قراءات نقدية
قراءة في رواية (الباشا وفيصل والزعيم)
عندما اقرأ للكاتب والباحث باسم عبد الحميد حمودي في مجال الفولكلور والتراث الشعبي؛ أجد في جميع كتاباته الخصوبة في التنوع بسبب التنقل في معيشته مع عائلته في مناطق الفرات الأوسط، وهي رحلة صولاته وجولاته في المدن العراقية التي زادته خبرة في مجال التاريخ والتراث، ودراسة المجتمع العراقي وحقول البحث الإنساني، وقد نشر حمودي تلك الخبرة العديد من الدراسات في المجلات العراقية والعربية في هذا المجال.
وقبل عدة سنوات قرأت مؤلفه الأخير (سحر الحقيقة... شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي)، إلاّ أن ما صدر لهُ أخيراً من رواية تحمل عنوانها الموسوم (الباشا وفيصل والزعيم) قد سرق انتباهي بعد وصوله هدية لي عن طريق الأديب شكر حاجم الصالحي، والرواية صادرة عن دار دجلة في عمان وتقع بواقع (104) صفحات من الحجم المتوسط، ذات غلاف جميل تحمل صور الباشا، وفيصل الثاني ملك العراق، والزعيم عبد الكريم قاسم.
كان إهداء الكاتب للرواية إلى روح الأستاذ الدكتور (نجم عبد الله كاظم اعترافاً بفضله)، والرواية تتحدث عن أحداث يوم 14 تموز 1958م، التي اطاحت بالعهد الملكي وكانت بداية لعهد الجمهورية الأولى، والرواية عبارة عن محاكمة تاريخية في ملكوت العالم الآخر وبحراسة (الحرس السماوي) لزعماء العهد الملكي والجمهوري بالتغيير الذي حدث يوم 14 تموز وهما عبد الكرم قاسم وعبد السلام عارف، وذكر مأساة ما حَلَّ بالعائلة المالكة من قتل وسحل وتقطيع وتعليق على واجهات المحال التجارية.
وتأتي الرواية بروح فنتازيا التاريخ الحديث، وأحداث تلك الحقبة الزمنية تحليلاً واستنتاجاً بمهارة الكاتب من حبك الأحداث وتسلسلها وجمع ابطالها وكُتّاب التاريخ وأعلامهم في حنكة السرد من خلال تقنية المخيال الواسع في أهم مواقع بغداد التاريخية (باب وزارة الدفاع، شارع الرشيد، قاعة الشعب)، فقد جمع الكاتب والروائي حمودي قائدا التغيير للعهد الجمهوري الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف مع رجال العهد الملكي (الملك فيصل الثاني، الباشا نوري السعيد، الأمير عبد الإله، نعيمة العسكري)، ومن وثّقَ تلك الحقبة الزمنية وهم: (حنا بطاطو، السيد عبد الرزاق الحسني، الإعلامية نعيمة الوكيل، الأديب مهدي عيسى الصقر، الروائي فؤاد التكرلي، الروائي عبد الملك نوي).
وتبدأ محاكمة التاريخ لقادة العهدين (الملكي والجمهوري) في قاعة العرش عندما يوجه الملك فيصل الثاني كلامه للزعيم عبد الكريم قاسم في ص11: (لماذا فعلت ذلك؟ هل نستحق ميتة كالتي حدثت؟)، فكان جواب قاسم بعد جدال على المحاكمات الوجاهية في العهد الملكي والجمهوري (ألست الملك؟ أم ما زال خالك يحكم بمجرى الأحداث حتى ونحن في الآخرة؟)، وهو جواب شافي لتدخل الأمير عبد الإله في حكم العهد الملكي كونه الوصي على العرش بسبب صغر عمر فيصل الثاني.
