قراءات نقدية
زهير ياسين شليبه: الشعر في خدمة الدمج الإجتماعي
"لا تفرغ حقيبة سفرك وتوظبها"
للشاعر الدَنمَركي المعروف
هنريك نوردبراندت
***
رحل عنا الشاعر هنريك نوردبراندت (1945-2023) عنا في يناير بعد أن حصل على مكانةٍ كبيرةٍ في الأدب الدنمركي وحاز على الجائزة السنوية الكبيرة لأدب الشمال لعام 2000 عن مجموعته الشعرية "جسور الحلم"، الذي أصبح رمزَ الفقدان والإسترجاع في الشعر.
قصيدة "لا تفتح حقيبة سفرك" لهنريك نوردبراندت حصلت هي أيضا على شعبية كبيرة في المجتمع الدنمركي،
وفُسرت بعدة طرق ومستويات، كتبها هنريك نوردبرانت ونشرها ضمن مجموعته الشعرية "ظل الوردة".
هذه القصيدة يمكن أن تُفهم كما لو أنها تحمل مفاهيمَ كثيرةً، وهي بالتاكيد نتيجة لتجارب الشاعر في الغربة والسفر.
وعندما يفتح المرء حقيبة سفره ويوظّبَ حاجاتِه الضرورية، يعني أنه يتقبل أن يكون جزءًا من المجتمع الذي يقدم إليه ليبقى فيه.
يؤكد الشاعر هنا بأنه من الخطأ فتح الحقيبة وتوظيب محتوياتها قبل أن يكون المرء متأكدًا تمامًا من إستعداده لهذا الأمر، إذ إن الشاعر يستمر في تكرار لازمته بفعل أمر واحد يعني: لا تفرغ حقيبة سفرك ولا توظبها!
لأنه قد يكون من الممكن أن تغير رأيك بالمكان الجديد وتبدأ بالإهتمام بالأمور التي كانت تجري في بلادك وتحنّ إليها فتتراجع عن قرارك. وسترى أن الشارع الذي تسكن فيه له إسم وليس مجرد طريق، وعليك أن تعتاد عليه وترتبط به.
إذا وظبت أشياءَ حقيبة سفرك، فقد تُلهمكَ لترى شكلاً يشبه دارك تماماً أو وطنك، وكما يقول الشاعر إذا ينقصك شيء لتكتمل الصورة، فقد تشتري زريعةً لكي يتم التناظر ويكون لديك شيء تهتم به وتعجب به وتودّه فتتعلّق به.
يكتب الشاعر المقطع الأخيرعن أفضلية بقاء الحقيبة في غرفة فارغة لا يوجد فيها أكثر من مصباح كهربائي، إذا لم يقرر المرء الإستقرار، ولا يجب أن يكون هناك شيء يرتبط به.
تَرجمتُ هذه القصيدة من الدنمركية إلى العربية قبل أكثر من عقدين وكنتُ أعملُ في المجال الإجتماعي، وأُلقيتْ في اكثر من مناسبة في مدينة روسكيلده. وأقمنا في إحدى المؤسسات التربوية نشاطاتٍ حول الإندماج، وألقت إحدى الأمهات القصيدة بالعربية، بينما قرأتها المربية إيرينا بالدنمركية مع مشهد تمثيلي مستوحى منها، مستشهدةً بها وقالت:
- من خلال عملي مع مواطنين من ثقافات مختلفة، تكوّن لدي إنطباع بأن التأقلم الجيد في المجتمع الجديد مرتبط بمدى رغبتِهم بإستمرار حياتِهم هنا في الدنمرك.
عندما يفتح المرء حقيبته ليوظبها يعني هذا إعترافه بأنه يريد أن يكوّن لنفسه محيطاً هنا في بلاده الجديدة،
وأنه يجب أن يقيم فيها هو أبناؤه وأحفاده. يمكن أن يكون المرء مضطرًا لتعلّم القيم الجديدة في الوطن الجديد جنباً إلى جنب مع ماضيه الخاص.
أريد ان أروي لكم حكايةً من يوم من أيام عملي في روضة الأطفال: كان لدي قبل مدة محادثة مع عائلة من إنحدارات غير دنمركية. كنت أريد أن أخبرالأبوين بأنهما يجب أن يجلبا أطفالهما إلى الروضة قبل العاشرة صباحًا ومن الأفضل قبل التاسعة إذا كان هذا ممكنًا بالنسبة للأطفال.
يَجدُ الأبوان صعوبةً في تحقيق هذا الأمر لأن نهارهما يختلف عن نهارنا. إنهما يضعان أطفالهما في فراش النوم في وقت متأخر، عندما يتعبان جدا ويستخدمان جزءًا كبيرًا من المساء في مشاهدة التلفاز ولهذا يصعب عليهما الإستيقاظ مبكرا في الصباح. حدثت لنا مشكلة، وأعتقدَ الوالدان بأنهما غير مستعدين لتغيير طريقة قضاء نهارهما، أي الإستيقاظ مبكراً والتوقف عن مشاهدة التلفاز مع الأطفال في وقت متأخر لكي يناموا ويصحوا مبكراً.
