قراءات نقدية
تراجيديا الصراع بين الواقع والمأمول
قراءة نقدية في المجموعة القصصية: تأمّلات بعدسة القلم للقاصة: نوميديا جروفي
صدرت المجموعة القصصية الموسومة بـ (تأمّلات بعدسة القلم) للقاصة الجزائريّة نوميديا جروفي عن دار الماهر للطباعة والنشر والتوزيع، في طبعتها الأولى عام 2019 م. وقد أهدتني القاصة – مشكورة – نسخة منها أثناء فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالجزائر العاصمة في شهر نوفمبر سنة 2019 م.
احتوت هذه المجموعة القصصية على اثنتين وخمسين قصة قصيرة. وقد صدّرتها الكاتبة نوميديا جروفي بعتبة جاء فيها: " قصص الحياة تُكتب في القلب وليس في الأوراق " ص 5. وهي - لعمري – بمثابة عنوان ثان ومفتاح للمجموعة، يفضي بالقاريء والناقد إلى تحديد العلاقة الجدليّة بين الفنّ القصصي الملتزم بقضايا الإنسان المصيريّة ووحياته اليوميّة في أبسط جزئياتها وأضيق زواياها.
تقول الكاتبة في مقدمة مجموعتها القصصية: " هي قصص ليست منزلة من العلى بل من روافد المجتمع ففي عمق كل قصة هناك خبرة وما وراء كل خبرة عبرة حياة... إنّها قصص أظنّها كفيلة بأن تجعل القاريء يرحل إلى أعماقه ليحاور ذاته ويتأمّل حياته حتى يبلغ ملء نضجه الإنساني " ص 9.
إذن، هي قصص انتزعتها الكاتبة نوميديا جروفي من بين مخالب الواقع المرّ وأنياب الدهر، الذي لا يرسو على شاطيء، ولا يقرّ له قرار. رسمت فيها الكاتبة جزئيات مجتمع أنهكته العلل النفسيّة، والعقد الدونيّة، والاستسلام لليأس والقنوط. ففي قصة (شبح)، يتحوّل - فجأة - حب البطلة ووفاؤها وفرحها وحلمها المعسول إلى حزن فجنون فانتحار من أعلى الجبل " لطمت ومزّقت ثيابها وأخذت تركض هائمة على وجهها حتى وصلت أعلى الجبل من ذلك الجرف ورمت نفسها منتحرة " ص 15. وكان (تحليقها) ذاك من (أعلى)، لا يشبه البتّة تحليق الفراشات بين الزهور زهوا واستمتاعا، بل كان فجيعة وموتا محتوما، وسقوطا نحو (جرف) مميت. وهو مصير مأساوي يعرّي هشاشة النسيج الاجتماعي ويفضح ضعف الوازع الروحي في مجتمع يتسيّد فيه (فخامة) الجهل و(جلالة) الخرافة على قدسيّة العلم واليقين. مجتمع، ينظر إلى المرأة من زاوية ضيّقة ومنكسرة، لأنّها جسد لقضاء متعة جنسيّة، وعورة وجب وأدها في (قبر) دنيويّ، قبل طمرها في قبرها الترابيّ. مجتمع يتّهم المرأة ويلبسها ثوب الجاني، ولو كانت ضحيّة بشهادة نجوم السماء وكواكبها. وقصة (فاجعة) صورة لذلك، فقد وقعت البطلة ضحيّة اغتصاب من طرف لاجئين من مالي، وغم أنّها كانت يدها مشفقة عليهم. " كانت المسكينة تشفق على لاجئين من مالي تراهم دوما قرب بيتها فتطعمهم وتعطيهم الماء لحرارة الجو خارجا " ص 16. أجل، منحتهم الماء، أي الحياة، بينما منحوها الموت. ".. فدخلوا عليها وكانوا ستّة وهي امرأة لا حول لها ولا قوّة وأطفالها الأربعة نائمون في العليّة... وتعاونوا لتكبيلها ثم تناوبوا عليها فاغتصبوها جميعا " ص 16. هو مشهد فظيع جدا، لأنّها لم ترتكب تلك