قراءة في كتاب
عبد السلام فاروق: تسطيح التاريخ وهزيمة العقل

في ذكرى مرور خمسين عاماً على هزيمة 1967، كان من المفترض أن يأتي كتاب "في تشريح الهزيمة" ليكسر الطوق المفاهيمي الذي حكم قراءتنا لهذه اللحظة الفارقة في تاريخنا المعاصر. لكن المفارقة المرة أن الكتاب وقع في فخ التسطيح ذاته الذي يدعي مقاومته، فتحول إلى مجرد إعادة إنتاج لأطروحات جاهزة، تختزل أسباب الهزيمة في "ديكتاتورية النظام" و"غياب الديمقراطية"، دون أي محاولة جادة لفهم تعقيدات اللحظة التاريخية وسياقاتها الإقليمية والدولية.
أولاً: الديمقراطية
يسخر الكاتب من المنهج التبسيطي الذي يعتبر الديمقراطية شرطاً حتمياً للنصر العسكري، فيطرح سلسلة من الأسئلة الجارحة: هل انتصر هتلر (1939-1942) لأنه كان أكثر ديمقراطية من الحلفاء؟ هل هزم بسبب تفوق الحلفاء الديمقراطي؟ هل يمكن اعتبار تشرشل وترومان (بدماء اليابانيين على أيديهم) نماذج للديمقراطية المنتصرة؟ ألم تكن إسرائيل -المنتصرة في 1967- نظاماً استيطانياً عنصرياً يحكمه العسكر؟
ويذكرنا الكاتب بأن مصر في 1948 كانت تحكم بنظام ليبرالي رأسمالي، ومع ذلك هزمت وضاعت 78% من فلسطين. فلماذا لا يطبق المعيار ذاته على تلك الهزيمة؟
ثانياً: قراءة انتقائية للوثائق وتجاهل للأدلة
يتهم الكتاب محمد حسنين هيكل بتزوير التاريخ في "الانفجار 1967" لتبرئة عبد الناصر، بينما الواقع يؤكد أن هيكل: أقر بمسئولية عبد الناصر الكاملة عن الهزيمة، نشر محاضر اجتماعاته معترفاً بأخطائه، وانتقد بنية النظام الناصرية المتناقضة، كما كشف عن تحذيرات وصلت لعبد الناصر من هوشي منه وبوتو وحتى الملك حسين.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن : لماذا تجاهل مؤلفو "تشريح الهزيمة" كتاب هيكل اللاحق "عام من الأزمات" (2002) الذي كشف الوثائق الإسرائيلية التي تثبت التخطيط المسبق للحرب؟
ثالثاً: مفارقات النظام "المهزوم" الذي أنتج النصر
هناك مفارقة تاريخية صادمة: نفس النظام الذي هزم في 1967 هو الذي قاد حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973نفس القادة العسكريين الذين هُزموا في 1967 هم من حققوا النصر في 1973 نفس البنية المؤسسية (حزب الاتحاد الاشتراكي، القطاع العام) استمرت حتى 1973
ويذكرنا بأن: جيش النصر بني على أسس التعليم المجاني الناصري وأن حائط الصواريخ (الأكبر عالمياً) بناه قطاع عام ناصري، وأن التنسيق مع سوريا كان استراتيجية ناصرية، كما أن إغلاق باب المندب تحقق بفضل سياسات ناصر في الخليج واليمن
رابعاً: أين يكمن الخلل الحقيقي؟
بدلاً من التركيز على: أخطاء القيادة العسكرية (مثل قرار الانسحاب الكارثي لعبد الحكيم عامر الذي رفع الخسائر من 294 شهيداً إلى 6811 في 48 ساعة) والتخطيط الإسرائيلي المسبق منذ 1957، وكذلك الدور الأمريكي المعروف منذ 1964، لكنه يختزل الكتاب الأسباب في "الديكتاتورية"، وكأن التاريخ مسرحية أخلاقية بسيطة!
الهزيمة تحتاج إلى تشريح حقيقي لا إعادة تدوير
الغريب أن الكتاب يقع في التناقض ذاته الذي ينتقده: يتهم النظام الناصري بالتبعية المزدوجة لأمريكا والاتحاد السوفيتي، ثم ينتقد تلقي المعونات منهما! كما أنه يربط صعود الإسلام السياسي بالناصرية رغم أن الإخوان خرجوا من السجون بصفقة ساداتية- سعودية، بالإضافة إلي أنه يتهم الناصرية بالقمع الثقافي رغم ذروة النفوذ الثقافي المصري في عهدها
ربما تكون الهزيمة الحقيقية هي عجزنا عن إنتاج خطاب نقدي يتعامل مع التاريخ بوصفه عملية معقدة، لا مجرد ساحة لتسوية الحسابات الأيديولوجية. فالهزيمة العسكرية قد تستمر أياماً، لكن هزيمة العقل تستمر عقوداً.
التاريخ بين التعقيد والتوظيف الأيديولوجي
المأزق الحقيقي الذي يعيشه الفكر العربي في تعامله مع تاريخه. فتاريخنا الحديث، منذ هزيمة 1967 وما قبلها، لم يُقرأ في معظمه كعملية معقدة تخضع لتحليل عقلاني، بل تحول إلى ساحة لتصفية الحسابات الأيديولوجية بين تيارات فكرية متعارضة. وهذا ما يفسر لماذا نجد أنفسنا، بعد أكثر من نصف قرن على تلك الهزيمة، ما زلنا نعيد إنتاج نفس الأسئلة، ونكرر نفس الإجابات الجاهزة، دون أن نتمكن من الخروج من هذه الحلقة المفرغة .
