قراءات نقدية
ثامر الحاج امين: رواية (جمجمة تشرين).. صرخة الأحرار بوجه العبيد
مهما اختلفت الآراء والتعريفات في "أدب الثورة" الا انها تتفق على انه ذلك النّوع من الأدب الّذي يخلق الوعي في النّفوس ويعمّقه كما انه يفتح عيون الشّعب وبصيرته على الحقيقة ويكشف عورات الحكام الطغاة علاوة على دوره في تحريك النفوس الخاملة المستسلمة لكي تدرك طبيعة الواقع الذي تعيشه، وهو ما أكدته الأعمال الأدبية ــ بمختلف اجناسها ــ التي تناولت الثورات السياسية والحركات الاجتماعية للشعوب المقهورة وكان للرواية شرف التصدي لهذه المهمة، فهي من بين اكثر الأشكال الأدبية استيعابا للتجارب والتغيرات الحاصلة بالمجتمعات ومنها الثورات والاحتجاجات الشعبية والجماهيرية وذلك لسعة المساحة المتاحة للروائي في حشد كم كبير فيها من الأحداث والشخصيات، والمعروف عن هذا النوع من الأدب انه لا يكتب في أثناء الثّورة ولا بعدها مباشرة، وإنّما يكتب بعد فترة من الزمن حيث يحتاج الأديب إلى المزيد من الوقت في التأمل والتّدقيق للإلمام بموضوع التغيير وافاقه المستقبلية، وقد شرع المبدع العراقي بكسر هذا السياق، فلم تكد انتفاضة تشرين العراقية تبلغ من عمرها سنوات قليلة وتفاعلاتها في الشارع ما تزال قائمة حتى سارع عدد ليس بالقليل من الكتاب العراقيين الى توثيق مآثرها وتدوين ما جرى فيها من انتهاكات انسانية بحق شباب عزّل وذلك من خلال اعمال ابداعية عراقية (رواية، شعر، قصة، مسرحية، مقالة) خرجت من مخاض الانتفاضة لتجسد عمقها وهويتها ايمانا من هؤلاء الكتاب ان الابداع فعل ثوري يجب ان ينتصر لكرامة الانسان وحريته حيث صدرت للأدباء العراقيين عدد من الاعمال الأدبية تناولت بطولات جيل العجائب جيل انتفاضة تشرين الخالدة ومن بينها رواية (جمجمة تشرين) للروائي العراقي عبد الكريم العبيدي والصادرة عام 2022 عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.
وعلى الرغم من محاولة المؤلف النأي بروايته عن ملحمة تشرين وذلك من خلال التنويه الذي تصدر الرواية وأشار فيه انها رواية (من نسج الخيال وان شابهت حوادثها واشخاصها وامكنتها اشخاصا حقيقيين ص5) الا انه يمكن للقارئ ومنذ الصفحات الاولى للرواية الاستدلال على موضوعها وانحيازها التام لأدبيات انتفاضة تشرين الخالدة، فالمؤلف قام بإهداء العمل الى عائلته التي حالفت الثوار ورسمت لهم علامة النصر في ساحة التحرير الساحة التي شهدت ودارت فيها فصول المنازلة بين الاحرار والعبيد وصارت واحدة من سيمائيات الانتفاضة علاوة على المفردات العديدة التي وردت في الصفحات اللاحقة والتي لم يكن لها حضور بين العراقيين قبل انطلاق الانتفاضة من بينها (نريد وطن، الكمامات، الدخانيات، الجوكرية، الطرف الثالث، التك توك، الكواتم) وكذلك ما جرى من أحداث تناولتها الرواية وكلها تؤكد ان رواية تشرينية (كُتبتْ بأمر الشعب) وانها تنتمي الى أدب الثورات.