الخطيئة، بل أُكرهت عليها كرها، لكن لم يرحمها المجتمع، ولا زوجها الذي قال لهم، بعدما أخرج لهم صحنا من الطعام: " عندما تنهون الأكل دقّوا عليها واعطوها الصحن " ص 16. رغم أنّه مسؤول عمّا حدث لها. وطلّقها الزوج بعد جريمة الاغتصاب الوحشي، " ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين.. " ص 18، ثم تفارق الحياة من وطأة الصدمتين ؛ صدمة الاغتصاب وصدمة الطلاق. فالقصة - بقدر ما فيها من عبرة لمن يعتبر وذلك عندما يكون جزاء الإحسان غير الإحسان - تدين بشدّة عنجهيّة الذكر الفاقد لصفات الرجولة الحقّة ضد المرأة الضحيّة في بيئة ذكوريّة أحاديّة النظر، تغفر للذكر المستبّد كل خطاياه في حق المرأة، بينما تعاقب المرأة على خطيئة لم ترتكبا رغبة وطوعا، نظرا لاختلال عقليّ وسيكولوجيّ في تلك البيئة. وهذا ما تظهره قصة (مذلّة ومهانة)، حيث تتعرّض البطلة، وهي امرأة شرقية يتيمة، مترفة ماديا، لكنّها تعيسة في حياتها. " أعيش حياة الترف، أنظري حجم البيت الضخم الذي أعيش فيه، عندي أفخم الأثاث، أسافر كل سنة لبلد، ولكنّني أتعس الناس " ص 42. تتعرّض للتعذيب النفسي الشديد من زوجها الذي وصفته قائلة: ".. زوجي زير نساء " ص 42. وحين سألتها جارتها عن سبب رضاها بالعيش معه أجابتها بهدوء: " ماذا أفعل؟ أين أذهب؟ إلى الشارع؟ أنا يتيمة ولا بيت عندي يأويني ويحمي أولادي من الفقر ويسترني من أنياب ذئاب الشارع... أنا مقهورة، ذليلة، مهانة، مسكينة، مجروحة، أموت في اليوم مائة مرّة " ص 43. فالمال وحده لا يصنع السعادة، والغنى وحده لا يبني أسرة مطمئنّة ومتماسكة وسعيدة، إذا انعدمت المودة والرحمة والقناعة والغنى العاطفي والنفسي. فقد يكون الترف بوابة مشرعة على الفساد الأخلاقي والاجتماعي، ووسيلة لإذلال الآخر وتعذيبه نفسيّا. لكن ما يلفت النظر هنا، هو إصرار الكاتبة على تقديم بطلة قصتها في موقف انهزاميّ واستسلاميّ وسلبيّ، لا مثيل له، لا تملك من أسلحة المقاومة غير الصمت والرضا والدعاء. " كلّما أنظر إليه أحترق في أعماقي، وأدعو له الربّ في صلواتي ليبتعد عن الوحل الذي تلطّخ به.. هذا أقل ما أستطيعه للأسف، فهو أب أولادي " ص 43. موقف خال من بؤرة التأزّم، الذي يُكسب الحدث القصصي صراعا دراميّا، غايته إثارة الإشكالية المطروحة وإظهارها ورصدها للرأي العام في صورتها النمطيّة لا الفردانيّة. ومهما كانت الأعذار، فإنّ القبول بالخيانةّ الزوجية على أنّها أمر واقع، هو أشد إيلاما من الخياتة نفسها. وكان على الكاتبة أن ترسم بطلتها في صورة إيجابية، أقلّها ما فيها، الرفض المطلق لسلوك زوجها الخائن لها جهرا وعمدا.
أمّا العيش مهانة تحت سقف خيانة زوجها لها مع سبق الإصرار والترصّد، بحجة خوفها على نفسها، وعلى أبنائها من الفقر والتشرّد وذئاب الشارع. فذلك – لعمري – أكبر خيانة للضمير والعفّة والحدّ الشرعي والقيّم الأخلاقيّة النبيلة والأعراف الأسريّة المشاعة والميثاق المتين والمقدّس للزوجيّة.
