قراءة في كتاب

عدنان حسين أحمد: موجات مُرتدّة (2): ذكريات فلسطينية

الإدمان على مجاورة الخطر

لم يَدُر في خَلَد القائمين على محاضرة "السيرة والرواية" تغطية كتاب السيرة الذاتية للقاص والروائي والكاتب الصحفي زهير الجزائري لأكثر من سبب؛ الأول هو مدة المحاضرة1 التي لا يمكن أن تتجاوز الساعتين في أفضل الأحوال، والثاني أنّ السيرة برمتها تتألف من ثلاثة أجزاء بواقع 700 صفحة، والثالث أنها تتضمن سيرة ذاتية تنفتح على أزمنة وأمكنة وشخصيات وأحداث كثيرة، والرابع أنها تجمع بين السيرة الذاتية والمذكّرات واليوميات. كل هذه الأسباب وأخرى غيرها هي التي دعتنا إلى الاختصار واختيار المحطات الرئيسة في كل جزء من الأجزاء الثلاثة التي انضوت تحت عنوان "موجات مُرتدة: النجف والطفولة، بغداد والستينات" و "ذكريات فلسطينية" و "العودة للعراق".

قبل الخوض في تفاصيل "ذكريات فلسطينية" لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الضمائر السردية التي يستعملها الكاتب زهير الجزائري تتوزع بين ضمير المتكلم، وضمير المُخاطَب، وضمير الجمع "نحن"، وهذا الأخير يمكن أن نلمسهُ بوضوح في رواية "آخر المُدن". وكما هو معلوم فإنّ ضمير المتكلم هو الأكثر حميمية والأقرب إلى ذائقة القارئ الذي يمكن أن يجد نفسه فيه أو يتماهى فيه بسهولة.

تُهيمن أجواء الحرب على بيروت وغالبية المدن والقرى اللبنانية وخاصة الجنوبية منها على وجه التحديد.  وأكثر من ذلك فالحرب "حُبلى بالأحداث" ولا حاجة أن تذهب إليها لأنها تأتي إليكَ ما إن تُطل برأسك من النافذة لترى كل شيء مجسدًا أمامك مثل شريط سينمائي لا يراعي الفئات العمرية ولا يستثني الأرواح الخائفة التي لم تعتد على الفظاعات والأعمال الوحشية التي تقشعر لها الأبدان.1465 zouhar

من الطبيعي أن تتجلى الذات الفردية حينما يأخذ الحديث طابعًا جمعيًا عامًا. فحينما كان زهير الجزائري يعمل في مجلة "إلى الأمام" الفلسطينية غازل رئيس التحرير موهبته الأدبية حينما أخبرهُ قائلًا: "أنتَ تكتب بقلمين الصحفي والقاص"(ص، 17) وهذا هو طموح الجزائري مذ تفتقت موهبته الإبداعية مبكرًا، فكلمة الأديب والقاص والروائي هي أهمّ بكثير من كلمة الصحفي التي يشترك فيها كثيرون لكن مفردة القاص أو الشاعر أو الناثر فيها الكثير من الخصوصية التي تُرضي "غروره" الإبداعي رغم أنه ليس مغرورًا ولا متنفجًا ولم يعرف التكبّر طوال حياته التي تجاوزت الثمانية عقود بثلاث سنوات تقريبًا.

الحرب الأهلية اللبنانية

تقترن الذكريات الفلسيطينة بالحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت منذ 13 / أبريل / نيسان / 1975 ووضعت أوزارها في 13 أكتوبر / تشرين أول 1990م بعد التوافق الأمريكي السعودي السوري. فثيمة الجزء الثاني من السيرة الذاتية هي الحرب الأهلية اللبنانية التي حرقت الأخضر واليابس، ودمّرت العقول المتقدة والأرواح المُرهفة، وقوّضت جل ما شيّده الإنسان اللبناني على مدى عقود طويلة.