يكرس المؤلف الجزء الأول من روايته للكشف عن خلجات شخصياتها وخلفياتهم الاخلاقية والسياسية فيستهل الحوار بين الدخانية التي يرمز لها بـ (M) وسيدها القاتل الذي يطلب منها التهيؤ لنيل حريتها والخروج من الصناديق المغلقة للانطلاق صوب رؤوس الشباب المنتفضين ويبشرها انها (ستكون عروس العرائس ونجمة العواجل الاخبارية ص17) ويأتي رد الدخانية كاشفا عن وحدة النفوس الشريرة في تلك المنازلة (لا عليك.. انت أنا وأنا أنت كلانا في الأمر سيان، انت قاتل متمرس وعبد مأمور وقناص خطير في ميليشيات الطرف الثالث ومهمتك تطهير البلد من دنس الجوكريين ص20) ويتعمق الحوار بين الطرفين ليكشف المزيد من السادية التي كان عليها القتلة وذلك عندما تخاطب الدخانية سيدها (لا توجد متعة أجمل من رؤية جمجمة مثقوبة، يتصاعد الدخان منها، لا شيء يطربك سيدي أكثر من رؤية جوكري يخّر صريعا يتشخط في دمه وينازع الموت ص28) بهذه الطريقة الذكية من الحوار التي يلجأ فيها الروائي الى الأنسنة يقوم بإفراغ شحنات غضبه واحتجاجه غير المباشر على ما يجري للشباب المنتفض ويجعل من الدخانية لسانه الذي يجلد به القاتل ويمعن في اهانته بقولها (انك أميّ معتوه لا يقرأ ولا يكتب، لا تجيد فعل أي شيء سوى القتل، انت وحش بشري متخف، بحوزته قاذف قنابل وكل ما يعنيك هو ان تشبع غرائزك وتحافظ على حياتك وتبقى متسلطا، منغمس في غريزة القطيع وعبادة الرمز الأوحد ص30).
كما يكشف العبيدي في هذا الجزء من الرواية عن هوية تشرين والظروف التي دفعت الشباب للثورة عندما يختار احد ثوارها وهو الشاب " باهر" نموذجا ويقدمه شاب كابد الجوع والحرمان وضنك العيش حيث تخرّج من الجامعة وانضم الى ملايين العاطلين عن العمل وابتلته الظروف بإعالة شقيقاته الثلاث وأمه الأرملة ــ التي تضطرها ظروف الفقر الى العمل في الخدمة المنزلية لدى عائلة طبيب وحين (كبر واشتد عوده لم يجد وطنا مثل باقي الأوطان بل بلدا محتلا منهوبا، كعكعة يتقاسمها اللصوص ص45) فهل يحتاج مثل هذا الشاب الى المزيد من الصبر والانتظار لكي يحظى بالعيش الكريم !! وهل هناك اكثر من هذه الظروف القاسية دافعا ومبررا للثورة، هل يستحق ان تنتهي حياته باستقرار قنبلة دخانية في جمجمته لمجرد انه هتف (نريد وطن)؟ حتى ان القنبلة في نهاية المطاف كانت أكثر رحمة وانصاف من القتلة فقد منحته شهادة حسن السيرة والسلوك بعد ان أجرت مسحا خلال استقرارها في تجاويف جمجمته فتندم على فعلتها وانصياعها للقاتل الذي قذف بها فتقول عن الضحية (يا لشقائي! أهذه جمجمة جوكر جاسوس؟ أم قلب عاشق؟ هذا الجوكر العجيب سيدمرني، سيرته الذاتية مُحيّرة، لم أجد فيها معلومات تثبت ما ذهبت اليه، كل ما وجدته هو انه خريج جامعة، عاطل عن العمل، وشاعر واعد ينشر قصائد شعرية في الصحف والمجلات ص 112 )، وعند هذا الاكتشاف تبدأ نقطة التحول عند الدخانية بالتمرد فقد اصبحت تمتلك الشجاعة لتقول للقاتل (سأكشف خيوط جرائمك واثبات التهم الموجهة اليك، لم أعد " أم 99 إس، قنبلة صربية فتاكة أنا قنبلة نادمة ص94) وتزيد من حنقها وندمها فتكشف سيرة القاتل وتصفه بالمدمن الوضيع العبد مخاطبة ومذكرة اياه بنهايته التعيسة (ستفقد عالمك الكبتاجوني سريعا، وسيتخلى عنك الفيل الأزرق .. ستزول جميع النعم، كل المنافع واللذات، وسرعان ما سيرمي بك نصفك المهزوم الى الهاوية، الى مرتع الفضائح ص114).