وتحدثنا عن أهمية حضور أطفالهما منذ الصباح لأنهم سيبدؤون الدراسة في المدرسة، ولا بد له من التعود على ذلك وتدبر أمرهم، وأخبرتهما بأن أطفالهما سيعيشون في الدنمرك، ولابد لهم من أن يحصلوا على ما لم يستطيعا هما الحصول عليه في بلدهما، ولكي يكبروا ويتعلموا ويحصلوا على عمل جيد و يدبروا أمورهم بأنفسهم.
فهَم الوالدان هذا الأمر وقالا: نعم، فليس لدينا مكان آخر نقيم فيه غير الدنمرك.
أخيرا فإنهما يريدان التعاون مع الروضة، وفي الحقيقة أنهما تمكنا من جلب أطفالهما في الصباح على الرغم من أن اليوم الأول كان صعباً حيث كان الأطفال متعبين ومتثائبين".
وتقول المربية إيرينا أيضا: أنا أعتقد أن هذين الوالدين في طريقهما إلى "فتح الحقيبة وتوظيبها" والإندماج في المجتمع. إنها عملية مؤلمة وستأخذ بالتأكيد وقتا طويلاً قبل أن ُتفتح، لكن إذا كنتُ حقاً قد ساعدتهما، وأنهما فهما بأن أطفالهما يجب أن ُتفتح حقائبهما وتُرتّب أشياؤهما، فإن هذا يعني الإستقرار، وأنا مقتنعة وراضية بعملي وسعيدة".
قد تتسم هذه الطريقة بالطرافة، لكن لا يمكن عدم إظهار الإعجاب بها في إستخدام الشعر لحل المعضلات الإجتماعية، التي يواجهُها "الأجانب" المقيمين في الدنمرك، ولا أعتقد أنه من السهل الوصول إلى هذا المستوى من الوعي في مجتمعات الفوضى، علماً أنها ليست المرة الأولى، التي تستخدم فيها الفنون لأغراض إجتماعية في
هذه البلاد، التي ُيكرّس كل شيء فيها لرفاهية الإنسان بعيدا عن الشعارات السياسية.
هل يمكن، مثلاً ، أن نعمّمَ نحن العرب بالذات الآن وبسبب احداث السودان ثقافةَ السلم من خلال قراءة شعر الحكمة ورفض الحرب لزهير بن أبي سلمى؟
***
الدكتور زهير ياسين شليبه - كاتب مقيم في الدنمرك
.....................................
لا تفرغ حقيبةَ سفرك وتوظبها*
لا تُفرغْ حقيبةَ سفرك! بلا وعي
قد تُبعثرُ محتوياتِها
لدرجة أنها تغريك لترى شكلاً
يُشبه تماماً حروف كلمة: بيت**.
حيث هناك شيء مفقود في التناظر
فقد ترغب في جلب زريعة
تسقيها وتبدأ بالإهتمام بها.
*
لا ُتفرغْ حقيبةَ سفرك! الحرب
يمكن أن تندلعَ. أو ما هو أسوأ
يمكن أن تتوهّمَ بأنك عشقت
وكأية عاقبة حتمية
تنتقل إلى شارع له إسم
فالشوارع ليست كما هي الآن مجرد شوارع
بل حركة المحكومين بالإعدام فيها.
*
لا تفرغ حقيبةَ سفرك! إنه من الأفضل لك
أن ترتدي قميصاً مدعوكاً
من قميصٍ آخر كان معلقًا في شرفة
مطلة على بعض الجزر الضبابية
وقد كوته يد حنونة،
أن تشمَّ رائحة النفتالين أعبق من وردة الخزام
فقد تعتقد أنها وردة.
*
لا تُفرغْ حقيبةَ سفرك! أتركها في مكانها
جنب الحائط في غرفة عارية
حيث هناك مصباح كهربائي
لايدعك تشكّ ولو للحظة واحدة
أين ومن أنت على هذه الكرة الأرضية.
لا تُفرغْ حقيبةَ سفرك! ولو للحظة واحدة
قبل أن تتمكن من الإستغناء عنها تمامًا.
*
وإلا دَعها مركونةً.
***
القصيدة من ديوان: ظل الوردة، دار نشر مونكسجاآرد 1999
....................
*أو: لا توظب حاجاتِكَ عند الوصول، تفريغ حقيبة السفر عند الوصول: تعني هنا توظيب محتوياتها في السكن الجديد أو الغرفة الشخصية في الهوتيل، صورة مجازية عن علاقة الإنسان بالمكان والإستقرار والإندماج به.
** تعني وطن أيضاً.