وهكذا، وجدنا القاصة نوميديا جروفي، قد قدّمت لنا في ثنايا قصصها شخصيات منتزعة من عالم الواقع المعيش، مطحونة حتى النخاع، وبنظرة موغلة في واقعيّة انتقاديّة داكنة، تتأرجح بين دروب اليأس والاستسلام والخيبة والضياع والموت بشتى الطرق الموجعة. تارة يوجعها القدر في أعزّ ما تملك ؛ في فقدان مفاجيء ومأساويّ لزوج، كما حدث في قصة (غلطة عمر) أو ضياع حبّ كما في قصة (بعد 18 عاما)، أو إعاقة بيولوجية دائمة نتيجة حادث مرور، كما جرى للطالبة الجامعية في قصة (صدفة غريبة). وتارة أخرى يصدمها الواقع المرّ، وما فيه من خيبات وتناقضات عجيبة بين مظهره ومخبره. فهذا يتنكّر لها كم في قصة (بين الماضي والمستقبل)، وذاك يحاول خداعها بكلام معسول لنيل مبتغاه الجنسي، كما في قصة (في مهبّ الريح).
ففي قصة (الموت) كانت نهاية الفتى الصغير، الحالم بالجمال والابتسامة والسلام فظيعة، وفيها إشارة إلى العشريّة السوداء والحمراء التي عاشها جيل التسعينيّات في الجزائر "... لكنّه ما كاد يعدو نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة " ص 21. وكذلك كان مصير الطفل السعيد صاحب البالون الأحمر في قصة (طفولة موؤودة)، بعدما سلبت منه الحرب اللعينة نعمة الأمن في وطنه، والتي فرضها الأقوياء على الضعفاء، وبات الموت ضيفا بشعا يتربّص - دون موعد أو سبب - بالأسر البريئة والأحياء الآمنة دون رحمة أو شفقة. " كان الوطن يعيش بأمن وأمان في زمن ليس ببعيد، واليوم اختلف كل شيء، حيث أصبح الشعب مستضعفا في وطنه، الذي عشّش فيه الخوف والرهبة من موت بشع، كيف لا والموت أصبح ضيف الغفلة على الأسر والأحياء " ص 69. ذلك الموت العشوائي، الذي لا يميّز بين ضحاياه، بل يزهق أرواح الأطفال. " وما كاد يخطو خطوتين حتى كُتمت أنفاسه البريئة برصاصة اعترض طريقها سهوا فاخترقت جمجمته الملائكية." ص 70. وكأن الذنب هنا، ذنب الطفل الذي اعترض طريق الرصاصة، لأن الحرب أمست سيّدة المكان، احتلّت الشوارع، أين يجد الأطفال متسعا ومساحة للعب الكرة. وهي في الغالب عادة الأطفال في البيئات الشعبية الفقيرة. وحين تحرم الحرب الأطفال من ممارسة ألعابهم المفضّلة في الشوارع، وتغتالهم الرصاصات الطائشة، فهذا يوحي بأنّ المأساة فظيعة، وأنّ الوطن قد غرق في مستنقع حرب لا عنوان لها ولا خطوط حمراء أمامها. " طار البالون الأحمر في السماء ولحقته روح الطفل هناك بعيدا حيث السلام الأبدي " ص 70. وقد وظفت القاصة نوميديا جروفي ألفاظا سيميائية مثيرة في التعبير عن بشاعة الحرب مثل: عشّش – الخوف – الرهبة – موت بشع – ضيف الغفلة - كُتمت – اعترض – اخترقت جمجمته – الأحمر.
ما أقسى وطأة الموت على قلوب تعشق الحياة البعيدة عن أزيز الرصاص ودويّ القنابل. وما أتعس حياة جيل التسعينيات، الذي طحنته حرب بين الإخوة الأعداء، وحرمته من نعمة السلام والأمن وسبّبت له عللا وعقدا نفسية، دفعته إلى جلد الذات، وإلى سلوكات مميتة، مثل: الهروب من الوطن على متن قوارب الموت والمخدّرات والانتحار والعنف ووو.
و تواصل القاصة نوميديا حروفي في التنقيب في أعماق المجتمع الشرقي المريض عن خباياه. ففي قصة (الأم والابن)، تعرّي القاصة جانبا أسود من المظالم الاجتماعية، وهو عقوق الوالدين، حيث طرد الابن أمّه إلى الشارع بسبب زوجته، ناسيا أو متناسيا برّ الوالدين، وغافلا عن مآل العاق لوالديه، ومتجاوزا – بعنجهيّة – أحكام الشرع وتقاليد المجتمع الشرقيّ وأعرافه وقيّمه، سواء المحافظ منه أو المتفتّح. جاء على لسان الأم: ".. شاءت الأقدار، أن يأتي يوم ويرميني ابني في الشارع مع حزمة من ثيابي بسبب زوجته " ص 57. وجاء على لسان الابن العاق، مخاطبا أمّه: " اذهبي.. غادري.. واخرجي من بيتي فقد ضقت ذرعا بك. " ص 57.
