قراءات نقدية
قراءة في رواية: شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة للكاتب خوسيه فاسكونسيلوس
الدليل الثيماتي بين طفل الشيطان وإظهارية خفايا التوظيف
مهاد نظري:
تتداخل في بنيات النص الروائي عدة عناصر هي: (المرسل ـ المرسل إليه ـ الثيمة ـ المعلن الإظهاري ـ دليل النص) ولكل واحدة من هذه المحاور دورها الكبير في نمو وظيفة (السارد ـ الشخصية ـ الحبكة) وبما أن دراستنا في مجال هذا النحو من المعنى تتناول تجربة روائية ذات أهمية كبرى، وتلتزم في منحى بناءاتها بهذا النوع من المحاور التي أشرنا إليها، لذا وجب علينا التوسع في استخدام أكثر المحاور تلفظا وتداولا في رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) للروائي والسيناريست البرازيلي (خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس) وقد أتفق مع النقاد من جهة نسبية وأختلف معهم من ناحية إجمالية، في كون أن هذه الرواية من صنيع المخيلة المنتخبة في مجال توطين أدب فئة الناشئة أو الأطفال.ولا يخفى على القارىء ـ احتمال ـ كوني أجد في تجربة هذه الرواية من البساطة والتعقيد والإحالة والعلامة الأكثر تجاوزا لوعي القارىء اللاروائي حتما.ومن هذا المنطلق أصررت على قراءة هذه الرواية وعشت مع دواخل شخصيتها المحورية (زيزا) وأخوته ووالداه وذلك السائق البرتغالي وجذع البرتقال الذي هو محط المعادل الموضوعي الذي من خلاله يمكننا فهم هذه الشخصية وطبيعة أنسنتها لحالات عوالمها اللامعقولة في أفضية التصديق والاستدلال المنطقي، إلا من جهة تقنية تتعاضد من خلالها عدة محاور (إظهارية ـ معلنة) امتدادا بها نحو مجموعة شرائط تلك المخيلة التي أرتضت بأن تكون أرادة العامل الشخوصي ـ المحور ـ فيها معادلا متجاذبا إلى جل جهات البطولة والمغامرة أو الشيطنة والملائكية أو الطيبة والشرور في الآن نفسه.
ـ حوارية أنسنة الأشياء في كينونة الوعي المضمر:
تستدعي حفريات دلالات رواية (شجرتي..شجرة البرتقال الرائعة) لخوسيه فاسكونسيلوس إلى ذهن التلقي، تلك التشاكلية المنتجة بين قطبي (الفاعل بالموضوع ـ الفاعل عن الموضوع) أي أن للمحور الشخوصي كامل التوطينية في لعبة طرفي العلاقة من ناحية كونه وليدا عن الموضوعة ومندمجا فيها، وتارة عن حضوره الامتثالي في علامة ملازمة للفعل السردي والعاملي.أما كونه فاعلا عن الموضوع فبالإمكان النظر في أبعاد الموضوعة من خلاله كمتتالية فعلية مستشرفة تارة ومنصوصة بأكثر المواضع تناقضا واعتدالا مستورا تارة أي عبر مجمل أفعال السردية.وإذا كان في موضع الفاعل بالموضوع، فهو يشكل دليلا على أن الشخصية مترسخة في مادة محورها الوقائعي.وهناك عدة أمثلة سوف نقوم بدراستها في حينها حتى تبدو للقارىء أكثر كشفا إزاء وحدة سردها أو مسرودها.