ثمة أحداث ووقائع كثيرة في هذا الجزء أبرزها انتحار الفنان والكاتب الصحفي والمصور ابراهيم زاير، ومفارقات سعدي يوسف وصادق الصائغ  وجهلهما في استعمال السلاح الشخصي، وتغطيات الراوي أو السارد العليم لحرب البوليساريو التي تسعى لتحرير الصحراء الغربية من الاستعمار المغربي كما تدعي. ورأيه الشخصي بتفجير السفارة العراقية ببيروت، وعلاقته بالباحث فالح عبد الجبار، ولقائه بالشاعر محمد مهدي الجواهري، وموقفه من الحرب الأنكلو- أمريكية على العراق، واغتيال رفيق الحريري، وتفجير مرفأ بيروت وغيرها من الأحداث التي أربكت الشرق الأوسط برمته.

انتحار الفنان ابراهيم زاير

رغم معرفتي الطويلة بالصديق الفنان والصحفي الراحل اسماعيل زاير إلّا أنه لم يوضح لي الأسباب الحقيقة التي دفعت شقيقه الراحل ابراهيم زاير للانتحار، فقد حصر السبب بالجانب الوجودي، والانكسارات التي يمرّ بها عالمنا العربي وهي التي دفعت بعض أدبائنا وفنانينا للانتحار وهم "الشاعر اللبناني خليل حاوي، الأديب الأردني تيسير السبول، الشاعر والرسام العراقي ابراهيم زاير، الشاعر العراقي قاسم جبارة، القاص والروائي مهدي الراضي، اسماعيل أدهم صاحب كتاب "لماذا أنا ملحد؟"، الشاعر صالح الشرنوبي، الشاعر منير رمزي"(2) وعالميًا انتحر الروائي الأمريكي أرنست همنغوي، والشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي، والروائية الإنكليزية فرجينيا وولف وما سواهم من أسماء أدبية معروفة. يشير الجزائري في الجزء الثاني من سيرته الذاتية بأنّ ابراهيم زاير كان شاعرًا وصحفيا ورسامًا ومقاتلًا يدافع عن القضية الفلسطينية، وعاشقًا كبيرًا، وأكثر من ذلك فقد موزعًا بين علاقته مع زوجته الكريمة وبين حُبّه الجارف لرسّامة لبنانية "سيتا مانوكيان" من أصل أرمني. ومن دون أن يوضح السبب الحقيقي صوب مسدسه إلى رأسه وأطلق على نفسه رصاصة الرحمة وجاء من يهزّ الراوي بقوة وهو غارق في نومه:"اصحى، أبو خولة (الاسم الحركي لابراهيم زاير) قوّس حالو"! وورقة بحجم اليد يقول فيها "قررتُ إنهاء حياتي هذا اليوم 23 / 3 / 1971م، آسف لإزعاجكم ووقّع رسالته كما يوقع لوحة"(ص، 26).

لا يختلف العراق عن باقي البلدان العربية في قسوته بتصفية المعارضين له والمناهضين لفكره الشوفيني وربما يكون العراق في مقدمة البلدان العربية التي تصادر حق المواطن في اختيار الفكر الذي ينتمي إليه أو الحزب الذي يجد فيه ضالته المنشودة. فالروائي محمد شاكر السبع، تمثيلًا لا حصرًا، يقول:"ليس باستطاعة أحد، حتى أهلنا، أن يبكوا علينا بصوت مُرتفع إذا تمّت تصفيتنا"(ص، 79). بل أنّ النظام البعثي الفاشستي صار يتمادى إلى الدرجة التي كان يأخذ فيها ثمن الرصاصات التي يعدم بها المعارضين والمناوئين لسياستهم الإجرامية.1466 zouhar

هيمنة المشهد الستيني

لم يكن الشاعران سعدي يوسف وصادق الصائغ هما الوحيدان اللذان لا يُجيدان استعمال المسدس الشخصي الذي مُنح لهما لحماية أنفسهما وإنما كان الصائغ ينساه على المغسلة كلما دخل إلى مطعم لكي يسدّ رمقه! ومن المفارقات الأخرى أنّ الشاعر سعدي يوسف كان يملي توجيهاته الأمنية أو الأوامر التي يتلقاها من فوق إلى الراوي زهير الجزائري وما إن ينتهي منها بعد دقائق معدودات حتى ينسى كل شيء ويأخذ صاحبه إلى شارع الحمرا الذي يُعدّ أبرز المتنفسات الحضارية والإنسانية ببيروت، مدينة الحب والحرية والأمل. إذا كان الجزء الأول من هذه السيرة الذاتية يضم العشرات من الأسماء الأدبية والفنية فإن الجزء الثاني يضم مثل هذا العدد وبينهم أسماء عربية وأجنبية من بينهم فالح عبد الجبار، عبد الإله النعيمي، رضا الظاهر، مخلص خليل، عبد الرزاق الصافي، وليد جمعة، سليم بركات، جان شمعون، زياد رحباني وأسماء كثيرة أخرى لا يسع المجال لذكرهم جميعًا وإن كان الستينيون أدباء وشعراءً ومفكرين وفنانين يهيمنون على المشهد الثقافي برمته.

