قراءات نقدية
حبيب ظاهر حبيب: قراءة فيعرض مسرحية (انا.. ماكبث)
عتبة النص/العرض
العنوان هو العتبة التي يخطو المتلقي من خلالها الى الانطباع الاولي، ويدخله الى عوالم النص/العرض، والعتبة هنا (أنا) ماكبث وليس كل التركيب النفسي لشخصية ماكبث. شخصية الإنسان مكونة من (الهو – الانا – الانا الاعلى) بحسب (سيغموند فرويد) الأنا هي وعي الفرد الخالص لا تخالطه الرغبات والغرائز وليست وعيا جزئيا، ماكبث واضح، فلا عقد لديه ولا صراعات ولا مشاكل تعكر صفو الدفاع عن نفسه، انه يريد إثبات براءته من جريمة قتل الملك (دنكان) بتعزيز من زوجته المساندة له دائما، قدم المؤلف (الأنا) على جميع الشخصيات والأحداث وجعلها بارزة في بنية النص، ومن البراعة اختيار المؤلف لأجواء ما بعد الموت لوقائع دفاع (أنا) ماكبث عن نفسها، انها تريد إحقاق الحق حتى لو كان هو والقاضي الملك لير ودنكان الملك المقتول في قعر الجحيم ويحيط بهم حراسها
جاء وصف حالة ماكبث النفسية على لسان إحدى الساحرات: (ان ماكبث يصرخ ويثور ويغلي كالتنور في كل ليلة صارخا برفات الموتى بأنه قد غدر به التاريخ وحواشي الملوك ومدوني الشعر) ينهض ماكبث وتبدأ الأحداث لتشكك المتلقي بما عُرِف من مسرحية شكسبير، وتزيح قناعته بصدقية كتابته للتاريخ، مع ملاحظة ان الصدق الشعري الذي جاء في المسرحية أكثر بلاغة من الصدق التاريخي بل وأوسع انتشارا، وهنا جاء المؤلف منير راضي ليعيد كتابة (ماكبث) بصدق شعري جديد، على وفق قراءة معاصرة ذات وجهات عدة منها:
- ما كتبه الشاعر (شكسبير)
- ما كتبه المؤرخون / روفائيل هولينشيد
- ما ورد في متصفح جوجل
- ما جاء على لسان الساحرات (المعاصرات)
تم استعراض هذه الوجهات برؤية يستشفها المتلقي بعد أن حدد مسارها المؤلف منير راضي والمخرج طلال هادي في العرض، حتى لو تشابهت الوجهات، لابد أن يتضمن الفن/الدراما شيء من عدم التطابق مع وقائع التاريخ ومع ما قدم من الأقدمين /السابقين لأن الفن – بالتأكيد – ليس نسخا ولا تسجيلا، بل هو رؤية جديدة محاطة بهالة جمالية تقدم للجمهور المعاصر، وهذا ما سعى إليه القائمون على عرض مسرحية (أنا ماكبث).
تناغم التأليف والإخراج وافتراقاته:
ان يكون المؤلف معاصرا وحاضرا الى جنب المخرج، ذلك امر يستدعي الكثير من الحوار والنقاش بينهما، بدأً من الخطوة الأولى في عملية الإخراج (اختيار النص) وانتهاء الخطوة الاخيرة (الجنرال بروڤة) وصولا الى يوم العرض الأخير. وقد لا يعني المتلقي حضور او عدم حضور المؤلف وملازمته التمارين، لأن الحصيلة النهائية هي العرض بصورته الماثلة أمامه، لقد افترق المخرج عن نص المؤلف بحذف شخصيات وتكثيف حوارات وتقديم إضافات وتناغم بالرؤية وصنع الأحداث وانشاء الأجواء، فكانت المحصلة: إن حضور المؤلف انعكس ايجابيا على الإخراج وفي بناء العرض لأنهما (المخرج والمؤلف) يشعرون ويفكرون بـ (الآن وهنا وبما يكمن في الوعي المجتمعي).
تأسس العرض على فكرة مركزية هي: أن التاريخ والشعر قد ينطوي على تظليل، لذا يجب اعادة صياغة الاحداث على وفق المنطق الفني المعاصر مع الأخذ بالاعتبار (أن الطغاة لا يعرفون أنهم طغاة ما لم يواجَهوا بما فعلوا) يقول ماكبث مخاطبا زوجته في النص:
ماكبث: من أجلك سيولد ماكبث من جديد، سأفك قيد التاريخ، وسأرفع ستائر الليل الهزيع عن نوافذ الزمن الصائحة ببراءتك وبياض صفحتي.
فكانت بداية أحداث العرض بمطالبة من (ماكبث) وبتحريض واسناد من زوجته ببراءته مما نسب إليه في قضية اغتيال الملك (دنكان) في قصره.