لقد تنكّر الابن العاق ورمى أمّه التي حملته وهنا على وهن، وأرضعته حتى الفطام، ورعته إلى أنّ شبّ واشتدّ عوده وساعده. " وقَضَى ربُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ وبالوالدين إحسانا، إمّا يبلغنّ عندكَ الكبرَ أحدُهُمَا أو كلاهُمَا فلا تقلْ لهما أفٍّ ولا تنهرْهُمَا وقُلْ لهُمَا قولاً كريما واخْفِضْ لهما جناح َالذّلِّ من الرَّحْمةِ وقُلْ ربِّ ارْحمهُما كما رَبيَّاني صغيرا " مسورة الإسراء 23 / 24.
و في القصة إيحاء إلى محاولة انسلاخ الجيل الجديد من هويّته بكل ما تحمله من قيّم نبيلة، بدعوى العصرنة الغربيّة الزائفة.
و لم تغفل القاصة زمن الحراك الشعبي الذي انطلق في فيفريّ 2019 م. وتناولته في قصة قصيرة جدا بعنوان (صلاة الشعب). بعد إعلان الرئيس – تحت ضغط المظاهرات المليونيّة السلميّة - عدم ترشّحه لعهدة خامسة، والصلاة هنا تعني الدعاء. وهي أقصوصة، تشبه ما عرفه العصر العباسي بفنّ (التوقيعات). وبقدر ما هي موجزة في لفظها، لكنّها عميقة في معناها. فقد عبّرت الأم - وهي رمز الجيل القديم والشاهدة على العهدات السابقة – عبّرت عن بهجتها، وكأنّها تخلّصت من كابوس، طالما أرّق حياتها. وهنا يظهر أثر التواصل بين الأجيال الواعيّة، ودور الشعب الحرّ في إحداث التغيير المنشود، وأحقيّته للتحية والتقدير والإجلال. فإذا أراد الشعب الحياة الحرّة، استجاب له القدر، أمّا إذا خنع واستسلم ورضي بالاستبداد، فإنّ مصيره الهوان والفناء.
لم تبتعد قصص الأديبة نوميديا جروفي عن معالم بيئتها الملأى بالمعاناة والمآسي اليوميّة التي تفترس الفرد كوحش ضار، والمحفوفة بالتناقضات الاجتماعيّة. فكأنّي بالقاصة، قد اتّخذت لها مجلسا شهرزاديّا، وطفقت تحكي دون تكلّف حكايات شهدت أحداثها، بأسلوب سرديّ بسيط وواقعيّ (نسبة إلى المدرسة الواقعيّة) وخال من الخيال. مستغلّة تقنيّة الأنا الشاهد أو (التبئير الداخلي) كما سمّاه جرار جينيت. وفي أغلب الأحيان، جعلت القاريء يكتشف أن السارد (القاصة) تتحكّم في عالم القص وتوجه الأحداث، من خلال أسلوب بانوراميّ غير محايد. فغالبا ما جاءت نهايات قصصها منفصلة عن العقدة أو لحظة التأزّم، عبارة عن عبارات تلخّص المغزى والعبرة من القصة، تحمل معاني حكمية وعظية، وهذا تدّخل واضح وسافر من القاصة في توجيه الأحداث. كقولها - على سبيل المثال لا الحصر - في نهاية قصة (فاجعة): " صدق من قال: لا تكسر اليد التي تمد لك الخبز أبدا " ص 18. وقولها في نهاية قصة (انتحار): ".. وما أكثر هذه الأخطاء الطبيّة التي ذهب ضحيتها الكثيرون.. طوبى للحزانى لأنّهم يتعزّون. " ص 20. وقولها أيضا في خاتمة قصة (القهوة المالحة): " قد نشرب المرّ من أجل أحدهم فقط لأنّنا أحببناه من كل قلبنا وأنّنا نضحي بكل شيء في سبيل أن نبقى معه وحياتنا لا تستمرّ بدونه. إنّه الحب صانع المعجزات الذي لا يؤمن بالمستحيل أبدا " ص 97. وقولها في نهاية قصة (عشرون عاما وأنا أبحث عنك): " إنّنا لا بد أن نحصد ما زرعناه ولو بعد أيام كثيرة أو أعوام خيرا كان أم شرّا وليعطينا الرب الإله أن نصنع رحمة طوال أيّام حياتنا. " ص 131. وقولها في خاتمة قصة (بين العار والشرف): " قتلوا الشرف ليحيا العار " ص 148.