لم يكن العراقيون مدمنين على السفر ولم يعتادوا الهجرة سابقًا إلى أوروبا أو الأمريكيتين مثل أقرانهم في الشام، وهذا بسبب ما فعله "الجستابو" بالعراقيين الذين آمنوا بأفكار يقول عنها البعثيون بأنها مستوردة أو قادمة من وراء الحدود! يُشيد الجزائري بقدرة فخري كريم العجيبة على "سرقة الفكرة من رؤوس المترددين وتحويلها إلى فعل"(ص، 101). ففي 19 / 11 / 1979 يقْدم مجموعة كبيرة من الأدباء والفنانين والصحفين على تأسيس "رابطة الكُتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين" الذين رفضوا الوصاية الحزبية وسعوا إلى تحقيق تطلعاتهم الأدبية والفنية والفكرية التي تستجيب لعامل الإبداع أكثر من استجابتها للاشتراطات السياسية الممنهجة.

فَرْنسة الجزائريين

أضافت تجربة زهير الجزائري في إطلاعه على الحركات السياسية المعارضة مثل البوليساريو بُعدًا جديدًا إلى معارفه السياسية، فالفرنسيون الذين احتلوا الجزائر وحكموها على مدى 300 سنة "فَرنسوا" فيها كل شيء حتى "أنّ أحدهم لم يفهم معنى كلمة "الحرية" التي أعطوا من أجلها مليون ونصف المليون شهيد"! ولم يُدرك معنى هذه الكلمة إلّا بعد أن أخبرهُ الراوي بأنها تعني "ليبرتي".

لو لم يكن زهير الجزائري مُدمنًا على مجاورة الخطر ومُولعًا بتسجيل اللحظة الحاضرة ساعة بساعة لما وجدت هذه السيرة الذاتية التي تغصُّ بالتفاصيل فعندما أراد الذهاب إلى موقع متقدم من مضارب البوليساريو طلب منه المرافق له أن يوقع على تعهّد شخصي يتحمل فيه المسؤولية الكاملة إذا ما حدث له طارئ ما يقول فيه:"إني الموقع أدناه ناظم شاكر حسن "وهذا هو اسمه الحركي" سأدخل الصحراء المُحررة بمحض إرادتي، والبوليساريو وكذلك السلطات الجزائرية غير مسؤولة عمّا سيحدث لي ولذلك وقعّت"(ص، 105). تتكرر هذه التجربة في زيارته لمدينة "البويرات" الواقعة جنوبيّ المغرب ويرى بأم عينيه "أكثر من خمسمائة قُتلوا في وادي الموت"(ص، 111) ليتساءل من الأعماق قائلًا:"هل هناك فكرة مقدسة تبرر كل هذا الموت الذي رأيناه؟"(ص، ن).

يندر أن تجد عراقيًا لا يحمل في داخله أكثر من قصة شخصية أو عامة، وخاصة أولئك الذين لم ينسجموا مع فكر البعث، فعمّة الراوي زارتهُ في دمشق وطلبت منه أن يماشي البعث أو البعثيين وببساطتها المعهودة أخبرتهُ أن يظل مُحتفظًا بقناعاته الفكرية والسياسية في عبارة جميلة صاغتها بالشكل الآتي:"والبگلبك خلّيه بگلبك". لقد هجّر البعثيون زوج هذه السيدة الكريمة المتواضعة إلى إيران وهو العراقي أبًا عن جد.

يميل الجزائري ليس إلى الفن التشكيلي فقط وإنما إلى السينما أيضًا وقد شاهد مبكرًا الكثير من الأفلام العربية والعالمية وكان يمكن أن يكونًا ناقدًا سينمائيًا ينضاف إلى الأعداد القليلة من نقاد السينما العراقيين فلاغرابة أن تتطور علاقته بنقاد السينما العرب مثل الناقد الأردني عدنان مدانات الذي كان يرتاح لصحبته ويجد فيه ضالته النقدية السينمائية المنشودة التي لم تتحقق لأنه تعمّق في الصحافة والأدب لاحقًا.

