قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: قراءة في رواية: صيف بارد جدا
للكاتب النرويجي روي ياكوبسون
التقصي الأسلوبي في أغوار العوامل الشخوصية
توطئة: إن أساليب السرد الروائي في كل التجارب المحلية والعالمية التي لا حصر لها، هي قبل كل شيء حالات تنوعية في (الشكل ـ النية ـ الحكاية ـ الخطاب ـ الأسلوب ـ التقانة) ناهيك عن ذلك التوزع في اختيارات القابلية على خلق مادة الموضوعة الروائية التي تبدو غالبا متباينة أو متوارية في موصولات مراحلها التكوينية والفنية ذات الأشكال التحليلية المتحكمة في طرح نماذجها المتماثلة ما بين (التقصي ـ علاقة عوامل ـ أنساق سيميائية) . ومع أن فن الرواية عبارة عن علاقة أدوات ودلالات مفترضة في تداعيات الواقع المحتمل، لذا وجدنا أغلب محمولات المتصور الوصفي ذي مستويات خاصة من (تحول ـ صياغة عوامل ـ شروط الأسباب للمستوى التوزيعي) وهذه الجملة الإجرائية التي هي في الأسباب إجمالا، بدت لنا كوحدات تراتيبية ذات مظاهر تشمل (الدليل: الزمني ـ المكاني / الحكاية: العلاقات ـ المحاور) وهكذا انطلاقا سوف نختبر تحصيلات المجال الحكائي والخطابي في مستويات العلامات الأكثر إيصالا بين (السارد المشارك ـ وظيفة المخاطبة ـ لعبة الضمائر الحوارية) وتبعا لهذا تناولنا الرواية من الأدب النرويجي للكاتب الشهير (روي ياكوبسون) عبر روايته موضع بحثنا (صيف بارد جدا) وقد قام بترجمتها إلى العربية الأستاذ عمرو السيد مشكورا .
ـ الوظائف السردية بين عاملية الخطاب وحكي المتتاليات:
بما أن كل جملة نسقية هي بالخلاصة (جامعية وحدات) لها أقسامها المعروفة من (منظور ـ توزيع ـ أداة) فيجب علينا التعامل أولا مع مستوى السرد، كأفعال وعوامل تحددها الوظائف المبثوثة في أجزاء الخطاب الروائي. فلو عاينا من جهة خاصة طبيعة الوحدات السردية، لوجدنا مادة سيكولوجية ـ اجتماعية، تتكفلها قيم خاصة من العادات التربوية والأخلاقية التي لا تتجاوز مضمون واقعية شريحة مجتمعية محققة بدوافع التحليل أو الإسقاط الوظيفي في الاجتراح للطبيعة الموضوعة في الرواية.
1ـ الحوار المونولوجي أو استطرادات السارد الشخوصية:
مما يثير الانتباه في سياق رواية (صيف بارد جدا) هو تلك العلاقة المحكومة بمستويين سرديين.الأول، أن أفعال ومحكيات السارد بدت أحيانا عبر منظور خارجي لا يكون أحيانا إلا في شكل اقتطاعات متعاطفة مع نقل الحوادث الشخوصية (المركزية ـ الثانوية) أما المستوى الآخر، فيكون أقرب ما يكون عليه الحال في خطاب السارد العليم في علاقته مع المتلقي بعدا معتبرا في عملية التواصل الممكنة بين الشخصية الساردة ومواقع وجهات نظرها المنقولة والناقلة من حيز السرد إلى محطة مرسلات المتلقي، لذا وجدنا الشخصية المشاركة ـ فين ـ يشكل في ذاته الصلة المباشرة في الإيحاء إلى القارىء بما تجود به طبيعة بعض متعلقات الأفعال السردية من حرية إبداء المناقشة والمداولة مع موقع القارىء .وهذا الأمر بدوره ما يسمى (الميتافكشن) على حد ما جاء في كتاب الناقدة الأمريكية (باتريشيا ووه) ولا يتوقف الأمر غالبا على خصائص الوظيفية النمطية في حقيقة طرح الأسباب والخيارات والدوافع الخارجية من (الشخصية ـ الحكاية ـ الزمكانية ـ مكامن التبئير) بل أن العلاقة التأليفية قد تجاوزت حدود صناعة الشخوص وأفعالها وحوادثها، بل أن الأمر راح يتطلب من الروائي ياكوبسون، السياحة الذهنية والصفاتية والسيكولوجية والنفسية في زمن حكايته الروائية، التي لا تتطلب في مدار موضوعاتها سوى حبكة تستدع مؤشرات حكاية اجتماعية بسيطة.قلنا إن عملية الوظائف السردية في مسار الحكي، كلن لها ذلك الطابع الوظائفي من (الحوار المونولوج) وبعض من الصلاحيات اللاستطرادية التي كان يديم عليها السارد المشارك كحالة أوصاف أو أخبار أو تحول ما من مقتضايات السرد الأفعالي أو الوصفي: (كانت البداية حين اضطررت أنا وأمي ببعض أعمال التزيين.قمت أنا بطلاء الجزء السفلي من الحائط، لأنني قصير القامة.أخذت أناضل كي أتمم مهمتي، بينما هي وقفت على مرسي المطبخ وركزت على الجزء الصغير الذي يلي السقف./ص7 الرواية) أن خلفيات السارد المشارك تبدأ من الوصف في شكل استطراد تراتيبي راح يتخذ لذاته مستوى (المحكي) المتمثل في بث أطراف الوحدات السردية من خلال كيان تشاركي كأنه بذلك الأداة الداعمة إلى إظهار مطامح الطبيعة الحكائية في صوت (السارد المتمثل) .وتتجلى وحدات الموضوعة من حوارية الأشياء التي يتم تتابعها من خلال المتعلقات في الوظائف الاجتماعية، باعتبار أن مادة الرواية إحدى الموضوعات التي تغطي حياة أسرة متعففة تتقاسم جملة أفرادها المتكونة من (الأم ـ الأبن فين) وسائل العيش في السرد ذاته: (لاحظت النظرة الرائعة في عيني أمي، والحماس المبدئي الذي قد يستمر ثلاث ثواني أو أربعة، قبل أن يظهر عليها التردد المعتاد بدوره بتعبير واقعي وعقلي./ص9 الرواية).
