قراءات نقدية
جمعة عبد الله: التهجير وإسقاط الجنسية العراقية في رواية: نزيف المسافات للكاتب صالح البياتي
المتن الروائي يتحدث عن أحداث الدراماتيكية حدثت فعلاً في فترة حكم البعث، وجاءت بشكل عمل توثيقي وتاريخي وبكل الادلة المتوفرة (مدونات. وقائع، وثائق، خزين الذاكرة. مشاهد عملية وحياتية، أفعال ظاهرة الى غير ذلك) لتكون شهادة عيان للنهج الشوفيني والإرهابي في سلوك البعث المتسلط في البطش والتنكيل لجموع شرائح المجتمع العراقي عامة، وخاصة الشريحة الاجتماعية الاكراد الفيلية التي وقع عليها العبء الاكبر في التهجير وسحب الجنسية العراقية، وتعرف عن هذه الشريحة الاجتماعية حضوراً فعالاً من النشاطات المتنوعة في الجسم العراقي، في نشاطاتها السياسية بصبغة وجهة نظر تقدمية متنورة تصب عكس عقيدة البعث الفاشية ونهجه الارهابي، كما أنها برزت بالشخصيات البارزة والمرموقة في النشاط الحياتي والتجاري والعلمي والأكاديمي، وكذلك انتمائها الى اليسار العراقي. لذلك هم بالضد من الاسلوب الارهابي المستبد في طغيانه في فرض عقيدة البعثية بالقوة والاكراه على المواطنين، وخاصة بعد استلام (صدام حسين) مقاليد السلطة بعد ارتكاب المجزرة الرهيبة في قاعة الخلد، ضد مئات من القيادات والكوادر البعثية المتقدمة. وبدأ يدخل العراق في نفق مظلم لا مخرج له، بتصاعد الهجمة الشوفينية في إسقاط الجنسية والتهجير الاكراد الفيليين، وزج شبابهم في السجون والزنازين للابادة الجماعية، بدأ بقراره الشوفيني الصادر من مجلس قيادة الثورة عام 1979 الذي يقول صراحة (تسقط الجنسية العراقية من كل عراقي من أصل أجنبي) بحجة التبعية الايرانية، والمعروف ان الشعب العراقي حسب الوثائق الرسمية منقسم الى فئتين، التبعية العثمانية والتبعية الايرانية، وبعض العراقيين للهروب من التجنيد، سجل أنه من التبعية الايرانية. والهدف الواضح بأن شريحة الأكراد الفيليين معروفين بشكل عام بالتوجه الى الايديولوجية التقدمية، وحتى يتخلص (صدام حسين) منهم حتى يفتح الطريق للتسلطه الطاغي، ولم يكتفِ بهذا فقط في نهج الارهاب وانما طارد تجار الشورجة وهو اكبر سوق في بغداد يديره الاكراد الفيلية بشكل عام. والحدث السردي يتطرق باحداثه اليومية، يتعقب هذه الظاهرة الشوفينية من كل زاوية، ويتوغل في عمق محنتها وازمتها المريرة في مأساة التهجير بشكل فظيع ووحشي، في معاناة قاهرة لا توصف، لتجعل العراق ينزف بجراحه المؤلمة، أن تكون حياة المواطن مهددة : اما بالسجن أو التهجير، من اجل تكريس كرسي القائد الاوحد، الذي نصب نفسه الرب الاعلى، أو رب الارباب الذي يمنح الموت والحياة كما يرغب ويشاء، وبرعونته المجنونة والمتهورة والحمقاء، ثم يلوح شبح إعلان الحرب ضد ايران، ليحرق الحرث والنسل، بحرب مدمرة لا الناقة والجمل فيها ولا مصلحة للشعب في اشعالها، وانما هي رعونة جنونية لإشباع نفسيته المريضة المصابة بمرض جنون العظمة أن يلعب بمقدرات ومصير العراق ويدفعه الى التهلكة، الحدث السردي يلاحق السيرة الحياتية لشخصية (إجباري) في رحلته الحياتية الطويلة والمعقدة. كان منذ طفولته يمقت اسمه (اجباري)، لأنه محل تندر وتهكم واستهزاء، فطلب من أمه أن تغير اسمه، لأنه لم يعد يتحمل. فاخذته الى المحكمة لتغيير الاسم وأصبح اسمه الجديد (نوح) تيميماً ب (نوح) القديم الذي أنقذ الناس من الطوفان، ولكن (نوح) الجديد هل يكون قادراً على إنقاذ الناس من طوفان البعث المدمر؟ هذا ما يحاول أن يفسر ويحلل في عتبات الحدث السردي أن يلاحقه ويتابعه في التفاصيل اليومية الدقيقة عبر سيرته الذاتية الطويلة، وهي سيرة مصغرة من سيرة العراق الكبرى. ولادته في مدينة العمارة (ميسان) مدينة الطين والماء والانسان البسيط المتواضع والسخي والكريم، تدرج (نوح) بكل جدارة وتفوق في الدراسة والتعليم من المدرسة الابتدائية حتى حصوله على شهادة الماجستير ويتطلع الى الحصول على الشهادة العليا الدكتوراه، ولكن يجد نفسه يدور في حلقة الأحداث اليومية العاصفة، التي تعمل على تحويل الناس الى كبش فداء للإرهاب والحرب، ان ينحني أمام العاصفة المدمرة، وانشغال الناس بقلق عن مصيرهم (ولماذا أهتم به، ولأي شيء ؟
- الموضوع سيدي يتعلق بالحرب
- أي حرب !