الخشوع والرهبة

لا يجد زهير الجزائري حرجًا في القول بأنه شيوعي لكنه يشعر بالخشوع والرهبة التي انتقلت إليه من خالاته وعمّاته اللواتي كنّ يخشينَ عليه من التطرف الفكري والإلحاد. يعتقد الجزائري بأنّ المتدينين أكثر شجاعة منهم "لأنّ لهم الجنة بعد الموت، أمّا نحن فلدينا المادية الديالكتيكية التي تقول لنا لا حياة للإنسان بعد الموت، هناك الفراغ المادي والخلود المعنوي"(ص،120).

لم يشعر المُهاجر العراقي أو المُقتلَع من جذوره بأنه في أمان وإنما يظل الخوف يُطارده في كل مكان فلا غرابة أن يشعر الراوي بأنه مُلاحق على الدوام وهناك من يتربص به الدوائر. ففي يوم 26 / 2/ 1980 يقول بيقين ثابت "البارحة أُبلِغت بأنّ اسمي ورد في قائمة المرشّحين للاغتيالات"(ص، 121) ثم يضيف: "قد يستخدمون كاتم الصوت، أو التفجير باللاسلكي أو الاختطاف"(ص، ن) وهو يفضل طريقة كاتم الصوت الذي يأتيك من الخلف، ولا تعرف وجه قاتلك ولا ترى الرصاصة التي تصيبك في الرأس أو القلب أو أي موضع آخر. يعتقد زهير أنه نجا من حادث اغتيال أو اختطاف فاشل. لقد نجح نظام البعث في بثّ الخوف والرعب لدى المعارضين له حتى وإن كانوا في منافٍ بعيدة عن العراق.

يختلط الخاص بالعام في هذه السيرة الذاتية فهو يتحدث عن الحروب وأشكال المقاومة المختلفة في مختلف أرجاء العالم لكنه سرعان ما يعود إلى الذات الشخصية وما يجاورها من هموم الأشقاء والشقيقات والخالات والعمّات وما إلى ذلك. فقد اشترك شقيقاه في الحرب العراقية - الإيرانية التي لم ينجُ من المشاركة فيها إلّا أصحاب "الواسطات" والحظوظ الكبيرة، والأثرياء الذين يدفعون الرشاوى الدسمة التي لا يقدر على دفعها الإنسان البسيط. ولسوء الحظ فقد قُتل شقيقه "ثائر" وسوف يترك أثره على جميع أفراد العائلة الأمر الذي يدفع زهير إلى التساؤل: "هل الحرب حادث طارئ في تاريخنا، أم هي شكل من أشكال العنف منغرسة في الطبيعة البشرية وفي بنية الكائن؟"(ص، 146).

التلصص في الشقق الصغيرة

ثمة أوصاف أدبية وتشكيلية دقيقة نجدها مبثوثة في متن هذه السيرة الذاتية حيث يقول الراوي:"ورأيت، أو دريت وأنا في مكاني، أنّ طائرة الظهيرة جاءت لتخطّ كإبرة على قماشة السماء الزرقاء خيطًا من القطن الأبيض"(ص، 153). هذه ليست عبارة صحفي وإنما أسلوب كاتب أدبي رصين يبعث على التأمل والخيال.