2 ـ إطارية مشخصات الأحوال وأبعادها المتقصية:
ونحن نقرأ شيئا وأشياء ملموسة في تجليات الوحدات السردية، لاحظنا بأن هناك إمكانية زاهدة في تقويم الأداة الفعلية في المنظور الشخوصي، كحالة متقصية إلى أدق معاينات الذات العاملية، وإلى درجة وصول الأمر إلى أن حالات الفعل الشخوصي تبقى تحت مؤشر المعايشة الجادة في مواطن الدور الوظيفي، ما أتاح لها كونها تمارس شكلا مزدوجا في أسلوب تمييزها الاختباري، لا أن تقدم الحركة للشخصية بدوافع تجعلها كظاهرة الدمية أو العرائس من فوق السطور: (تساءلت أمي قائلة: ـ أليس هذا مكلفا إلى حد ما؟ ـ وهي كلمة تستخدمها عندما تكون مع الآخرين فقط، أما حين نكون وحدنا تستخدم كلمة ـ عزيزي ـ وكنا نعنيها.ردت السيدة ـ سيغرسن ـ وهي قارئة للمجاملات السويدية الخاصة بالمرأة، على عكس أمي المتابعة للمجلات النرويجية./ص9 الرواية) بأختصار: إذا كان السرد خطابا يسعى إلى إفراغ قصة ما، بمعنى ، نموذجا محدودا من المحتوى.فلا أظن بدوري أن الروائي ياكوبسون، كان يغامر لأجل تقديم حكاية عن الفوارق الطبقية في رقعة المجتمع النرويجي وحسب.نلاحظ من جهتنا أن مؤشر الخطاب في المرسلات السردية، حاول تكوين وضعية تواصلية تتقصى دقائق الذات العاملة أو العاملية من جهات شتى، أولا، بما يمنحنا ذلك الاحساس من كونها تقع في أدنى دركات الفقر، أو لكونها حسب ما أرادها الروائي أن تقدم واقعها الإشكالي كحالة ذات صلة بالمجالات التوصيفية في الإقناع السردي المسوغ في البناء الروائي.
ـ الحبكة الروائية وتكوينها المغاير:
إن تعامل الروائي ياكوبسون مع وظيفة التحبيك أو عناصر الحبكة، جاءت بطريقة تدعو قارئها إلى متابعة الدؤوبة، دون المرور بأية عملية من شأنها أن تحدث ذلك الاضطراب أو التفكر الممسوس في حلها بطريقة ما. إن السبيل المراد في فهم تجربة رواية (صيف بارد جدا) لا تتطلب من قارئها معاينة مستوى الموضوعة ذاتها، بقدر ما تقتضي من القارىء الانبساط الذهني مع عناصر الحبكة ذاتها، كما قلنا سابقا ان الشخصية فين هو ذلك الفتى الذي يعيش مع أمه الأرملة داخل منزل يسعيان فيه إلى خلق نوعا من المساواة مع حياة العوائل النرويجية المآخمة لهما كعائلة الجارة الشخصية سيغرسن وزوجته والبنت آن بيريت وأختيها.ومن الغريب أن نعلم أن للسيدة سيغرسن ثمة عادات انعزالية لها مدلولها الأبعادي الخاص، عندما تظل محوطة ذاتها داخل وجهات نظر انتقادية للمجتمع والحياة كورود هذه الوحدات مثالا: (سيغرسن ـ تعتبر البقاء في المنزل حيث سريرها وطعامها أكثر متعة من الخروج إلى الشارع./ص8 الرواية) نظرا لأن الحياة في مفهومها عبارة عن فقاقيع من زخرف البناء وبلاطات الأسطح الملقى من بين المباني السكنية، ومن الأدهى أن تصل تصورات هذه السيدة إلى كون عمليات هذه البناءات السكنية لأصحاب الأموال، هي من تقود إلى الحروب بين العظماء والمقهورين: (على جدران غرفة المعيشة الخاصة بعائلة سيغرسن، رأينا للمرة الأولى ورق الحائط ذا الورود الكبيرة الذي حول بيوت الطبقة النرويجية الكادحة في الستينيات إلى ما يشبه غابات استوائية صغيرة./ ص8 ص9 الرواية) من الواضح أن الأسلوب للروائي في مسار تحقيقه النصي، كان يلوح إلى فترات زمنية خارج سياق زمن حبكة الرواية، لذا فهو عندما يشرع بالمقارنة بين حياة أسرة السيد والسيدة سيغرسن والكم الهائل من التوتر العصابي عندما تراجع والدته المدفوع والمتأخر من الإيصالات المصرفية: (الحياة بدون أبي ليست سيئة جدا؟./ص10 الرواية) كان ذلك ما يقوله فين لنفسه عندما يشاهد السيد سيغرسن برائحته الغريبة وهو يصدر من رأسه تلك القهقهات التي تدل على استخفافه بمدى مصروفات العائلة من قبل تلك الأرقام المتواجدة في الإيصالات التي تقوم بإرسالها عادة تلك المتاجر بدماء باردة.