قراءات نقدية
ثامر الحاج امين: ملامح من سيرة الخطأ الذي لا يتكرر في رواية لم تكتمل
مبادرة طيبة تحمل الكثير من المعاني النبيلة وسابقة ثقافية ملفتة للنظر تلك هي اصدار رواية غير مكتملة، حيث لم يسبق لدار نشر ان أقدمت على هذه المغامرة، ولكن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق ومن باب الشعور بمسؤولية الاهتمام بإرث المبدعين والحفاظ عليه من خلال التوثيق قام بنشر الفصليين اليتيمين من رواية الكاتب العراقي (عبد الستار ناصر 1947 ــ 2013) التي ظلت حبيسة الأدراج طيلة سنين طويلة حيث رحل كاتبها وتركها ناقصة وذلك بسبب الامراض المتعددة التي داهمته وحالت دون اكمالها، وكان للكاتبة هدية حسين ــ زوجة الراحل ــ دورا كبيرا في الحفاظ على أخر ما كتبه الراحل ومن بينها فصول روايته المذكورة فقد بادر الاتحاد مؤخرا وضمن منشوراته الى اصدارها بكتاب حمل عنوان (عبد الستار ناصر.. رواية لم تكتمل)، وهذا العنوان جاء موفقا ومنسجما مع حالة الاثنين ــ الكاتب والرواية ــ فهما ابداعان غابا قبل ان يعطيا كل ما لديهما، كما جاءت مقدمة الكاتبة هدية حسين هي الاخرى منسجمة مع طبيعة النص فقد أضاءت جانبا من سيرة الكاتب في سنواته الأخيرة وظروف رحلتها المضنية معه قبل رحيله والفراغ الذي تركه غيابه مشيرة فيها الى الحلم الذي ظل يراود الروائي بالشفاء والعودة الى العراق، كما تضمنت المقدمة معلومات مهمة منها ان الراحل عبد الستار ناصر توقف عن اكمال الرواية ودوّن في مخطوطتها (هذه الرواية كتبتها في 7 حزيران 2009. توقفت عن الكتابة في 19 تشرين ثاني بسبب اصابتي بجلطة في الدماغ ص 31) بعدما اختار لها عنوان (وصية خريف)، وتشير الكاتبة ايضا الى انها عزمت بعد غيابه على اكمال الرواية واستشارت لهذا الأمر عددا من الشخصيات القريبة من الروائي الذين رحبوا بالفكرة الا انها تراجعت عنها معتذرة لكاتبها قائلة (وعند الشروع بالكتابة وجدتني أحرث في حقل لا يشبه حقلك ومن الصعوبة ان اعيد الحياة لحياة فرت من مبدعيها لذلك ركنت الفكرة ص 9) اذ من الصعوبة ان يأتي عمل ابداعي منسجم يقوم على كتابته قلمان وفكران واسلوبان مختلفان ربما نجح في ذلك الكاتبان المبدعان " عبد الرحمن منيف " و " جبرا ابراهيم جبرا عندما اشتركا في كتابة رواية " عالم بلا خرائط " الا انها ظلت مغامرة يتيمة، يذكر ان الكاتب عبد الستار ناصر شرع بكتابة روايته تحت تأثير عاملين ضاغطين هما المرض والغربة حيث كانت البداية أيام وجوده في عمان 2009 ونشر أنداك فصليها اليتيمين ولكنه عاد من جديد الى مراجعتهما واعادة كتابتهما على أمل تكملة الرواية قبل رحيله في عام 2013.
