قراءات نقدية
مسرحية محطات.. غضب في الشارع
عرضت يوم الجمعة ٣/ ٣/ ٢٠٢٣ مسرحية (محطات) للمؤلف جبار القريشي في تمام الساعة الحادية عشر صباحا، وقد اختار المخرج د. كريم خنجر بفطنة ودراية يوم الجمعة في شارع المتنبي /ساحة المركز الثقافي، ليجد الجمهور الحاضر تلقائيا بكثافة ودون دعوة ولا موعد مسبق، انه جمهور شارع المكتبات والتحف والملتقيات الثقافية، ويعد جمهورا مثاليا - بدرجة كبيرة -لأنه شامل لشرائح اجتماعية عديدة وذي توجهات متنوعة، وذلك استنادا إلى قاعدة مسرح الشارع الاساسية: المسرح يذهب إلى فضاء المتلقي بدلا أن يأتي الجمهور إلى فضاء المسرح.
للمخرج د. كريم خنجر بصمة مهمة وبارزة في أسلوب مسرح الشارع، فقد أسس لمهرجان مسرح الشارع في بغداد لدورتين، وقدم تجارب اخراجية عديدة، كان آخرها عرض مسرحية (كوكايين) التي عرضت احدى وعشرين مرة في أماكن مختلفة من العراق، وتجدر الإشارة إلى أن هذا العدد من العروض وتنوع الاماكن دلالة واضحة على أهمية ونجاح العرض.
في عرض مسرحية (كوكايين) تصدى المخرج لآفة المخدرات واليوم يحتج في عرض مسرحية (محطات) على الفساد والسرقات وتضييع أحلام الشباب، وهذا هو نهج مسرح الشارع: (تناول قضايا يعيشها المجتمع وتشكل ظاهرة يعاني من انعكاساتها) من هنا جاء البحث عن فضاء مغاير متوافق مع البحث عن أسلوب جديد للتواصل مع الجمهور بحسب ما يمليه الموضوع والحدث والفكرة والشخصيات وكان خير فضاء لهذا العرض هو أي فضاء يتواجد فيه الناس الذين يعنيهم موضوع العرض.
تحصل المؤلف جبار القريشي على فكرة العرض من خلال الغوص في عمق المجتمع وتأمل الواقع وصاغها دراميا ثم قدمها إلى المخرج كريم خنجر كمادة خام ليستخرج مكنوناتها والعديد من المشتقات اليسيرة التقبل والفهم، كتب المؤلف بعض المقاطع شعرا وبعضها جمل مسجوعة لينقل إلى المتلقي (حالات إنسانية) ذات مضامين عميقة أكثر مما هي (أحداث درامية)
اشتغل عرض مسرحية (محطات) على وفق خصائص مسرح الشارع، ومنها:
اولا: عروض مسرح الشارع تذهب إلى الجمهور، بخلاف عروض المسرح التقليدي (الجمهور يذهب إلى بناية المسرح ليشاهد عرضًا مسرحيا)
ثانيا: توجيه الخطاب المباشر للمتلقي خاصية بارزة في عروض مسرح الشارع، بقصد إثارة تفاعل الجمهور والتحاور معه.
ثالثا: عروض مسرح الشارع غالبا ما تتجه إلى كسر البنية التقليدية الهرمية للحكاية وتأخذ الخط المستقيم لعرض حالة متأزمة اصلا يوصلها المؤلف/ المخرج للذروة الصادمة للمتلقي وينتهي بلا حلول حاسمة، إذ يترك أمر الحسم ووضع الحلول لتفكير المتلقي، وفي هذا مقاربات من نظرية المسرح الملحمي إذ تكون المشاهد عبارة عن حالة أو مجموعة حالات ترتبط بفكرة واحدة، والابتعاد -غالبا- عن البنية المسرحية التقليدية / بداية - وسط -نهاية، وجعل النهاية مفتوحة ورهينة وعي الجمهور.