1 - الفاعل بالموضوع بين حساسية المخيلة وترجيح المعادلة الفقدانية:
في الخلفية النصية تندرج مهام الفعل النواتي كحالة استباقية بالسرد.إذا أن تمظهرات فعل الشخصية حيال مساحة مؤشرات (دليل الموضوعة) تكشف لنا بأن مجمل الأفعال والأحوال، حلت في حدود كون الفاعل الشخوصي هو بذاته ما راح يظهر تداولية الوقائع والاحساس بها ما جعلها تخوله إلى أن يكون السارد المشارك الذي تتصل كل المهام في صوته، فهو من يقدم ويؤخر، ولكنه كحالة عاملية يبقى يبث خطواته في سياق منشطر بين (حساسية المخيلة ـ وترجيح المعادلة الفقدانية) وهذه المعادلة الأخيرة هي الممثلة في إطارها العاملي المنصوص في علاقة المحور المركزي مع جذع البرتقال أو أحد أشقائه الأثنان (لويس ـ توتوكا) وعلى هذا النحو فالانبعاث مصدره الحسي والأفعالي هو الشخصية الأكثر بروزا (زيزا) وما يقوله وما يفكر به وما يتخيله هو الميثاق على اتساع حوارية المدار الشخوصي كأفعال كلامية تربطها خواص من المكان والزمن وسياق السرد: (على مهل كنا نقطع الطريق يدا بيد..كان ـ توتوكا ـ يعلمني الحياة، وكنت سعيدا جدا لأن أخي الأكبر يعطيني يده ويعلمني الحياة./ص7 الرواية) بهذا النوع من الفاعل بالموضوع، نتعرف على مجال التحول في حركة طبيعة الشخوص، وخاصة زيزا، كونه ـ ساردا مشاركا ـ ولهذا يلزم تبني سلطة المسرود والسرد إجمالا.وقد وظف الكاتب خوسيه ماورودي من شخوصه الروائية ما جعلها الأكثر بؤسا وكدحا في حيواتها الفعلية، لذا ظل زيزا العامل والفاعل يقارب حياة الموغل في حرمانه الطفولي، وهذا الشظف في حياته الخاصة هو الذي صنع منه مؤولا إظهاريا في حوارية مخيالية واهمة مع طائر الخفاش وجذع الشجرة، ما يوضح لنا كفائية معادلة الفقدان، أي بما يفسر لنا أن الشخصية زيزا ذات ملامح تندرج في تفاصيل استثنائية، كونه المتصل مع حالات تصويرية عاشها بمتعة بالغة وقسوة صارمة مع محيطه المتشيء.
2 ـ الفاعل عن الموضوع وأدائية العامل المحكي:
نجد هنا الفاعل عن الموضوع، سببا مباشرا ينبغي الاحتفاظ به بالطابع الذي يخولنا على أن نراه (كفاءة فاعل ـ مرسل ـ جهات موضوعة) ولكنه على الصعيد ذاته كفاعل منفذ، يبدو أكثر دقة بالمعطى الموضوعي، خاصة وأن الشخصية كان هو نفسه من يصنع موضوعته بذاته، وهذا لا يعني أن الجانب الذاتي للمحور قد غطى على وقائع أحوال ومعينات النص كوسائل موضوعية وأدوات في الأداء، لا أبدا فخاصية الاتصال بين (فاعل ـ موضوعة) كانت قائمة على تدرج (فاعل ـ لفاعل سلوك) وهو الأمر الذي جعل من قيمة الموضوعة في موصلات النص، تبدو ككفاءة الفعل المكتسب افتراضيا من حيث نقطة ومجال الخطاب النصي, كمصدرا موصولا للاتصال السردي في الرواية إجمالا.