تصدر الكتاب ــ الرواية التي لم تكتمل ــ مقدمة وعدد من الرسائل واليوميات كانت الكاتبة "هدية حسين " قد كتبتها ونشرتها في مناسبات ذكراه وسلطت فيها الضوء على ظروف هجرتهما من العراق والمعاناة التي واجهتما في تنقلاتهما واسفارهما المتعددة، ففي "رسالة اولى الى عبد الستار ناصر" تكشف الكاتبة جانبا من المعاناة التي عاشتها مع الراحل ايام وجودهما في عمان وكيف كانا يزوغان في الطرقات الضيقة هربا من عيون العسس الذين قدموا من بغداد الى عمان لملاحقة العراقيين الهاربين من بطش النظام واضطرارهما الى تغيير الشقق الصغيرة التي سكنا فيها، وكذلك اجترار ذكريات الاصدقاء الذين رحلوا عن الدنيا والامراض التي داهمت جسد الكاتب وعن (بغداد التي ما خرجنا من عباءتها والتي اصبحت اقرب من حبل الوريد بعد ان غادرناها ص13) ومعرجة على وفاء الاصدقاء في بغداد الذين حال وصولهم خبر وفاة عبد الستار قاموا بتأبينه وايقاد الشموع وساروا بنعش رمزي وطافوا به في شوارع بغداد وتختتم رسالتها الأولى بـ (لا لن تمت.. ولن. فأنت موجود في كل رواية وقصة ومقالة طرزتها اصابعك ص18)
في رسالتها الثانية اليه التي كتبتها بعد مرور سنوات على رحيله يأخذ لوم النفس وتأنيبها مساحة من سطور الكاتبة فهي تسأل نفسها (لماذا خرجنا من العراق؟ ولماذا لم نبق في عمان؟ ولماذا جئنا الى كندا؟ كان علينا ان نتريث؟ ولماذا لم نتريث؟ أم كنا نبحث عن قبر في أقصى العالم بعد ان ضاقت بنا الأمكنة ص19) كما تكشف بعضا من مشاكساته معها فهو سبق ان وصف شخصيته بـ " الخطأ الذي لا يتكرر " لكنها عندما كانت تغضب منه تقول له (انت الأخطاء جميعها التي تتكرر ص19) وهو يرد عليها بضحكة مجلجلة (انا لا احب الصواب يا حبيبتي.
بعد سنوات على رحيله وعودتها الى مسقط القلب ــ العراق ــ تكتب رسالة ثالثة تذكر فيها شدة تعلق الشاعر بالعراق وان الانتماء له لا يضاهيه أي انتماء اخر فقد كان يقول لها قبل حصولها على الجنسية الكندية (سيبكي قلبك يا هدية، فما ان تمسكي بالجنسية حتى تحسي بأنك انسلخت عن العراق ص 23) .
كما تسرد الكاتبة في يومياتها ظروف هجرتهم من عمان الى كندا والصعوبات التي واجهتهم ومنها الضائقة المالية التي اضطرتهم الى السكن والمعيشة في شقق غير ملائمة، وفي مشهد قاس ومؤثر تستعرض فيه وقائع ليلة وفاة عبد الستار ناصر والاجراءات التي قامت بها السلطات الصحية التي هرعت الى بيته في محاولة لإنقاذه لكنها لم تفلح في ذلك فقد وجدته قد فارق الحياة مصححة فيها الأخبار الخاطئة التي تناقلتها الصحف والمواقع بشأن مكان وزمان وفاته.
بعد المقدمات واليوميات والرسائل المتعددة يأتي الفصلان اليتيمان من الرواية التي اهداها الى الشاعر فوزي كريم، ومنذ استهلال الرواية تشعر ان بطلها "عزيز " هو عبد الستار ناصر نفسه في مغامراته مع النساء وتجاربه المثيرة او على الأقل في سنواته الاخيرة التي قضاها متنقلا بين المطارات والمحطات وعواصم البلدان، فـ " حليمة " الشخصية الرئيسية الثانية في الرواية التي يقضي الكاتب في فصليه بحثا عنها بين مصر وبوخارست وبودابست والبصرة لم تكن مجرد امرأة فحسب انما كان يرمز فيها الى حياة الدعة و الاستقرار التي ظل الكاتب يبحث عنها في تلك الأمكنة، فهو يستهل الرواية بمشهد انتظار " عزيز " ــ البطل ــ في محطة القطار الذي سوف يقله من بوخارست الى بودابست قادما من صوفيا بحثا عن امرأة قالت له (ذات يوم : سأعيش بقية عمري هنا اذا تخليت عني ص38) " حليمة " التي