ثم يبدأ الكاتب حمودي بسرد الأحداث قبل يوم 14 تموز 1958 بأشهر من خلال الأمير عبد الإله المتحدث قائلاً: (قبل أشهر من يوم الإنقلاب أرسل شاه إيران محمد رضا بهلوي صحفياً سورياً يعمل في طهران اسمه نذير فنصة، كان يعمل لدى الشاه محمد رضا بهلوي)، وكان جواب عبد السلام: (ماذا أتى بهذا الشاه) ويرد عليه عبد الإله (اسكتوه فهو لا يعرف إلاّ الصراخ والقتل). من خلال هذا الحوار يدلل على تحليل الكاتب لشخصية عبد السلام عارف وكل من ورد اسمه في جريدة إطلاعات والمخابرات الإيرانية أيامها وتحذير الصحفي فنصة لعبد الإله من أن إنقلاباً سيحدث ضد العرش في العراق، واعطاه اسماء الضباط وفي مقدمتهم رفعت الحاج سري وعبد الكريم قاسم وآخرين، ومن هذا يستدل القارئ من خلال الرواية أن زعماء العهد الملكي كانوا يعلمون بالإنقلاب والقائمين عليه، إلاّ أن رئيس الأركان محمد رفيق عارف والباشا نوري السعيد رئيس الوزراء قد انكرا ذلك، فضلاً عن تقرير بهجت العطية مدير الأمن العام وقتذاك كان قد أخبرهم بالتحرك للإنقلاب.
ويحضّر الكاتب في المشهد الروائي الكاتب حنا بطاطو، والأخير يوجه سؤاله الأول لعبد السلام محمد عارف قائلاً: (ألمّ تصبح رئيساً للجمهورية بفضل شعار الوحدة العربية الذي رفعته دوماً؟)، وكان جواب عبد السلام (نعم ولكن لم يتم الأمر بمجرد رفع الشعار)، ويرد عليه بطاطو (أعلم ذلك فقد اخترت أن تنقلب على عبد الكريم ثم على البعثيين الذين أتوا بكَ إلى كرسي الرئاسة). ويستمر الحوار حتى يتدخل الأمير عبد الإله قائلاً في ص21: (الواضح أن أحلام السيد عبد الناصر التي كان العقيد يتبناها لم تتحقق في العراق بعد قتلنا وإعدام عبد الكريم لسبب بسيط... الجميع يكذبون... عبد السلام يكذب على عبد الكريم وقتلهُ، وكذب على عبد الناصر ولم يسلمه أرض العراق، وعبد الكريم كذب على الناس عندما أدّعى الديمقراطية وأعدم الضباط المعارضين لحكمه، ومنع من أدعى الديمقراطية من العمل السياسي)، وهكذا يستمر الجدال والحوار بين بطاطو وعبد الإله وعبد السلام وعبد الكريم قاسم ليوضح لنا الكاتب أن زعماء العهد الجمهوري الأول هم قد كذّبوا على بعضهم البعض وعلى الشعب العراقي لمكاسبهم الخاصة.
ثم يستحضر الكاتب في ص23 المؤرخ السيد عبد الرزاق الحسني كشاهد على التاريخ وحواره مع قادة العهد الملكي والعهد الجمهوري قرب قاعة الشعب، ويشير الحسني من خلال اللقاء إلى بوابة وزارة الدفاع وقوسها العالي قائلاً (هنا وضعوا جثة صلاح الدين الصباغ بعد إعدامه ليشاهدها عبد الإله، وهنا علق رجالكم ما تبقى من جسد الوصي)، لكن عبد الكريم قاسم يرد على الحسني في ص26 قائلاً (لم نكن نريد أن يمثل أحد بجثث القتلى لكنها إرادة الجماهير). ويستمر السجاال بين الحسني وقاسم بين مدافع ومتهم عن ما حصلت من أحداث صباح 14 تموز 1958 وما بعده، حتى يستدل الحسني في بداية باب المعظم (تكون قاعة الملك فيصل التي سميتموها قاعة الشعب، بعدها يبدأ سور جامع الأزبك وبوابته، ولم تبقيا للجامع سوى بوابة صغيرة... هنا قبل أن نصل إلى بوابة وزارة الدفاع كانت هناك عدة دكاكين للباعة ومنها دكان للمصور عباس القمري)، والذي يؤكد الحسني أنه المنسب للقوة الجوية ويدعى (عباس جميل) اشهر مطرب وعازف وملحن فيما بعد.