3 ـ كينونة فاعل السلوك وحيثيات الاتصال السردي:
قبل الخوض في أدوار المحاور الأفعال الشخوصية في أفضية الحكاية الروائية، نود الاشارة حول مفهوم (كينونة فاعل السلوك) الذي أوردناه هنا كقيمة فردية وفردانية تخص وظائف (الفاعل ـ العامل ـ الممثل) والمقصود بهيئة هذه التفعيلات، هو الحضور في الاتصال الفعلي للعامل المحوري حيال مجسداته السردية و الأبعاد الوقائعية في موضوعة الرواية.وهذه الوظائف الثلاثة لا تمثل إنقطاعا عن حوارية الوقائع الخطية، بقدر ما تسهم في تفعيل الخوض في جزيئات وكليات النص دليلا ومدلولا.يواجه المحور الفاعل ـ زيزا ـ وهو الطفل الذي لم يبلغ عقده السادس من العمر، ثمة منغصات عقدية في حيز اندفاعاته الطفولية التي كانت رغم بذاءتها الظاهرة غالبا، إلا إنها طفولة مميزة على حين غرة : (في السابق لم يكن يضربني أحد..لكنهم أكتشفوا الأمر لاحقا، وبدؤوا يقضون وقتهم وهم ينعتوني بالشيطان، وبالطاعون وبقط المزاريب اللعين..لم يكن ذلك يشغل بالي حينما لا أكون في الشارع أنهمك في الغناء./ص7 الرواية) المقصود من وراء هذه الوحدات، إن ـ كينونة الفاعل ـ مهما بلغت من الخطورة حيال تصاعد أفعالها المحكاية لهمزات الشيطنة، فإنها من جهة ما تلاقي حضورها في ممارسة دورها التأثيري في أمكنة أخرى، خارج حدود المنزل حيث وجود ذلك الأب العاطل عن العمل، إلى جانب وجود دور تلك الأم الشاقة التي تعمل بالنيابة عن الأب، مما جعلها تتحمل كافة مشاق ومتاعب العمل كخياطة في الطاحونة الانكليزية، إلى جانب دورها في توفير كافة مستلزمات الحياة في مرابع ذلك المنزل القديم.حاولنا في بدء فرعنا المبحثي الحديث حول الفاعل الشخوصي، كعاملية ممسرحة في بنية السرد، إذ تبدأ الحكاية الروائية منه وتنتهي به، وكأنها حكاية إطارية في الاعمال الروائية.ولكننا عندما نتابع مجرى المسرود أحيانا، نلاحظ ثمة حكاية ذات رؤية تقترب من الواقعية السحرية إلى جانب استثمار تقانة الفنتازيا التي تعد في محددات أفعال المحور، كمعادلة موضوعية في غاية التأطير الدلالي، وإذا أحببنا تسميتها من جهة أخرى كحكاية واقعية، ذلك لكونها تصب في الكشف عن أشد العلاقات الشخصية بواقعها الحياتي المصور بؤسا وحرمانا.أما إذا أردنا وسمها بالفنتازيا، فلا بأس، لأن أغلب متصورات الفاعل الشخوصي تصب لذاتها واقعا بعيدا كل البعد عن مسار صحة وتصديق الواقع الموضوعي الروائي لها.ولهذا ظلت أغلب حوادث الزمن الروائي، تمتاح بتلك الأجواء الواهمة بين جهة حوارية زيزا مع ذلك الغصن من شجرته الخاصة بالبرتقال الحل.فهو عادة ما يصنع لذاته مع ذلك الجذع جملة حوارية تمتد إلى أجواء حكايات فرعية تختص بحكم كونها ناتجة عن مقدرات مدارك الوعي الطفولي وحده، بذلك العالم المحفوف بالاظهارية المعادلة ـ اكتمالا تعويضيا ـ عن نواقص حياة الطفل زيزا، فهو تارة يجعل من جذع شجرة البرتقال جوادا فيمتطيه مسافرا نحو عوالم متأثرة بالخيال السينمائي، وتارة أخرى يجد فيها خلاصاته وملذاته المقموعة في بيت الأب العاطل عن العمل، أو حتى إشباع رمقه من خلال مأكولات يتخيلها متواجدة في واصلات رحلته فوق ذلك الحصان المتمثل بجذع شجرة البرتقال.
ـ التخاطر الزمني والانتقال الضمني بين أحوال الأشياء.