الحرب الي ستشتعل قريباً) ص97. هذه الطعنة القاتلة ترتكبها السلطة البعثية والقائد الارعن المصاب بجنون العظمة، ان يقود العراق من حربٍ الى حربٍ، سواء في الداخل أو في الخارج، بأسلوب شوفيني عرقي صرف. والمواطن المسكين والضعيف يتلقى الطعنات القاتلة تحت سيف البعث، وكل الابواب مسدودة في وجهه، أين يذهب وأين ويلجأ، هل هناك مأوى أو وطن آخر (وهل لي وطن آخر، غير هذا الذي أنبتني كأعشاب البراري، ولوحتيني شمسه السخية، ولفعتني ريح السموم، فأحرقت ونضج جلدي، كما تنضج جلود الكفار في نار جهنم، هناك في كل مكان آثار أقدامي، وعلى تراب واوحال الازقة، اعيدوا لي أحلامي، حينما كنت اغفو كفراشة تحت أفياء نخيل البساتين في عواشه، والجدة، اعيدوا لي همساتي العاشقة للنهر وولهي الحزين المجنون بليل ميسان) ص144. ومن مهازل سلطة البعث، في توجيه التهم الى المواطنين، وتقديمهم كمجرمين الى محكمة الثورة السيئة الصيت والسمعة، ان تكون الاحكام معدة سلفاً، ولا يحق للمتهم أن يختار محامي يدافع عنه، بل المحكمة تعيين محامي، يقوم بدوره تأييد الأحكام الصادرة (- لأنه لا يحق للمحامين مستقلين القيام بذلك
- وهل يستطيع حقاً أن يقوم بواجبه كما نبغي
- هنا تكمن المشكلة، لأنه في المحاكم يجب أن يتصرف محامي الدفاع كالمدعي
- كيف ستتحقق العدالة إذن !
-لا أهمية لذلك في محكمة الثورة) ص225. ازاء تدهور الاوضاع الى الأخطار الجسيمة في سلطة تدار بعقلية شوفينة حمقاء مهووسة الى الارهاب ونزيف الدماء، وجد (نوح) نفسه عاجزاً في الإنقاذ الناس كما فعل (نوح) القديم، لذلك وجد أسم (نوح) غير ملائم ومناسب أمام الأهوال والمصاعب التي تصيب الناس بشكل غريب وغير عقلاني، وانه مجبر على الرضوخ، لذلك وجد اسمه القديم (اجباري) اكثر واقعية و ملائم ومناسب لهذا المناخ المتوحش، لان كل الناس مجبرين بالاجبار على الاحباط والرضوخ والهزيمة، لذلك تقدم بطلب الى المحكمة في العودة الى اسمه القديم (- لا يهمني... لم أعد أهتم بذلك. إنما جئت لاعرف هل استطيع أن اعود لأسمي القديم اجباري؟
تفاجأ القاضي بسؤاله، وظل صامتاً لا يجد جواباً.
- ألم تسمع السؤال، هل ينبغي عليَّ ان اعيده عليك؟
- ولكن لماذا تريد أن تغير أسماً اخترته أنت، وصار الناس يعرفونك به.
- لأنه لم يعد يناسبني، ولا استحقه) ص325.
***
جمعة عبد الله