في حين نعاين بأن (لفت نظري أن أمي لم تقدر على أبعاد الإيصالات عنها بعباراتها المعتادة:لم يكن ورق الحائط مكلفا؟ . /ص10) من لافت للإنتباه إن وحدة (ورق الجدران؟) تكررت بصورة ملحة في أكثر من موضع من الفصول الأولى من الرواية، عندما نتعقب مدلولية هذه العبارة، نجدها تؤشر لذاتها علامة حبكوية ودلالية مثيرة، تتلخص في كونها سمة تدعم في ذاتها ذلك الدليل المعادل في كون حياة الأسرة النرويجية وخصوصا منها البائسة، كانت تسعى إلى استبدال جدران أكوانها المشروخة والمثقبة بفعل تقلبات المناخ، ونظرا لعدم وجود إمكانية استبدالها، ذلك لكلفتها من أدوات البناء، راحت تلوذ وتغطي قبح منظر تلك الجدران بورق سميك ذا ألوان توحي بالغابات الاستوائية.وعندما نبحث عن جهة خاصة عن ذلك الأب للأسرة نعثر عليه سكيرا في حياته الزوجية ولا يمتلك من المهن الرفيعة، سوى ممارسة سياقة الجرافات، وقد اقترن بزوجة أخرى وأنجب منها بنتا تدعى ـ ليندا ـ .ولهذه الطفلة حكاية شيقة داخل عناصر الحكي في الرواية، لا يمكننا الحديث عنها كونها قيمة جمالية تحتمل دلالات خاصة ومخصوصة .
ـ تعليق القراءة:
من النادر ما يقرأ القارىء عملا روائيا بسيطا في فكرته، ولكونه رغم ذلك يحتل لنفسه في الذائقة المقروءة، ذلك المستوى المثير من المؤولات والتأويل: أقول أبدا لم تكن مؤشرات رواية (صيف بارد جدا) سوى السيرورة الإيحائية في عكس أسمى معادلات الصناعة الروائية الأخاذة في شكلها وبنيتها ومضمونها الاختلافي .من المهم جدا قراءة هذه الرواية والأضطلاع على جزيئات وكليات مواطنها الدلالية التي امتازت بحيوية أن يكون الروائي داخل قلب كل شخصية من شخصيات نصه ، ليقدم لنا أجدى الأوصاف والمثالات والسحن والدالات الشخوصية عبر أوجهها الإشارية والدينامية والسياقية المتضافرة ـ نوعا مغايرا ـ لعفوية واعتباطية وعابرية ما يقوم بتوظيفة الروائيون للشخوص في رواياتهم، وكأنها دمى خشبية تتراقص مع جمودها ووهنها الذي لا يقل انحدارا من مستوى البناء والتشكيل في رواياتهم. ولا يعنينا من مشروع الروائي النرويجي (روي ياكوبسون) الذي لاقت رواياته وقصصه القصيرة في النرويج حضورا لامعا ومؤثرا.فهذا المنجز الذي بين يدينا، لايمكن قراءته بطريقة الهواة أو بطريقة القراءة الاسقاطية، بل يمكننا قراءته والمعاينة في دوافع الخلق الشخوصي الروائي (الظاهر ـ المضمر) وما يتعلق بأبعاد الوسائل السيكلوجية لدى الروائي على توليف كل شخصية ضمن هويتها الدقيقة وطابعها التمثيلي للأدوار والعاملية النوعية في التقصي الأسلوبي للروائي القدير في منتوج أعماق الأدلة الكيفية في صناعة الخواص الشخوصية في موضوعة روائية ذات فعالية مرمزة عبر حوادثها ومعادلاتها الدلالية المؤشرة على حيوية شكلها وحذاقة ثمثيلاتها المتعالقة ـ دالا ودليلا ـ في المسار الإجرائي الروائي المتفرد.
***
حيدر عبد الرضا