أولاً: إشكالية القراءة الأيديولوجية للتاريخ
لعل أبرز مظاهر "هزيمة العقل" في ثقافتنا المعاصرة هي تحويل التاريخ إلى مجرد ذريعة لتأكيد صحة الأيديولوجيات المسبقة، بدلاً من أن يكون مجالاً للبحث الموضوعي عن الحقيقة. فنجد أن: اليسار العربي يختزل هزيمة 1967 في "ديكتاتورية النظام"، متجاهلاً تعقيدات الموقف الجيوسياسي والدور الأمريكي والاستعدادات الإسرائيلية المسبقة.
الإسلاميون يرونها عقاباً إلهياً على "ابتعاد المجتمع عن الدين"، في تجاهل تام للعوامل المادية والسياسية.
الليبراليون يحملونها "غياب الديمقراطية"، دون أن يقدموا تفسيراً لكيفية انتصار أنظمة غير ديمقراطية في حروب عبر التاريخ.
هذه القراءات الأحادية تذكرنا بما أشار إليه د. فؤاد زكريا في نقده للفكر العربي، حين حذر من "تحويل التاريخ إلى أسطورة تخدم الأغراض السياسية الراهنة" .
ثانياً: العقل النقدي بين النخبوية والتبعية الفكرية
يعاني الخطاب النقدي العربي من مفارقة غريبة:
1. النخبوية: حيث ينحصر في دوائر ضيقة من المثقفين، دون أن يتحول إلى ثقافة جماهيرية.
2. التبعية: حيث يغرق في استيراد النظريات الغربية دون تمحيص أو تكييف مع الواقع العربي.
وهذا ما لاحظه د. محمد السيد سعيد في تحليله لأزمة الفكر العربي المعاصر، حين أشار إلى أن "المشاريع الفكرية العربية غالباً ما تكون مشدودة إلى مرجعيات غربية، دون أن تتمكن من إنتاج أدوات منهجية خاصة بها" . فبدلاً من أن يكون النقد وسيلة لفهم التعقيدات التاريخية، تحول إلى مجرد تكرار لمقولات جاهزة، سواء كانت مستوردة من الغرب أو من التراث.
ثالثاً: الهزيمة كصناعة ثقافية
الأخطر من الهزيمة العسكرية ذاتها هو تحولها إلى "صناعة ثقافية" تنتج خطاباً يعيد إنتاج التخلف بدلاً من تجاوزه. وهذا يتجلى في: ثقافة التبرير: حيث يتم اختزال الهزائم إلى مؤامرات خارجية، دون نقد ذاتي جاد. أسطورة العصر الذهبي: حيث يتم تحويل الماضي إلى نموذج مثالي يعيق التفكير في المستقبل. الخطاب الانفعالي: الذي يحل محل التحليل العقلاني، كما يظهر في كثير من الخطابات الإعلامية والسياسية.
هذه الظواهر تذكرنا بما أشار إليه جورج طرابيشي من أن "الفكر العربي غالباً ما يمارس نوعاً من النرجسية الجمعية التي تمنعه من رؤية عيوبه" .
رابعاً: نحو عقل نقدي جديد
لكسر هذه الحلقة المفرغة، نحتاج إلى:
1. التاريخ كعلم لا كأيديولوجيا: بمعنى التعامل مع الأحداث التاريخية كموضوعات للبحث العلمي الموضوعي، لا كأدوات لتأكيد صحة موقف سياسي مسبق.
2. النقد الذاتي الجريء: كما مارسته بعض التجارب التاريخية الناجحة، كاليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية.
3. التعددية المنهجية: باستخدام أدوات متنوعة (تاريخية، سوسيولوجية، اقتصادية) لفهم الظواهر في تعقيدها.
4. ربط النقد بالتغيير: بحيث لا يبقى النقد مجرد تمرين فكري، بل يتحول إلى أداة للتغيير الاجتماعي والسياسي.
وهذا ما دعا إليه د. فؤاد زكريا حين أكد على ضرورة "المنهج العقلاني النقدي المستوعب لحصاد التجربة العالمية" .
الهزيمة كمحطة لا كنهاية
إن تعاملنا مع الهزائم التاريخية كـ"نهايات" بدلاً من اعتبارها "محطات" في مسار طويل هو أحد تجليات أزمة العقل العربي. فالتجارب العالمية تثبت أن الأمم التي استطاعت تحويل هزائمها إلى نقاط انطلاق هي التي تمكنت من بناء مستقبل أفضل.
ربما تكون مهمتنا اليوم هي تحويل "هزيمة العقل" هذه إلى فرصة لإعادة بناء خطاب نقدي قادر على فهم التاريخ في تعقيده، والتعامل مع المستقبل بإرادة التغيير .
فالهزيمة العسكرية قد تكون قد انتهت، لكن معركة العقل ما زالت مستمرة. وهي معركة لا تقل أهمية عن سابقاتها، لأنها المعركة التي ستحدد ما إذا كنا سنظل أسرى الماضي، أم سنكون قادرين على صنع مستقبل مختلف.
***
د. عبد السلام فاروق