قراءات نقدية
الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لفولتير.. دراسة مقارنة (14)
ألمحنا في المقالات السابقة إلى التصوُّر العامِّ الأوربيِّ للمرأة الشَّرقيَّة، الذي استُقي من "ألف ليلة وليلة"، قبل أيِّ مصدرٍ آخَر. ولئن صحَّ بعض ذلك التصوُّر، فإنَّ بعضه لا يعدو خيالًا "ألفليليًّا". وتتمثَّل آثاره في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، في مظاهر، منها تصوير المرأة ممتهنةً غالبًا، وبخاصَّةٍ في بلاد العَرَب، حتى إنَّها لتُحرَق، على حدِّ زعم الراوي. وهناك القصور الحافلة بقوافل النِّساء اللَّاتي يحرسهن العبيد والخصيان، كما في الفصل المتعلِّق بحكاية (الباسليك). بيدَ أنَّك ترى في المقابل الأميرات المترفات والملِكات المتوَّجات. هكذا تَظهر تلك الصُّورة الطبقيَّة المتقابلة في "صادق" كما تظهر في الليالي العَرَبيَّة.
ولعلَّ تصوُّر المرأة خائنةً، عديمة الوفاء، أو قليلته على الأقل، هو من أهمِّ ما يُلحَظ من تشابُهٍ في تصوير المرأة بين قِصَّة "صادق" و"ألف ليلة وليلة". وتبرز خيانة المرأة زوجها في عِدَّة مواضع من "صادق"، أهمُّها خيانة المَلِكة زوجها. وتلك إحدى الأفكار الرئيسة في قصص الليالي، في مثل قِصَّة "السلطان محمود صاحب الجزائر السود"، وغيرها. وإلى جانب الخيانة، تبرز الغيرة القاتلة. أمَّا النظرة العامَّة إلى مكائد النِّساء، وغرائزهن، ودوافعهن، وما إلى ذلك من أسرارهن- كما بدت في زوجات مَلِك (سرنديب)، في فصل "العيون الزُّرق"- فإنَّ أصله واضحٌ من قصص الليالي في حكايات مكائد النِّساء وحِيَلهنَّ المتعدِّدة، وأُولاهنَّ (شهرزاد) نفسها.
-2-
وتُصادفنا موضوعةُ الحِيلة في قِصَّة "صادق" كما تصادفنا في "ألف ليلة وليلة". وهي في كلا النَّصَّين لأهداف مختلفة. منها ما يكون لكشف حقيقة، كالحِيلة التي أجراها (صادق) ليعرف صِدق امرأته (أزورا) في حُبِّه، وكالحِيلة التي اتَّخذها مَلِك (سرنديب)، بمساعدة صادق، لكشف أمانة المرشَّحين لبيت ماله، أو لكشف وفاء نسائه. ومن الحِيَل ما يكون لجلب منفعةٍ أو دفع مضرَّة، كالحِيلة التي احتالها (كادور) في سبيل إنقاذ صادق والملِكة، بعد كشف أمرهما عند الملِك، أو الحِيلة التي قامت بها الأرملة العَرَبيَّة (المُنَى)، من أجل إنقاذ جسدها من الحرق، وإنقاذ صادق من ثورة الكهنة. وقد تأتي الحِيلة لعملٍ شَرِّيٍّ، كتلك الحِيلة التي أعدَّتها زوجة الحسود للإيقاع بصادق وامرأة المَلِك (مؤبدار)، أو كالحِيلة التي سرقَ بها (إيتوباد) اللَّأْمَةَ البيضاء من صادق، بعد أن تفوَّق عليه في المبارزة، التي تسابقا فيها على عرش المملكة. وكلُّ تلك الضُّروب من الحِيَل عهدناه في قصص (شهرزاد) بكثرة. منها، على سبيل المثال، ما نقرأ في (الليلة 672)، من "حكاية أحمد الدنف وحسن شومان مع الدليلة المحتالة وبنتها زينب النَّصَّابة"(1). إلى غير هذا من النماذج، التي كثيرًا ما ترتبط بالمرأة، متمخِّضةً عن الثقافة الذكوريَّة في شيطنة الأُنثى، هنا وهناك.
-3-
وقد جرت العادة في ليالي (شهرزاد) أن يظهر علينا البطل متَّصِفًا بصفات الفُروسيَّة غالبًا. وصفات الفُروسيَّة هناك كانت الشجاعة، والفِطنة، والجَمال الخُلقي، والخَلقي. وقد يجمع البطل مع هذه الخصال: الثقافةَ، والعِلمَ الواسع، والحِكمة الفاضلة. وقد تمثَّلت تلك الصفات الفروسيَّة في شخصيَّة (صادق)؛ فهو فتًى جميلٌ، ذكيٌّ، مثقَّفٌ، شجاع، له من الحِكمة، والعِلم، والخُلق، مثلما كان لأبطال القصص الشهرزاديَّة.
ومن أوجه الشَّبَه بين النَّصَّين أن تتمثَّل فطنة البطل في تحليل الأمور والاستعانة بالقرائن. كما فعل (صادق) عندما عرف صفات كلبة المَلِكة وجوادها بقرائن من آثارهما، لينال بذلك جائزة الأربع مئة مثقال محمولة إلى داره في موكب. وهي الصورة عينها التي تتكرَّر مع بعض الأبطال الشهرزاديِّين.
والبطل في "ألف ليلة وليلة" غالبًا ما يكون شاعرًا، يُنشِد في مختلف المواقف. مثال ذلك ما تَقرأ في قصَّة "أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام"(2)، وفي غيرها. وتتكرَّر في قِصَّة (فولتير) الصُّورة نفسها في شخصيَّة (صادق)، الذي أدَّت به إلى السجن بِضْعةُ أبيات كتبها. وإنْ كان يبدو أنَّ (فولتير) إنَّما أقحم هذا في قِصَّته لتصوير بعض المشكلات التي كان واقعيًّا يعانيها هو في حياته.
وفي مقال الأسبوع المقبل ننتقل إلى مقارنة قِصَّة (فولتير) بقِصَّة "السندباد البحري".
***
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي
..............................
(1) (1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)، 5: 990.
(2) م.ن، 4: 707- 725.