غالبًا ما يعقد الكاتب زهير الجزائري مقارنات بين بلده العراق وبلدان آخرى مثل لبنان أو سوريا أو جمهورية التشيك وما سواها من أقطار عربية وعالمية. ففي "بئر الحسن" يقول الجزائري: "يشبه أطفالهم هنا أطفالنا في مدينة الثورة يدخنون صغارًا ويحوّلون أي شيء إلى لعبة حتى غطاء المرحاض"(161). وفي الجزء الثالث نراه يرصد بدقة ما يحدث في غالبية بيوت البتاويين التي سكنها الأخوة المسيحيون وبعض الكورد، ونظرًا لكثافة الساكنين في كل بيت لم تبق أي خصوصية للزوج والزوجة في ممارسة علاقاتهم الجسدية والروحية الحميمة في آنٍ معًا. وهذه التفاتة باحث في علم الاجتماع الأمر الذي يكشف بأنّ الجزائري لم يكن كاتبًا صحفيًا أو روائيًا فقط وإنما باحث في حقل الاجتماع وهذا ما لمسه القائمون على المشغل السردي الذي وضع هذه السيرة الذاتية نصب عينيه. ولتأكيد صحة ما نذهب إليه نقتبس الجمل الآتية التي يقول فيها السارد:" المراهقات منهن ينمنَ في الغرفة نفسها مع آبائهنَّ ويشاهدَ المضاجعة بوضوح وهنّ يتصنعنَ النوم"(ص، 161) مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ هذه الحالة تحدث لدى غالبية العوائل الذين يسكنون في منازل أو شقق صغيرة ليس في العراق حسب وإنما في مختلف دول العالم.

لم يسلم الأستاذ فخري كريم من لوم والدة الكاتب زهير الجزائري ونقدها اللاذع. فحينما قُتل ابنها "ثائر" في الحرب العراقية - الإيرانية ألقت اللوم على "أبو نبيل" فخري كريم لأنه لم يرسلهُ في زمالة إلى الاتحاد السوفييتي أو أحد بلدان أوروبا الشرقية "كما فعل لكل أخوته وأقاربه"(ص،173).

لم يكن الانتقاد "الصارخ" أو "الواضح" مسموحًا به في صفوف الكوادر الصحفية التي تعمل في الصحف والمجلات والمؤسسات الشيوعية في العراق في أثناء ما يسمى بالجبهة الوطنية وكان الكاتب الساخر شمران الياسري "أبو گاطع" يعاني من الرقابة المفروضة على كتاباته اللاذعة للعقلية البعثية.

الغربة الفكرية

عاش الروائي زهير الجزائري والعديد من أصدقائه الشيوعيين من غربة داخل الحزب الشيوعي وقد وصفها وصفًا دقيقًا وصريحًا لا مجال فيه للتزلف أو المجاملة حيث قال: "تتزايد الجدران والحواجز التنظيمية؛ حواجز اللغة، وتباعد المشاعر، وسوء الفهم، وسوء القصد، والإهمال بيني وبينهم تمامًا كالمسافة بين بطل كافكا (جوزيف ك) وقضاته"(ص، 176).

تختلط المشاعر في أثناء تفجير السفارة العراقية ببيروت في 15 / 12 / 1981 الذي نفذه "ابو مريم" حينما دخل بسيارة ملغمة بـ 100 كغم من المواد المتفجرة في مرآب السيارت وقوّض البناية برمتها وأفضت العملية إلى عدد كبير من القتلى والحرجى بينهم السفير عبد الرزاق لفته والسيدة بلقيس الراوي، زوجة الشاعر نزار قباني. وقد وصف الشاعر رسمي أبو علي العمل بـ "الهمجي" وحسبهُ عارًا على المناضلين بينما بررهُ المعارضون العراقيون وأعتبروا السفار وكرًا للمخابرات العراقية التي تطاردهم بكواتم الصوت. أمّا السارد العليم فقد برّر فرحه بأنهم لم ينفذّوا هذا العمل وأنّ من قامَ به هو عضو في حزب الدعوة الإسلامي.

مُصادرة مسبحة الأسد

يركز الكاتب زهير الجزائري على بعض الأصدقاء المقربين إليه من بينهم ابراهيم زاير، وفخري كريم، وعصام الخفاجي، وفالح عبد الجبار وآخرين كثيرين لكن فالحًا قد كتب رواية تتمحور على عائلة زوجته السابقة "أميرة" التي لم تعجبها طريقة تناول عائلتها الكريمة وكانت تتذمر كلما قرأ مقاطع منها لبعض الأصدقاء. وذات مرض غضب فالح وأحرق الرواية وأنهى طموحة الروائي إلى الأبد.

كانت لفخري كريم علاقات وطيدة بالرئيس السوري حافظ الأسد وبعض المسؤولين السوريين وذات مرة "صادر" المسبحة التي كان يستعملها الأسد ولم يرجعها إليه.