تتجلى مظاهر الزمن في تحقيقات روايةخوسيه ماورو دي، ببناء الوحدات الزمنية من خلال أوجه اندماجية في نسق المحمول السردي التحقيبي، أو ذلك اللازمن الفاصل بين الوحدات بصورة مشخصة.وقد يرتبط الزمن أحيانا داخل تنقلات ملفوظة وليس فعلية.الأمر الذي جعل من وحدات تراسل الزمن داخل حيثيات المواضع في السرد، وكأنها (حالات تخاطرية مع الذات) تلح في إبراز تلك الملامح الأكثر حوارية، بالشكل الذي يخولنا إلى الاعتقاد بأن الزمن جاريا بخطوات المتلفظ في دائرة المحاورة السردية.وليس في حقيقة المواقع الزمنية المؤشرة، اعتمادا على وحدة الزمن: (: ـ يوم تحامقت، فقد أرسلتني ـ غلوريا ـ إلى ـ ديندينيا ـ هو كان يريد قراءة الجريدة، لكنه لم يجد نظارته، كان يبحث عنها في كل مكان ساخطا./ص11 الرواية) لاحظ إن الاستحالة على معرفة الزمن عبر هذه الوحدات، كانت مرهونة بمقدرات التلفظ الحواري والاخباري، لذا بدت مرسومية الملفوظ وكأنها غائرة في ما كانت يينقل الأحداث ـ اخبارا ـ تارة والوصف تارة أخرى.أنا لا أقصد ربما من وراء كلامي هذا، إن السمات البنائية للسرد خالية من الزمن الفيزيائي جدلا؟بل أود التنويه إلى إن الزمن في النص الروائي موضع بحثنا، يشكل بذاته ذلك الحدوث اللامؤشر عليه في حساب الوحدات الزمنية، ما جعل أغلب الأحداث في سيرها بادية كما لو كانت اعتمادا على وحدة السارد في أخباره وتواصيفه ـ تكثيفا ـ في نمو وبناء الوقائع في مسرود الرواية تحديدا.
1 ـ الوقائع المتصلة في فضاء الحيز الارتباطي من الزمن:
ولا تتوقف أهمية مرحلة دون أخرى في رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) إذ كانت مجمل المراحل المتكونة من (بداية ـ وسط ـ خاتمة) ذات القيمة من الأهمية وخاصة من حيث الصياغة وكيفية عملية التبئير الحادثة، وذلك الاحساس القرائي بتزايد التأثير الجمالي والدلالي في مسافة تشويقات أسباب الحبكة المضمرة رغم إن حجم علانيتها المحبوكة في طرائق أكثر دقة وجزالة من المعنى الظاهر في النص.ولو حاولنا تتبع تجليات الوقائع المجملة في النسيج السردي، لواجهتنا مسارات كيفية ومحتدمة من سمات الاحياز الأكثر ترابطية ومفعول المفترض الزمني، كحال هذه المقتبسات من وحدات السرد، التي يظهر من خلالها مستوى من (الوقائع المتصلة؟) عبر مقتضيات الارتباط بالممكنات المعينية: (أنت الذي يريد معرفة كل شيء، ألم تكتشف الدراما التي تحدث في البيت؟أبي من دون عمل، أوليس كذلك؟تشاجر مع السيد ـ سكوتفليد ـ منذ ستة أشهر وطردوه.ألم تلاحظ بأن ـ لالا ـ قد بدأت العمل في المصنع؟ألا تعرف بأن أمي ستنتقل للعمل في المدينة، في تلك المطحنة الانكليزية؟./ص12 الرواية) كان ذلك هو الجزء الحواري الدائر بين الشقيقين زيزا وتوتوكا، إذ كان هذا الأخير بدوره يطلق الملفوظ في صيغة جمل استفهامية، وكأنه يذكر شقيقه الأصغر زيزا بما عليه حال الأسرة في البيت.بيد إن هذه الوحدات الاستفهامية أخذت تشتغل على جعل الوقائع المنصرمة في حدود مشاهدات واقعية زمنية ذات ارتباطات استرجاعية ما، وكأن الغاية منها كانت حصر الماهية السردية في حدود حلقات من الزمن التعاقبي أو الطردي أحيانا عبر سلسلة من الأفعال والمشاهد.لعلنا عاينا أيضا من جهة أخرى كيفية وضع ضمير السارد المشارك لوحدات وعناصر الزمن، ومنذ بداية الرواية، على إن ما يجري فيها من السرد والمسرود أخذ يتبنى أبعادا حسية خاصة من دوافع ونزوعات النفوس المحرومة والمقهورة في درجة قصوى من واقع حياتها..وهذا الأمر بدوره يعد بذاته تجسيدا في مسار إن الزمن ما زال جاريا بالتأزم والتضخم الحرماني السائر في مفاصل هذه الأسرة، وخصوصا ما بدا واضحا عند معاناة الطفل زيزا على وجه من التحديد: (أجل ، أن الأمر يبعث على الحزن، كنت حزينا جدا ومحبطا جدا إلى درجة أنني فضلت أن أموت./ص42 الرواية).