لقد استخدم العبيدي لغة الحوار بين القتلة وسيلة لكشف زيفهم وشدة اجرامهم وتجردهم من الانسانية كما أدان افعالهم التي وصلت من الخسة في اقتحام الميليشيات المسلحة المستشفى والاعتداء على الطبيب الذي كان يعالج جرحى التظاهرات، كما اشارت الرواية الى المتغيرات التي أحدثتها انتفاضة تشرين في الوعي العراقي الذي مرّ بصحوة وطنية بعد طول سبات ومن بينها التحول في شخصية " يارا" ابنة الطبيب الذي تم الاعتداء عليه حيث كانت هذه الفتاة الارستقراطية لا تغادر اسوار القصر واذا بها ثائرة متمردة في ساحة التحرير وملهمة لشباب الثورة، وايضا بان التغيير في الوعي من خلال تفاعل الجماهير مع يوميات الانتفاضة حيث شهدت ساحة التحرير يوميا مبادرات انسانية طوعية ممثلة بالدور الشجاع لعربات التك توك والطواقم الطبية وفرق المسعفين والطبخ ووجبات الطعام التي يجلبها المواطنون بسياراتهم الشخصية اضافة الى التبرعات التي يوزعونها على المعتصمين وكذلك رسم اللوحات التي زينت الجدران وحملات التنظيف للساحة .
يكرس الروائي الجزء الثاني من روايته لإظهار الصراع الذي ينشب بين القتلة الذين يتخذون من ثنائية (القمع مقابل البقاء) منهجا في التعامل مع الشباب المنتفض، حيث تتصاعد نبرة التمرد في خطاب الدخانية الموجه الى القتلة كاشفة به عن عريهم وقرب نهايتهم (هكذا ظننتم، انت ورهطك، انكم احكمتم قبضتكم وأذللتم العباد، وغدوتم مستهينين بالأرواح، وبمنأى عن قواعد التجريم والعقاب، لم يدر في خلدك قط ان نهاراتك المزدانة بتهشيم الجماجم ولياليك الحافلة برنين الكريستال وبمعزوفات الفيل الأزرق قد ولت ولن تعود، ولكن كيف لك ان تعرف ان كل تلك الحصون والقلاع وأسيجة الأمن التي شُيدّت لحمايتكم لم تكم آمنة ولا منيعة ص93) .
ويقوم المؤلف بأسدال الستار على هذه الملحمة الوطنية في مشهد درامي مؤثر تجسده " سعودة " حين تأتي الى ساحة التحرير حاملة الدخانية التي فجرت جمجمة ابنها الشهيد " باهر" التي احتفظ بها الطبيب الذي أخرجها من رأسه لتضمها الى معرض مخلفات الـ .. وسط بكاء المتظاهرين لتؤكد ان هذه القنبلة ستبقى في متحف التاريخ شاهدا على اجرام وخسة القتلة .
رواية (جمجمة تشرين) شهادة انصاف وحسن سيرة وسلوك لانتفاضة تعد هزة تغيير مدهشة وتمثل شرارة أمل كاد يختنق في ظلمة اليأس ممثلا بصولة الشباب الذين هبوا من أجل الانتصار لوطن (مذبوح ومباح، بيع في بازار الخراب الأمريكي في عصر الردة والتراجع، وخراب الأزمنة القبيحة، وتقاسم الغنيمة، وتفريخ الأحزاب والعصابات وبيع " بغداد الرشيد " عاصمة الدنيا في سوق النخاسة ص 123) انها رواية الثقة بالنصر ولو بعد حين .
يذكر أن الروائي عبدالكريم العبيدي كان قد أصدر عدداً من الروايات وهي: ضياع في حفر الباطن، الذباب والزمرد، كم أكره القرن العشرين، ثمانية أعوام في باصورا، قصة عرش العراق و«مجموعة قصصية»، إضافة الى مسرحية فوبيا، وروايته «اللحية الأمريكية .. معزوفة سقوط بغداد» التي حازت على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2018 .
***
ثامر الحاج امين