ويتسابق عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف في الحوار للرد على الحسني الذي اسكتهما موضحاً لهما بالوثائق خونة الشعب أمثال طارق عزيز الذي سمح لمؤرخ أمريكي (حنا بطاطو) بنبش سجلات الأمن العام، وذكر مرافق الزعيم جبار حمزة، وتستمر محاكمة التاريخ بحضور (الحرس السماوي)، واحضار الصحفية نعيمة الوكيل والروائي فؤاد التكرلي، والأخير يؤكد أيام الانقلاب في 8 شباط 1963 الحزينة التي قادها قادة حزب البعث وعبد السلام عارف والمعارضين لحكومة الزعيم قاسم في ص42 قائلاً (أيام 8 شباط 1963 الحزينة التي قتلوا فيها آلاف العراقيين بطريقة وحشية غريبة، وما حدث بعد إنقلاب 17 تموز لا يقل وحشية أيضاً). وتلك فقرة في الرواية لإدانة نظام البعث في الجمهورية الثانية والرابعة.
ويستذكر الروائي حمودي عن لسان الحسني تاريخ شارع الرشيد والعلامات الدالة على أهمية هذا الشارع ورمزيته للعاصمة بغداد واعلامها، منها (الخط الجميل للراحل هاشم محمد البغدادي الذي يعلوا جامع الحيدر خانة، ومحل شربت الحاج زبالة، ومقهى حسن عجمي ورواده من الأدباء والمؤرخين والاعلاميين، ومقهى البرلمان ورواده الشعراء: كالشاعر الجواهري، وعبد القادر البراك، وسليم البصون، وشاكر الجاكري ومنير رزوق وحميد رشيد)، وعشرات الأدباء والصحفيين... ويستمر الروائي ينقلنا عبر سياحته اليقظة لأستذكار جريدتا اليقظة والحرية، وأحداث الموصل عام 1959م، والصراع بين القوميين والبعثيين والشيوعيين، وسرد الأحداث التاريخية في عهد الجمهورية الأولى حتى يصل إلى الموقف الدولي من الجمهورية وعلاقة الزعيم عبد الكريم قاسم بالجانب البريطاني ودور الأخير في دعم ومساندة الانقلاب ودعم الزعيم في تحرك قواته لاحتلال الكويت عام 1960م وتراجعه عن موقفه هذا حتى يكون جواب نوري السعيد للسفير البريطاني هنري تريفليان في ص59 قائلاً: (الذي فهمته وأنا في دار الخلود بعد الإنقلاب، أن الأصدقاء البريطانيين قد تنكروا للصداقة معي ومع الهاشميين وبنوا علاقة سرية مع الضباط المتمردين قبل قيامهم بانقلابهم)، فكان جواب عبد السلام عارف والزعيم قاسم في ص60 : (هذا كذب).
فمن خلال السرد الجميل والمتسلسل والسلس للأحداث وما مرَّ به العراق من مآسي وويلات وكوارث أستدل كقارئ أن جميع الثورات والإنقلابات التي حدثت في العراق والوطن العربي تتم بدعم ومساندة الأجنبي لغرض تغيير أعوان النظام بعملاء آخرين لتنفيذ مطالبهم وفق إرادتهم ومصالحهم.
لذلك يدعونا الروائي باسم عبد الحميد حمودي من خلال هذه الرواية وسرد أحداثها الواقعية إلى أن ظاهرة إعادة انتاج مقدمات اسباب الفشل التاريخي الهائل الذي حدث في العراق على مر العصور، منذُ أن ظهر العراق بصورته وكيانه الجديد الفاشل في بداية القرن العشرين، هو بدعم أجنبي، وأكثر الداعمين هم البريطانيين للنظام الملكي ونظام الزعيم قاسم أثر إنقلاب 14 تموز 1958، ونظام عبد السلام عارف ونظام البعث في 17 تموز 1968، وإلى منظومته المتراكمة في انتاج الأحداث وإعادة إنتاج هذا الخلل الجوهري في استمرار الإنقلابات و(الثورات) وما يسمى (التحرير) البريطاني والأمريكي الأخير 2003م، واستمرار عدم الثبات والاستقرار.
فقد كان إنقلاب 14 تموز بداية الإنحراف التاريخي الكبير عن المجرى الطبيعي والشرعي لتطور الدولة ومؤسساتها، وتناقض المصطلحات (التحرير) و(الاحتلال) للعراق، فقد كان (تحريره) و(احتلاله) وجهان لعملة واحدة هي انهيار الدولة العراقية، ولم يكن التحرير سوى استبدال نخبة بأخرى، أي استبدال نخبة تقتل الهوية العراقية بأخرى مقتولة الهوية. أما الاحتلال الأمريكي للعراق فقد كان مجرد استبدال نخبة خارجة عن التاريخ بأخرى لا تاريخ لها ن احزاب وحركات اسلامية وقومية وعلمانية.