ـ التداعيات السردية بين الفاعل الداخلي والمعطى في زمن الخارج النصي.
تتحدد مع حجم التداعيات في محاور العلاقة السردية بين جهة موقع السارد المشارك وما يرويه الواقع المتداعى في موجهات أكثر أنسنة مع أشياء ومقتنيات الشخصية زيزا.فهذه الشخصية كما أسلفنا سابقا في مبحث فرع أولي أكثر اندغاما وحدود علاقة مؤنسنة بين ذات المحور والأشياء المحيطة من حوله. وتبعا لهذا نقول بأن الطفل زيزا هو ما كان يقيم لنفسه تلك اللغات والتصورات والرؤى الواهمة مع الخفاش مثلا، الذي كان يقطن في أحدى زوايا سقوف منزل العائلة القديم، أو في ما يخص تلك العلاقة الثيماتية التي تتشكلها مقتضيات وهمية مصدرها هوية المعادل الموضوعي أو الترميزي أحيانا: (عندما عرضت المشكلة على العم إدموندو، فكر في الموضوع بجدية ـ إذن هذا ما يشغل بالك؟ ـ أجل، سيدي أخشى بأن لا يأتي لوسيانو معنا إذ ما أنتقلنا إلى المنزل الجديد ـ هل تعتقد إن هذا الخفاش يحبك كثيرا؟ ـ أجل أنه يحبني.. من صميم قلبه؟ـ هذا أكيد؟ ـ إذن تأكد من أنه سيتبعك..من المحتمل أن يتأخر في الظهور، لكنه سيجدك ذات يوم./ص34 الرواية) ولا يعنينا هنا مستوى الملفوظ اطلاقا، بقدر ما يهمنا مستوى الإحالة المرسلة في دواخل أسرار حياة زيزا.فلهذه المتداعيات السردية، ثمة بؤرة ظنية خاصة بمشاهدات الطفل مع نفسه تخيلا.فهو يقربنا بذلك من حادثة تعلقه العاطفي بمعلمته في المدرسة، حيث كان يسرق لها الزهرة البيضاء كل صباح من قصور الأثرياء، لأجل وضع تلك الزهرة في كأس يملأ نصفه الماء ليضع فيه هذه الزهرة كل صباح، إجلالا لتلك المعلمة التي تقوم برعايته بطريقة مختلفة عن أقرانه في حصة الدرس.وعندما واجهته المعلمة برفضها فكرة أن يسرق الأزهار من أجلها، شعر بالحزن والإحباط الوجع مع نفسه لوهلة، وكي لا يصاب بالحزن مرارا، اقترحت عليه المعلمة بأن يبقى كأس زهورها فارغا، ما دام هناك من يود أن يضع فيه كل صباح وردة.فإذا هناك وردة رمزية تبقى كحالة مقابلة لعدم وجودها الحقيقي. هذا المكون المعادل هو بمثابة الشيفرة أو الخاصية الرمزية بحد ذاتها، ذلك لأجل أن يبقى زيزا غير سارقا، ولأجل أن تزع فيه المعلمة تلك القيم اللامرئية في معادلات عالمه الطفولي الخصب.وبهذا النوع من الوعي نعاين ما تركه فيه ذلك الرجل البرتغالي عندما كان سابقاممن كانوا يوبخونه ضربا على مؤخرته ـ أي زيزا ـ ، عندما كان زيزا بأفكاره الشيطانية سابقا، ذلك عندما يبقى متشقلبا بطريقة ساخرة ومشاغبة في الجزء من مؤخرة سيارة ذلك الرجل البرتغالي، وعندما كان يحظى به متلبسا بفعلته، يسارع هذا الرجل البرتغالي في ضربه وتوبيخه.ولكن مع حادث تعرف البرتغالي على زيزا مثقلا من جراء جرح أصاب قدمه، قرر أن يحادثه بلطف ويحمله بسيارته إلى المشفى. إذ راح الطبيب هناك يقوم بمعالجة الجرح ولفه بالضماد وهكذا مع الوقت أصبح طفل الشيطان ـ زيزا ـ يعتبر ذلك الرجل البرتغالي بمقدار أشد من أحبه في هذا العالم. ويرتبط أيضا بذات العلاقة مع بائع الأغاني الذي كان يمنحه القدر الكاف من العناية والرعاية والعاطفة، مما جعل زيزا يعده في مصاف الصدر الحنون له.أقول أردنا من كل هذه الأمثلة الواردة في مفاصل السرد من الرواية، إظهار الطفل زيزا الذي كان يعد في منظور من لا يعرفه حقا بمثابة (طفل الشيطان؟) ولكن من يتعرف عليه عن كثب، يكتشف فيه ذلك الملاك السماوي الذي يسكن قلوب كل من أحبوه وفهموه، وليس في صدور من كانوا يمقتوه.