بدأ عرض مسرحية (محطات) بصور شعرية تخاطب الجمهور مباشرة، وهي ذاتها ثيمة العرض الأساسية، وما أراد المخرج قوله تجلى في جملة واحدة تكررت على لسان جميع الممثلين بصورة منفردة وجماعية، الجملة هي (إصحى يا نايم) بمعنى آخر طلب العرض من الجمهور أن يستيقظ ويفكر بما يجري حوله في الواقع، وان لا يكون مغيب الوعي، واستمرت مجموعة المؤدين باستفزاز الجمهور بحوارات وافعال تؤكد ان هؤلاء الشباب (المؤدين) الذين خرجوا من بين الجمهور المحيط بمساحة العرض ليسوا سوى شريحة من مجتمع الجمهور نفسه، يرتدي المؤدين ملابس يبدو أنها قديمة أو ممزقة.
عمد المخرج إلى جعل السيادة في العرض للحركة الدائرية الانتقالية والموضعية للمؤدين بصورة فردية وجماعية لغرض تقني وهو توزيع الحوار على الجمهور الذي شكل دائرة حول مجموعة المؤدين، ولغرض فكري وهو إيضاح حالة التيه والضياع التي تعاني منها الشخصيات.
استخدمت عبوات الدخان مرتين وتسمى بالمصطلح الشعبي (بالدخانيات) بمقاربة واضحة لعبوات الغاز المسيل للدموع الذي يستخدم لتفريق حشود المتظاهرين، تفاعل احد الحاضرين والقى بضع جمل رغم ان صوته لم يعينه لتصل الكلمات لمسامع جميع الحاضرين الملتفين حول الممثلين فضلا عن الممثلين أنفسهم لم يتمتعوا بالإصغاء إليه وبالنتيجة فاتهم التفاعل معه / ربما لم يسمعوه لأنه رجل أخذت السنين منه قوة صوته الشيء الكثير، تفاعل عموم الجمهور بالهمهمة والكلمات غير الواضحة التي أعطت زخما للعرض.
ثمة حبل متين يربط الجمهور بأمرأة انضمت إلى مجموعة المؤدين الغاضبة، حبل مخضب بالدماء يأتي من الجمهور تسحبه المرأة باتجاه المجموعة، يساعدوها في سحب الحبل بكل قوة، ولكن لا أحد يستجيب لدعوة الانضمام إليهم، وأن صوتهم الذي ارتفع وقال كلمته بفضح الفساد والانتهاك بات غير مسموع.
يفاجأ المتلقي بحضور امرأة ترتدي اللون الاسود ومعها اثنان من الممرضين يحملون نقالة مرضى فارغة، وبدلا من إسعاف الجرحى الذين تساقطوا على بعضهم، تستخدم المرأة المسدس لتختم العرض بإطلاق النار على الجميع، ولتكون النهاية بصورة بصرية قاتمة جدا، إذ مَوَتَ المؤلف والمخرج جميع الشخصيات المحتجة الغاضبة ولم يدع للمتلقي محطة للتغيير وللنجاة .
سجلت الممثلات الثلاثة حضورا مميزا اكتسب جماليته من كون المرأة المحتجة واحدة بين سبعة ممثلين، ثم المرأة سحبت الحبل من دائرة الجمهور المحيطة بالعرض إلى وسط مساحة العرض،واخيرا المرأة التي أطلقت النار على مجموعة الشباب، لقد منح المخرج المرأة تركيزا في العرض من خلال قيادتها لمجمل تحولات الفعل الدرامي
واخيرا لابد التنويه إلى ضرورة دعم عروض مسرح الشارع، وتشجيع فريق د. كريم خنجر تحديدا لانهم:
- يقدمون أحداثا ساخنة وأفكارا هامة لمجمل المجتمع.
- يحرصون على اعتماد أسلوب مخاطبة الوجدان الجمعي.
- يعتمدون على لغة حوار ومكونات فضاء تتسم بالروح المحلية مما يجعل المتلقي يجد أواصر تربطه بالعرض.
اشد على ايادي فريق العرض بقيادة المخرج كريم خنجر، متمنيا عليهم التواصل والمثابرة على نهج مسرح الشارع.
***
حبيب ظاهر حبيب