تكونت بنية العرض من جزئين غير متناظرين من حيث الزمن وتدفق الفعل الدرامي، ففي الجزء الأول ساد التشويق وعمت الاكتشافات وتصاعد الفعل منذ البداية بتضامن الحوار والموسيقى ومكونات السينوغرافيا وحركة جميع الشخصيات الموضعية والانتقالية التي غطت مساحة الخشبة بتوازن جمالي معبر ومتنوع المداخل والمخارج، وصولا الى لحظة مغادرة (دنكان) بيئة الحدث بعدما أدلت الساحرات بشهادتها وقالت:
- قُتِل الملك دنكان في معركة قرب مدينة الجين
- نعم وليس في غرفته وعلى فراشه كما ذكر في سفر الرواية
ويقر (الملك دنكان) بصحة كلام الساحرات، فيتضح زيف رواية شكسبير التي كتبها ارضاءا للملك وأعوانه وحاشيته بحسب قول ماكبث، وتشهد الساحرات لصالح ماكبث وتزكيه (كانت البلاد في حكم ماكبث تنعم بالهدوء والسلام لمدة سبعة عشر عاما)
لقد حفل الجزء الاول من زمن العرض بتسارع في وتيرة الأحداث وتفعيل قطع المنظر الساكنة من خلال تحريكها وجعلها علامات تسهم في تعزيز بنية العرض الدرامية، فضلا عن تعرف الشخصيات وانكشاف الأشكال غير المتوقعة التي بدت عليها وبنيتها المغايرة للصورة التقليدية التي يحتفظ بها المتلقي في ثقافته.
حيوية الساحرات
صورة الساحرات التقليدية: كبيرات في السن، شريرات، اشكال اقرب للقبح، لديهن اكسسوارات لإظهار قدراتهن السحرية المخيفة ) صورة الساحرات في ( انا ماكبث) فتيات كثيرات الحركة والفعل ويحضرن إلى الخشبة بقول يحسم أمرا، لديهن اكسسوارات معاصرة - قبعات، وتزينهن اجنحة ملائكية، خفيفات الظل، وبلا مبالغة إن قلنا أنهن الروح الحيوية التي أسهمت بصورة فاعلة بتقريب مجريات الخشبة من الجمهور وصنعت وشائج جمالية بين العرض ومتلقيه من خلال كسر التوقعات وما حملن من مفاجآت، وضبط إيقاع العرض الذي تلافى صيغة الإلقاء - وهو امر حتمته لغة المؤلف.
في الجزء الثاني من العرض التزمت الشخصيات – عدا الساحرات - موقعا محددا من خشبة المسرح (بقي الملك لير في مكانه –وسط وسط المسرح - لم يتحرك، أتخذ ماكبث جانب يمين الخشبة غالبا بعد ان تحرر من قبره، شكسبير يتحرك في يسار الخشبة، حراس الجحيم يشكلون خلفية في عمق الخشبة وجوانبها، أما الليدي ماكبث فقد كان ظهورها واختفائها المفاجئ وكلماتها القصيرة المؤثرة في دفع براءة ماكبث وإضفاء شحنة عاطفية على الجو النفسي العام.
لقد فَعّلَ المخرج شخصيات الساحرات بحركة انتقالية وحوار انتهك اللغة الفخمة التي تمتعت بها الشخصيات الاخرى مما جعلها فاعلة وإن كانت تتحرك موضعيا.
في الجزء الثاني من العرض وتحديدا بعد انسحاب دنكان من الجلسة عندما داهمته الساحرات بحقيقة مقتله بعيدا عن قصر ماكبث، انتهت المفاجآت، وحضرت السجالات بين شكسبير وماكبث وبينهما القاضي الملك لير، وتجلت قوة لغة الحوار وصوره الشعرية بأصوات الممثلين المحكمة الأداء مما جعلها فعلا اخراجيا مقصودا لعودة سيادة الكلمة الى المسرح حيث سادت الكلمة وبادت الحركة، حتى النهاية، وكان امر لغة القاء الحوار الذي بدا مؤثرا عندما القى (لير) خطبة قصيرة وتفاعل الجمهور بالتصفيق لها.
علامات بارزة ختمت العرض:
غوغل: بعد أن كان شعار متصفح الويب جوجل متدليا، هبط من الاعلى وظهرت شخصية تتحدث باسمه و أدلت بشهادة، مما جعل امتداد حكاية أحداث المسرحية هو من تاريخ كتابتها بقلم شكسبير عام 1606 م تقريبا والى (الآن)
الساعة المثلومة: توسط مجسم الساعة فضاء المسرح مع احتواءه على جزء مفقود وارقام ممسوحة، ثمة ثغرة في الزمن يمكن النفاذ منها.
لقد كتب (منير راضي) واخرج طلال هادي وقدم الممثلون والفنيون مصداقا بدرجة عالية لمقولة (هربرت ريد): " إن الوظيفة الحقيقية للفن هي التعبير عن (الإحساس) ونقل (الفهم) وهذا هو ما تحقق منه الإغريق بصورة كاملة، وهذا هو ما عناه أرسطو كما أعتقد، حينما قال بأن هدف الدراما هو أن تطهر مشاعرنا. إننا نأتي إلى العمل الفني ونحن محملون فعلا بتعقيدات وجدانية معينة، ونحن لا نجد في العمل الفني الأصيل الحقيقي تحقيقا لتلك المشاعر أو تطابقا معها، وإنما نجد السلام والسكينة والاتزان العقلي" (1)
***
حبيب ظاهر حبيب
.....................
* عرضت الفرقة الوطنية للتمثيل مسرحية (أنا .. ماكبث) بتاريخ 14-16/ 9/ 2023 على مسرح الرشيد.
(1) هربرت ريد: معنى الفن، ط2، ترجمة: سامي خشبة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، ص296 .