قراءات نقدية
تناص الافكار في المسرودات القصصية للقاص شوقي كريم حسن
(عربة ماركس المنسية) انموذجاً
انطلاقا من كون سرديات الحداثة تعتمد على التجريب والتجريب بحد ذاته نوع من انواع التمرد وما يقع وان الساحة التي يعمل فيها الادب التجريبي بانه يعمل في حقل الالفاظ واللغة وانتهاك قواعدها واللامألوف في تقنيات السرد تمردا فكرياً ورؤيوياً وجمالياً عبر القصص التي تأتي بالملامح التي تدل على التمرد والخروج عن المعتاد هذا ما نلمسه في تجربة القاص والروائي شوقي كريم في مسروداته التي جاءت مزيجا من ادراك ذاته الابداعية لواقعها الاجتماعي وقوانينه الفاعل كون الابداع يتولد من تجادل الذات مع موضوعها والحركة الفاعلة بينهما بحيث يؤثر كل منهما في الاخر والتي تنعكس آثارها على ابداعه السردي والتي تمثل شكلا من ادراك الواقع الاجتماعي ومحاولة في تغييره .
استهل القاص شوقي كريم مسروداته القصصية بالإهداء الى والده كريم حسن شهاب الذي علمه كيف يواجه الظلم والتحرر من العبودية في كل مستوياتها كون الانسان هو الكائن الاسمى. الاهداء من المناصات المهمة ونصا موازيا يمثل تواصلا حميميا بين الكاتب والمهدى اليه حيث جاء اهداء الكاتب ملمحا يحمل في طياته قيماً اخلاقية واجتماعية وايديولوجية.
الاهداء/ كريم حسن شهاب.. الذي علمّني أن مواجهة الظلم مهمّة انسانية، شريطة ألا تكون مرتبطة بمصالح شخصية ضيّقة الافق، وأوصاني، ذات غضب .." مجنون ٌ من تسيّره أوهامٌ محالٌ تحقيقها"1
الزمن وتفتيت اللحظة
ونحن نطالع المجموعة القصصية (عربة ماركس النسية) انموذجا لمسرودات شوقي كريم الذي جاء عنوان استنباطي من أحد عناوين المجموعة والذي عودنا ان لا يقدم العنونة على طبق من ذهب الى المتلقي في مسروداته المتعددة الاخرى في القصة (عراقوش، ليلة المرقد، قطار أحمر الشفاه،...) وفي رواياته شروكية، قنزة ونزة، ثغيب، لبابة السر، ...) وانما يأتي من باب التعريض لا التصريح دال على كون العنوان لا يهب نفسه للقارئ ولا يبوح بسره والذي من خلاله يشد انتباه القارئ ويغريه للولوج لعالم مسروداته وانما يتحلى بالغموض ولا يكشف عن المضمون وهذا ما ينطبق على العنونة الفرعية في المجموعة التي نحن بصددها البالغ عددها العشرون، (وهم البدايات، حصى، قوافل الشط، موت أصابع الجكليت، هوامش السندباد، فلك طرّك، نهار ابيض بلون الخطيئة، مشواف الهندس، خاصرة القنفذ، مدافن النايات، وهنا يقوم القارئ النموذجي ملأ الفراغات واعادة انتاج معناه عبر التفاعل بين دلالات النص ودلالات القراءة، يتضح لنا عبر تقنيات السرد وآلياته وحضورها الفاعل في تكثيف الزمن وتفتيت اللحظة الحاضرة وتأكيد على وجود الذات في الزمن
"قيل لي ذات ليلة مجنونة صاخبة ٍ، كنت أود وأنا أعيش تفاصيلها بكل خبل، ألا ألجُ أبواب الواعظ والحكم والوصايا"2
تفتت الحدث وتوزعه بين ثنايا النص والتحرر من التقيد بزمن الحدث فنرى الاحداث تظهر على شكل افكار أو افعال او حركات الشخصية، تبعثرت الاحداث تجسيداً لرؤية الكاتب للحياة فهي لا تنمو ولا تترابط بل تجلت على شكل قفزات وانتقالات من حدث الى تعليق الى وصف لتعكس واقعا يهيمن عليه السوداوية.
وأول ما تحس به وانت تقرأ هذه المجموعة الانسجام الكبير او التجانس الموضوعي في رؤيتها وانه يواصل نفس التجربة المضمونية بأبعاد ومستويات متجددة في جميع مسروداته وكأنه يحمل اسِفاراً كثيرة ويقدمه لنا سفراً أثر سفر فيه من المتعة واللذة برغم ما تحمله من أحزان وويلات وهموم العراقيين من جراء الحروب والفساد والظلم
شوقي كريم مسكون بثقل الهموم في حياة يصعب أن ينال الفرد حقه من الفرح وحتى الحلم وهو قاص يمتلك ادوات القص الرائعة ولديه رؤى بعيدة تصل الى الفلسفة، والتي لمسناها من العتبة الاولى للمجموعة ومشتملا تناصا فكريا فلسفيا من شخصية (ماركس) الذي كان معروفا بصفته فيلسوفا بقدر ما هو معروف كثوري..