ـ الانفصال المحوري الشخوصي من المتخيل إلى الواقع.
نكتشف عندما نتقدم في مسار النص الروائي، ذلك بعد سلسلة من الصدمات الموجعة التي تلقاها الطفل زيزا ألما أثر موت الرجل البرتغالي في حادث دهس القطار لسيارته، وصولا إلى محاولة البلدية في المدينة إلى توسيع الشوارع، فقرر مدير البلدية قلع صفوف أشجار البرتقال التي كانت تغطي من امتداد عرض الشوارع، وقد شمل هذا الأمر شجرة برتقال الشخصية زيزا.نكتشف إن هناك وظائف زمنية وظرفية ونفسية جعلت من زيزا يتفهم ما كان عليه حاله من أوهام سحيقة، كان قد أختلقها لنفسه وأدمن عليها ردحا من زمن طفولته: (عند ئذ تحدث إلى قلبي صوت في منتهى العذوبة والحنان..لا شك أنه الصوت الحنون للشجرة./ص175 الرواية) إن حالات الانفصال عن المخيلة بدت في أوج فقدان الشخصية زيزا لذلك الرجل البرتغالي العجوز : ولها من صدمة ؟ فعلا أجاد الروائي خوسيه ماورو دي في صياغتها وسبكها إلى درجة شعور من يقوم بقراءتها بالاختناق والرغبة الطويلة في البكاء الموجع.
ـ تعليق القراءة:
في الحقيقة تثير فينا رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) للمبدع البرازيلي القدير خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس روائيا وكاتبا سيناريويا بارعا بارعا للعديد من الأفلام في البرازيل، ذلك الاحساس العميق للطفولة وسحرها، رغم ما أظهر الروائي نفسه عبر شخصية محوره الروائي زيزا من تفاصيل مؤلمة وقاهرة من حياة عائلة أكتنفها العوز إلى حد الإشباع والتخمة المأساوية. أود القول إن تحليلات وتوظيفات الروائي إلى عالم شخصيته الروائية قد فاقت كل حدود المتوقع والمنتظر من وراء زمن قراءتنا للرواية.فهو عاش مرحلة طفولة زيزا ـ روائيا ـ ثم بالتالي زرع فيها شقاوة الطفولة لدرجة أصبح يقارب أن يكون مثلا لطفل الشيطان ثم أخيرا جعل فيه حب الخير للناس والأشياء، فأحب جذع شجرة البرتقال والرجل البرتغالي والمعلمة وذلك الرجل بائع الأغاني وأما كل هذا هل لنا من الممكن عد هذه المشخصات والمعينات والإمكانيات التي حملها هذا النص الروائي الكبير بأدب الناشئة أو أدب الأطفال كما توهما بعض النقاد في الغرب: لا أبدا ؟ فهذا النص الروائي فيه من الوظائف التأثيرية والتقنية الأدائية ما راح يتعدى أعمالا حائزة على جوائز كبرى بالجزاف.وعلى الرغم من المساحة المحدودة التي حاولنا فيها في دراسة مقالنا هذا للرواية، فلا أكيل لنفسي إلا باللوم واللائمة لأنني لم أكتب عن هذه الرواية والروائي والمترجمة الرائعة الأستاذة أيناس العباسي، إلا ما لا تستحقه منزلة ومقام هذه الدلالات الكبرى الناتجة عن تعالقات ومضمرات وجماليات هذا النص الروائي الفذ.
***
حيدر عبد الرضا