وهي فكرة سبق وأن صورها (ابن عربي) قبل قرون عديدة عندما قال بأن (ما يجري هو استعداد لما فينا، فما أثّر فينا غيرّنا)، أي ما حدث بداية القرن الحادي والعشرين هو (استعدادنا لما فينا)، ومن ثم (فما أثّرَ فينا غيّرنا). بعبارة أخرى، إن الأحداث الدامية والمأساة الذي اصابت نوعية ابتعاد العراق عن مرجعياته الذاتية الكبرى، فـ(التحرير) البريطاني لم يكن سوى (تحريره) من السيطرة التركية ووقوعه تحت (الانتداب) البريطاني في بداية القرن العشرين، ثم (تحريره) من السيطرة الصدامية ووقوعه تحت (الاحتلال) الأمريكي. فكل ما جرى ويجري في العراق هو نتاج لما فيه وفينا.
مع هذا وكل ما ذكره المؤرخين والكتّاب والأدباء عن تاريخ العراق وأحداثه أجد أن العراق لا يسقط ولن يسقط، بل تنهار فيه السلطات حالما تخرج عن منطق إرادته المتراكمة في الذاتية الكبرى، وتشكل هذه الذاتية العصب الروحي لوجوده التاريخي وكينوته الثقافية، أي لمضمون هويته العامة والخاصة. فالأمم الكبرى تكبو! وفي كبوتها عادة ما تثير غبار الزمن وتستفز الإرادة من أجل امتطاء جوادها من جديد. وليس هناك من جواد عراقي أصيل غير ما تجود به مكوناته الذاتية. فالخلل التاريخي الهائل الذي مسّ مختلف جوانبه بحيث تحول (الاحتلال) إلى (تحرير)، والذي أدخل في دهاليزه مختلف القوى السياسية المنتفعة وهو خلل تتحمل مسؤوليته جميع القوى السياسية في العراق، كلٌ بمقدار ما فيه من استعداد للخيانة والإنحراف، مما أدى الرجوع القهقري إلى مختلف نماذج وأشكال البنية التقليدية إلى تنظيم البؤس والانحطاط والتخلف في مقدمتها انهيار الدولة ومؤسساتها ومنظومة المجتمع وقواه الحَيّة، والثقافة ورصيدها العقلاني والإنساني، وبهذا المعنى لم يكن خراب وانهيار الدولة العراقية إلا بسبب التدخل الأجنبي ولغاية هذا اليوم، وهذا ما اعتقد ما يرغب الروائي أن يوضحه للقارئ من خلال روايته (الباشا وفيصل والزعيم).
فقد رمت القوى السياسية المجتمع في أتون المغامرات والانقلابات والخيانة وغيرها من الأساليب أموراً مقبولة ومعقولة للشرعية الثورية، حيث حولت العراق إلى كيان رثّ، واسلوباً لتصنيع، شامل للرثّاثة الاجتماعية.
ولا ننسى أن مؤلفات الكاتب والأديب باسم عبد الحميد حمودي، فمن أبرزها:
- عادات وتقاليد الحياة الشعبية العراقية (إعداد وتقديم).
- كتاب التراث الشعبي. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد 1986م.
- الزير سالم. سلسلة الموسوعة الصغيرة. بغداد 1989م.
- تغريبة الخفاجي عامر العراقي. دار الشؤون الثقافية. بغداد 1989 (الطبعة الأولى)
- التراث الشعبي والرواية العربية الحديثة. الموسوعة الصغيرة. بغداد 1998م.
- تغريبة الخفاجي عامر العراقي. هيئة قصور الثقافة. القاهرة عام 2000م. (الطبعة الثانية).
أما الكتب المشتركة:
- أبحاث في التراث الشعبي. كتاب التراث الشعبي رقم 2. بالاشتراك مع د. أحمد مرسي/ د. حصة الرفاعي/ د. محمد رجب النجار وغيرهم عام 1986م. بغداد.
- سحر الحقيقة. شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي. دار ميزوبوتاميا. بغداد. الطبعة الثانية عام 2014م.
***
نبيل عبد الأمير الربيعي