إنّ مثل هذه النهايات متروكة – في الأصل - للمتلقي، وهي حق من حقوق الناقد وواجباته ورسالته النقدية. وإلاّ ماذا بقي للناقد من اجتهاد نقدي؟ هي ليست من مهمّة القاص، لأنّ القصة في مضمونها العام، ليست مقالا فلسفيّا أو اجتماعيا أو أدبيّا، تستنتج العبر والمواعظ، وتمنح الحلول والنظريّات للمتلقّي. أعتقد أن القاصة نوميديا جروفي قد أقحمت تلك النهايات المنفصلة عن الأحداث في جلّ قصصها، وهذا شكل من أشكال هيمنة الساردة (القاصة) وسلطتها على النص. في الوقت الذي كان عليها أن تبقى محايدة عن النهايات القصصية الحاسمة أو المفتوحة، التي تفرضها فنيّات القصة القصيرة، من خلال توظيف تقنيّة التبئير الخارجي أو المعرفة المحايدة، التي تعطي لشخصيات القصة القصيرة دورا أكبر من دور (السارد)، حين يكون ناطقا بضمير الغائب.
و يلفت الانتباه، في هذه المجموعة القصصية، هو أنّ العديد من أبطالها أطفال معذبّون، بسبب اليتم أو الفقر والمرض والحرمان والقهر الاجتماعي. وقد قدّمتهم القاصة نوميديا جروفي في صورة أليمة ومؤلمة وتراجيدية، خاصة في قصص (البراءة) ص 146، و(الطفل والطبيب) ص 143، و(الوردة) ص 142، و(كلمة السر) ص 126 و(الموت) ص 21. و(طفولة موؤودة) ص 69، و(كأس الحليب) ص 98، و(الصندل) ص 100، وغيرها.
وعندما نتأمّل المقاطع السردية التالية: " دكتور، طفلي مريض وهو في حالة خطيرة جدا، أرجوك أن تفعل أي شيء لإنقاذه " ص 130. "... فالولد كان ضريرا " ص 142. ".. وما كاد يعدو (أي الولد) نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة " ص 21. " طار البالون الأحمر في السماء ولحقته روح الطفل هناك بعيدا.." ص 70. " كان طفلا فقيرا يوزّع السلع على المنازل ليلا حتى يتمكن من إنهاء تعليمه، وفي ليلة شعر بجوع شديد.." ص 98. " طفل صغير يتيم في السابعة من عمره فقد والديه وهو رضيع.. " ص 100. "..و لأنّ اليوم كان العيد، فقد كانوا كلهم يلبسون الملابس الجديدة إلاّ هو الذي كان يلبس ملابس رثة، ونفس زوج الصندل الذي يصغر مقاسه عن قدمه.. " ص 100 / 101. تتّضح لنا صورة سوداوية لطفولة معذّبة وضائعة في مستنقع مجتمع لا مستقبل له. مجتمع يقتات من ترهات الماضي وخرافاته، ويتكيء على حاضر افترضيّ وفوضويّ، ويرنو إلى مستقبل أعنّته السراب.
كما كان للأنثى المقهورة والمهمّشة نصيبها في هذه المجموعة القصصية، فقد قدّمتها القاصة ضحيّة مجتمع ذكوريّ معقّد. فهي متّهمة ومذنبة رغم براءتها، تدفع ثمن خطيئة الطرف الآخر تحت سلطان القوّة والتسلّط. وكأنّها فرض كفاية في المجتمع. ففي قصة (مذلة وإهانة)، تعامل الأنثى كسقط المتاع، فهي – في نظر الذكر - مجرد كتلة من اللحم والعظم، منزوعة العواطف، وظيفتها جنسيّة لا أكثر. " زوجي زير نساء، كل نهاية أسبوع يأخذني عند أخته لتمضية يومي الخميس والجمعة... " ص 42.
