالي، ومايذهب اليه حكما بعد حقبة  التوهمية الافتتاحية للطورالمستجد  كما تقرره اوربا الارضوية، الاعلى ديناميات اصطراعيه ضمن نمطيتها.

ناحية اخرى لا يجب ان تغفل بهذه المناسبه، هي ما يمكن ان نطلق عليه التوافق النمطي الانتاجي، وهنا نصبح امام موضوعه جديره بالبحث جوهرها الواجب الاثبات صلة المجتمعية الارضوية باليدوية، بما يجعل الموضع الذي ظهرت فيه الاله خارج الارتقاء الى مستوى الانقلاب الالي ومقتضياته، في حين تنتمي المجتمعية اللاارضوية ابتداء الى الطور الالي ومنطوياته، وماهو موجود لكي يتمخض عنه، فالمجتمعية اللاارضوية توجد ابتداء قاصرة وغير قابلة للتحقق لافتقادها للوسيلة المادية ما فوق اليدوية، فضلا عن الادراكية العقلية التحولية، وهي تظل بحال تفاعل انتظاري لحين وقوع الانتقال الالي، ووقتها ندخل زمن المجتمعية اللاارضوية، في حين تاخذ المجتمعية الارضوية بالتراجع وجودا الى ان تفقد اسباب الاستمرار، وكما غلبت الارضوية وسادت وظلت هي  النموذج على حساب اللاارضوية ابان الطور اليدوي، تبدا الاشتراطات الحالية الالية بقلب المعادلة لصالح اللاارضوية والمجتمعية العقلية مكان الحاجاتيه الجسدية.

هذا لا يعني ان المجتمعية الارضوية لاتتاثر بحضور الاله التي تدفع الاليات المجتمعية  مسرعه اياها الى اقصى حد، مايدفع العقل الى الوثوب حتى ضمن ممكناته من دون الخروج عن حدوده،  وما يسمح به نوعه، فتظل المنجزات الكبرى ارضوية في الجوهر، وكامثلة انجازية اشتثنائية من نوع وثبة دارون العقلية، فان نظرية النشوء والارتقاء تظل محكومه الى الجسدية، فلا ينتبه  من ارسى اسسها الى كون الارتقاء عقلي وليس جسديا، رغم انه هو نفسه يقر بان العضو الجسدي بلغ قمة ترقيه النهائية، في وقت يستمر العقل منطقيا بالتطور، وبالعموم فان نفي الازدواج في البنيه البشرية يظل لهذه الجهه حاسما ومدعاة تكريس للجسدية، مع الاعتراف الشكلي بدور العقل بعد وثبته الاخيرة  مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، والشي نفسه يتكرر مع منظر الانقلابية الطبقية الذي يعجز قصورا عن رؤية ان اكتشاف الصراع الطبقي قد جاء اليوم في لحظة انتهاء مفعول الطبقات التي هي بالاحرى نتاج الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي، وان دخول عنصر الالة مضافا الى البيئة قد غير كليا ديناميات التشكل المجتمعي الاول، ومنه  وفي مقدمه، الطبقي، وحتى انشتاين الذي يولي اهتماما بمسالة السرعة والكتله، يعجز عن رؤية احتمالية انتهاء الملموسات مع الانتقال الى المجتمعية العقلية وانتهاء زمن الجسدية اليدوية، مايجعل من مجهوده  ومنجزه الارضوي العبقري بلا قيمه حين يظهر في اللحظة  التي يكون فيها النموذج او الصيغة الارضوية الجسدية من المجتمعية على وشك المغادرة،  تاركا المجال لنقيضه  اللامادي اللاكتلوي اللازمنوي المغيب على مر القرون اليدوية قصورا.

عند هذه الحدود تتوقف الوثبة الارضوية الاليه وحداثتها الكبرى بصفتها قفزة يدوية محسنه ومتقدمه، في الوقت الذي تصير فيه هي والاله مادة تشكلية جديده، ومسار تاريخ هو التاريخ الآلي الذاهب الى الاكتمال تشكلا بالتجربة والتفاعل الاصطراعي، بعدما تاخذ الاوليات التاسيسية الانتقالية الحداثية مع الزمن وفي مجرى التفاعل الشامل كونيا، بالتراجع والتعثر مفتقدة الفعالية الافتتاحية المصنعية، وصولا الى التأزم الذروه مع بلوغ الاله ضمن تدرجاتها نوعا وفعالية، من "المصنعية"، الى" التكنولوجية الانتاجية" الحالية، الى "التكنولوجيا العليا العقلية"، وقت يحل التفارق بين وسيلة الانتاج والانتاجية الارضية الجسدية، لتحل محلها ضرورة الانتقال الى الانتاجية العقلية، اللاغية للانتاجية الجسدية، الامر الذي يوجب وقتها حضور اللاارضوية  ادراكا وكينونة، لتحل محل الارضوية، انطلاقا من ارض اللاارضوية الاولى ذهابا الى العالم ككل.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

في المثقف اليوم