من المواقف الطريقة التي يذكرها الروائي زهير الجزائري عن الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري أنّ الرئيس السابق حافظ الأسد كان يزوره في بيته الدمشقي وحينما تبلغ الساعة الثانية بعد الظهر يخاطبة الجواهري قائلًا: "تسمح لي أبو باسل وقت نومتي"(ص، 187) فيحمل الرئيس بعضه وهو يغادر الجواهري على أمل لقائه في زيارة قادمة لا يعرفها إلّا الرئيس نفسه.

تتكرر أسماء كثيرة لأدباء عراقيين من بينهم جواد الأسدي، غانم بابان، عواد ناصر، قاسم حول، هادي العلوي وآخرين معروفين في المشهدين الثقافي والفني في العراق.

وفي معرض مقارنة الرئيس حافظ الأسد بالدكتاتور صدام حسين كان يرى أنّ الأسد تصرف كرئيس رصين وكيّس وفي الحيز الذي يرسمه البروتوكول الرئاسي فهو لم يركب عربة ذهبية كما فعل صدام، ولم يطلق الرصاص من شرفة، ولم يفتش ثلاجات المواطنين. ولكن بالمقابل كان الأسد ظالمًا ومتجبرًا وقد صفّى معارضيه حيث مات صلاح جديد في السجن، وأخلى سبيل نورالدين الأتاسي قبل وفاته بأيام، وظل هو "الأسد" قائدًا للثورة التصحيحية لكن المواطنين لم يعرفوا ماذا انطوت عليه هذه الثورة التصحيحية؟

نرجسية الجواهري

ربما يكون لقاء زهير الجزائري بالشاعر محمد مهدي الجواهري هو الحدث الثقافي الأهم في هذا الجزء لأنه يسلط الضوء على نرجسية الجواهري العالية بينما لا يمتلك الجزائري إلّا قاموس شحيح في المدح والثناء. فلقد سبق للجواهري أن سجّل مذكراته في براغ على شريط فيديو لكن سرقة شقته بكاملها بما فيها الكاميرا وأشرطة الفيديو قد حرم قراءه ومتابعيه من هذه الذكريات المهمة بكل تأكيد. يشير الجزائري بأن نرجسية الجواهري كانت عالية جدًا ولا بد لمن يلتقيه أن ينظر في عينيه مباشرة وإلّا فلن يستمر بالحديث. ويؤكد الراوي بأنّ الجواهري الذي عرف الشهرة في عشيرنياته كان يمتلك ذاكرة قوية حتى أنه كان يحفظ قصيدة كتبها وهو في العشرين من عمره. تُرى، هل كانت ذاكرته القوية هي معجزته الخاصة؟ أم هي النتاج الحتمي لثقافة الاستظهار السائدة في مدينة تقوم على حفظ النصوص كما يذهب الجزائري؟

يواصل الجزائري باستذكار أسماء الأدباء العرب وعلى رأسهم بندر عبدالحميد، خيري الذهبي، عبدالرزاق عيد، صلحي الوادي، هشام شرابي، زكريا محمد وآخرين تناهل معهم كثيرًا طوال حياته الثقافية. يتوقف الجزائري عند اغتيال رفيق الحرير في 4 فبراير 2005، وعند انفجار مرفأ بيروت في 4 / 8 /2020 الذي راح ضحيته الكثير من اللبنانيين بين قتيل جريح وكأنّ لبنان، هذا البلد الجميل، منذور للفواجع.

ربما لا تفي هذه المقالة بكل ما جاء في الجزء الثاني من السيرة الذاتية لكنني بذلت قصارى جهدي لأحيطكم علمًا بأهم المواقف والمحطات الأساسية من هذا الكتاب والمحاضرة في آنٍ معًا.

***

عدنان حسين أحمد

...............................

1- محاضرة "السيرة والرواية" للكاتب زهير الجزائري وتقديم الناقد عدنان حسين أحمد نظّمها مركز لندن للإبداع العربي الذي تديره الشاعرة العراقية دلال جويّد بالتعاون مع نادي حبر أبيض الذي يرأسه الشاعر جمال نصاري. انعقدت الأمسية بتاريخ 3 مايو 2025 في وليم هوبين سنتر بلندن.

2- عبد المجيد، عاطف محمد،"لا ينتحر إلا المتفائلون!، لندن،" القدس العربي، 14 يوليو 2020 .

في المثقف اليوم