وكذلك في قصة (فاجعة)، دفعت الزوجة الضحيّة، الطيّبة، الكريمة، البريئة، ثمن غلطة زوجها المتعجرف الذي " أدخل عليها غرباء وتركها وهي في أشدّ الحاجة إليها " ص 18. فبدلا من الوقوف بجانبها ومؤازرتها وحمايتها، قام بتطليقها، ليبدي رجولته المزيّفة أمام الناس. " تخلّص منها بطلاق ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين... " ص 18. وهكذا يتحوّل الزوج من سند لزوجته وحام لها إلى جلاّد. وهو صورة واقعيّة لمجتمع ذكوريّ منافق، يمارس دور الخصم والحكم في الوقت نفسه.
وبعد، فقد وفقت القاصة نوميديا جروفي - في مجموعتها القصصية (تأمّلات بعدسة القلم) – في فضح خبايا واقع اجتماعيّ يرزح تحت نير التخلّف والخرافة والظلم والقهر والتهميش والعلل النفسيّة، ورصد سلوكيّات أفراده، بأسلوب سرديّ بسيط وسلس. فإن أغلب قصص مجموعتها السالفة الذكر، لم تخل من سلبيات وعثرات على المستويات التالية:
أ – ظهرت في المجموعة أخطاء إملائية ونحوية ولغويّة، مثل " وكان الوقت متأخر (متأخرا) – فكان جوابه سلبي (سلبيا) ص 19 - بعد فوات الأوان أي بعد أن نفقده للأبد – (ما دور أيّ هنا؟) ص 33 – ترك لها أموال (أموالا) ص 37 - أم لولدان (لولدين) ص 37 – فنقله بسيرة (سيارة) ص 39 – ولا ترى أحد (أحدا) ص 40 – هو ذا الظلام ينشر سواده ليلا ص 45 (تكرار المعنى) – ذو السبعة عشر عام (عاما) ص 46 – وجد طفل صغير (صغيرا) ص 127. أنت ابني الغلي (الغالي) ص 116. وهنا، أطرح سؤالا، طالما أرّقني ومازال، أين المدقق اللغوي في دار النشر؟ وما دوره؟ وما جدوى وجوده؟ لماذا غفل عنها أو تغافل؟ أم أنّه أكذوبة؟ أم أنّ بعض المدقّقين اللغويين يخونون الأمانة، ويخدعون من استأمنوهم؟ وأذكر أنّني قرأت كتابا مطبوعا لأحد الأصدقاء، فعددت فيه أكثر من ألف خطأ. فلمت مؤلفه على تلك الأخطاء الفاضحة، وسألته: هل مرّ كتابك على التدقيق اللغوي قبل النشر؟ فقال لي: نعم. (كما أخبره الناشر)، ثم أضاف: لقد عرضته على أستاذين جامعيين مختصين في اللغة العربية، قبل دفعه للمطبعة. فحوقلت واستعذت للغة الضاد من همزات الدعاة والمنتحلين.
ب – من المآخذ التي رصدتها أيضا، تلك النهايات في القصص، وهي تدخّل واضح من القاصة في توجيه القاريء، نحو المغزى العام للقصة، ممّا قد يحوّلها إلى مروحة للكسالى. كان على القاصة أن تدع ذلك للقاريء المتذوّق والناقد المتمكّن، كي يغوص في أعماق المعمار القصصي لاستنباط الهدف والمغزى العام.
ج – لم تعتن القاصة، جيّدا، بأسلوبها السردي، من حيث توظيف بعض الألفاظ في موضعها المعجمي أو المجازي، كما جاءت بعض العبارات مهلهلة الصياغة، طنباء، تحتاج إلى ترميم وإيجاز، إضافة إلى غياب علامات الترقيم في بعض المقاطع.
وبعد، فبالرغم، من المآخذ السالفة الذكر، فإنّ (تأملات بعدسة القلم) لنوميديا جروفي إضافة مفيدة للمكتبة العربية، ولبنة أخرى، تضاف إلى هرم القصة الجزائرية القصيرة الشبابيّة، وبريشة وعدسة نسويّتين.
***
بقلم الروائي والناقد: علي فضيل العربي – الجزائر