هجرته بعد ان دوختها خياناته وأكاذيبه التي يصفها مغمسة بالتوابل، وحال وصول قطاره يتوجه الى الفندق الذي عاش فيه مع حليمة جانبا من مغامراته وفوضاه فيجد انها قد تركت له رسالة تقول فيها (ما دمت قد أتيت فأنا عدت ُ الى البصرة أيها الخائن الجميل ص39) الأمر الذي يضطره للعودة الى صوفيا من أجل اللحاق بحليمة في البصرة ويفاجأ في القطار برسالة تركتها حليمة لدى النادل تقول فيها (أراك أينما وليت وجهك ولن تراني مهما فعلت ص 40) كأنها تلازمه اينما ذهب، ومن أجل الوصول الى حليمة وفي ظل ارهاق الافلاس يضطر في العاصمة البلغارية صوفيا الى العمل في غسل الصحون والفناجين في المطاعم والبارات لكي يتمكن من البقاء بعيدا عن رقابة الشرطة التي تفتش عن المهاجرين غير الشرعيين ويلجأ الى النوم ليلا على مصاطب المحطات والحدائق والغابات وعلى مقربة من الكنائس توفيرا للنقود الى ان تظفر به "جانيت " وهي شرطية بلغارية نائما على مصطبة في غابة وينتهي به الحال مبعدا ومرميا على رمال استانبول مع جوازه المختوم بمنع دخوله صوفيا ثانية حيث يجد نفسه من جديد في العراق وتحديدا في البصرة وعلى مقربة من حليمة (ما دمت اشعر بالخوف، ذلك يعني انني في جزء من بلاد الرافدين ص 44)، لم يصبر طويلا في البصرة التي كانت تعيش حربها الطويلة فبعد ان يفشل في اللقاء بحليمة يضطر لمغدرة البصرة والهرب الى سوريا متخفيا بزي عربي فهو لا يريد ان يموت في تلك الحرب وهناك يشتغل بائعا للصحف والمجلات وفي غسيل السيارات وغاسل صحون وكذلك في الملاهي الليلية على أمل العودة الى البصرة والظفر بحليمة، وتستمر لعبة رسائل حليمة التي تصله بطريقة غريبة في كل مكان يصل اليه فحليمة هي الأمل الذي لا يتركه ييأس من الظفر بالسعادة التي ذاق لذتها في مرحلة من حياته لكنه فرط بها وأضاعها نتيجة انغماسه بالمتع والموبقات والخيانات العاطفية وفي لحظة ندم متأخرة يأتي اعترافه (هكذا ضاعت مني حليمة العسل، أخطائي كانت اكبر مني وموبقاتي ايضا ص 55) ويظل حلم اللقاء بحليمة ثانية محور فصلي الرواية ولا ييأس من الظفر بها (اختصرت الحياة كلها في امرأة لم اعد أعرف اين مكانها، أذهب من أجل عينيها الى بودابست كمن يبحث عن ابرة في كومة قش ص 58) والذي يؤكد وحدة شخصية البطل مع عبد الستار ناصر الذي اطلق على نفسه يوما عبارة (عبدالستار ناصر الخطأ الذي لا يتكرر) يعيدها البطل عزيز في لحظة اعتراف (رتبت حياتي خطأ ينبع من خطأ يدخل في خطأ، لهذا قلت عن نفسي انا الخطأ الذي لا يتكرر ص 62) الى ان تدخل حياته امرأة اخرى هي " نجوى فاروق " فيعيش حائرا (في ورطة اسمها البحث عن امرأة ضاعت واخرى هبت على حياتي ص 78).
في المقدمة أشارت الكاتبة هدية حسين الى ملاحظة جاء فيها ان الكاتب بعد التوقف الطويل قام بإعادة كتابة فصلي الرواية وذلك بدمجهما وجعلهما فصل واحد واعاد صياغة ما كتبه سابقا كما أجرى الكثير من التغييرات ومنها أضافة شخصية جديدة هي شخصية " نجوى فاروق " مما اوقع الكاتب في تكرار عدد من المقاطع ربما فقدان شيء من التركيز بسبب اثار المرض او بسبب عدم المراجعة الدقيقة للنص وهذه الملاحظة لن تقلل من جمالية وقيمة البنية السردية التي عرفناها في أدب عبد الستار ناصر والتي أكدتها هذه الرواية التي أراد المرض ان يترك نهايتها مفتوحة وللقارئ ان يضع لها النهاية التي تنسجم مع تطلعاته فهي رحلة التشبث بالأمل والبحث عن حياة الاستقرار التي تمثلها شخصية "حليمة العسل".
***
ثامر الحاج امين