وقد نجد القاص يبحث عن الحقيقة وعن تفسيرات فلسفية لمعاني الحياة، اهتم بالواقع السياسي والاجتماعي والمسائل الانسانية العامة والقضايا الفكرية والفلسفية باسلوب التفاعل النصي مع نصوص غيره او التناص غير المباشر الذي يشمل تناص الافكار أو المقروء الثقافي، او الذاكرة التاريخية التي تستحضر تناصاتها بروحها او بمعناها أو لغتها نلمس في بعض قصصه روح وجودية وتداخلا نصياً صوفياً والتي تحفل بالعديد من التعبيرات التي اتخذها الصوفيون (يبحث سالكوها عن لذة/ كلي الوجود/ خبايا اسرار صيرورة الوجود/ انهتاك الستر/ مباهج اليقين/
يتجلى ذلك من استخدام الشخصيات كأقنعة برموز فكرية وفلسفية نلمس فيه تارة مسحة العارف واخرى المحب العاشق وتارة اخرى الصامت المنصت وهي تشبه الى حد ما" حقيقة الصوفي هي التقلب من حال الى حال"3 ففي مسروداته نلمس (الاغتراب، والحب، والانصات والحكاية) كما نستشفه في قصته (نهار ابيض بلون الخطيئة) ص68
"قيل مرة، وكان يرسم بطرف قصبة، كانت قبل محو نغماتها ناياً يرسل آهات الارامين أنفسهم بين أحضان الخديعة والوجع، خرائط جرداء يبحث سالكوها عن لذة قطرة من الماء حتى وان كانت ملحا اجاجاً، وطلاسم راكدة المعاني، قيل ان سليمان علمها عبيده من المردة والجن"
وان اهتمامه بتلك القضايا لما يسود العالم من زيف وتعقيد وتصنع، لجأ نحو الموروث القديم بتقنية التضمين الحكائي كما في قصة المنقرض الذي يعتبر مصدراً من مصادر تكوينه الثقافي معتمدا على الصلة الوثيقة بين الادب والواقع وان ما يقدمه من نتاج ادبي الذي يتكون من عناصر اولها ذاته المبدعة وثانيها صورة الحياة التي يطرحها الواقع وموقفه كقاص او روائي من الواقع ورؤيته ما رواه الاجداد
" بحسب مارواه الاجداد انه مستودع للجندرمة العصملية ودفن في باحته القائد " مصطفى اوغلو" الذي صار مزارا مهما يؤمه اصحاب الحاجات" ص134
وفي قصة بعنوان (قال ....!! )
"افادنا" حسان بن ابراهيم " بما اورده من أحاديث، انصت اليها وعاش بعضها، ودونها حين كان كاتباً مقرباً من (الواثق بأمر الله) حتى غدت ارثاً لا يستهان به " ص126
نلمس في المقطع اعلاه اعتمد القاص اسلوب التداخل النصي التاريخي او الديني وحتى على مستوى التداخل اللفظي او توظيف المثل الشعبي كما في قصة (مشواف الهندس) " يقال ان الذي لا تشوفه العين ينساه القلب" ص100 وعن طريق التضمين الحكائي والتي تأتي منسجمة ومتلائمة مع السياق القصصي والتي تؤدي غرضا فكرياً أو فنياً
ينشئ القاص شوقي كريم عالماً واقعيا في مفرداته لكنه يعمد الى اكساب هذا الواقع صفة رمزية ذات دلالات موحية ومستوى تعبيري يشي عن الفكرة ويشير الى المعاني الكامنة خلف النص:
"تفحص الوجوه التي ارتدت مسوح الرهبان وحملت صلبان التقوى والقرب من الرب، كأنه عرف حقيقتهم للتو، بهدوء انتقلت نظراته الزائغة غير المسقرة، الى وجه جاريته (درة الملك) العارفة بالسر، والتي أحبها دون أن يعرف لذلك سبباً معقولا كلما تعتعته الخمرة، يقف فوق اعلى الامكنة وأخطرها منشداً: ابنة الروم سبتني بلحاظ شركسية سرقت مني فؤادي ورمتني في البرية" ص 76
وبذكاء سردي يخلق لنا شوقي كريم جو قصصي مقنع فيها من الطرافة والايحاء الدال على الشيء الكثير.
***
طالب عمران المعموري
.....................
المصادر
1- شوقي كريم حسن، عربة ماركس المنسية، مسرودات قصصية، وزارة الثقافة والسياحة والاثار، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2023 .
2- نفس المصدر ص5
3- عبد الحق منصف، ابعاد التجربة الصوفية، دار افريقيا الشرق، المغرب،2007 .