قراءة في كتاب
نبيل الربيعي: قراءة في كتاب: الحياة الاجتماعية في لواء الديوانية.. دراسة تاريخية
التوثيق والكتابة ميزة وشجاعة، ولكل كاتب نمط معين يمتاز به، وقد يشعر الكاتب أو الباحث بما يكتب وما يتركه في بطون الكتب من مفردات ونوادر الكلمات ببلاغتها ودلالاتها، وحقائق تاريخية يوثقها الباحثون والمؤرخون للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والأستاذ الدكتور محمد صالح الزيادي الأستاذ في كلية التربية/ جامعة القادسية متابع لما يحدث في مدينة الديوانية من الأحداث والحياة الاجتماعية للمدينة خلال حقبة العهد الملكي، فجاء مؤلفه الموسوم (الحياة الاجتماعية في لواء الديوانية 1921-1958م.. دراسة تاريخية) الصادر عن دار نيبور عام 2019 وهو الطبعة الثانية للكتاب ذات (383) صفحة من الحجم الوزيري، اضاف لتأريخ المدينة ذات قيمة عالية وفائدة جَمّة أغنت المكتبة العراقية والعربية من سرد الأحداث الاجتماعية في مجال التعليم والصحة والعادات والتقاليد الموروثة، فقد امتلك صفات المدون التأريخي بصدق دون تورية أو مجاملة، فكان مؤلفه مصدراً مهماً ومعتبراً يعتمد عليه فيما بعد الباحثون لما فيه من تنوع المواضيع، وتوثيق أمين لقضايا تقادمت عليها الأيام، ويخشى المؤرخ أن تنسى لذلك تم توثيقها في مؤلفه هذا، والمؤرخ الزيادي يمتلك طاقة من الإبداع في التوثيق والتمحيص ومتابعة المصادر والأفراد الذين عايشوا الحدث إن كانوا على قيد الحياة.
وصلتني هدية الأستاذ الدكتور محمد صالح الزيادي، وهو كتاب ذات أهمية تاريخية قد اهداه الزيادي إلى (سارية وشهداء العراق وزوجته وابنائه) فضلاً عن تقديمه الشكر والامتنان لكل من الأساتذة (أ.د محمد هليل الجابري، أ.د عماد الجواهري، أ.د حسن علي السماك، أ.د عبد الكريم الشيباني)، وإلى من كان داعماً للكتاب.
كُسِرَ الكتاب على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة وعدة ملاحق، وكل فصل تضمن بين أربعة إلى ثلاثة مباحث. أما أهمية المصادر والمراجع فقد اعتمد المؤلف على (وثائق دار الكتب وملفات البلاط الملكي الغير منشورة)، فضلاً عن (ملفات مجلس الأعيان، وملفات وزارة الداخلية التي تجاوزت احدى عشر ملف، إضافة إلى ملفات وزارة العدل ووزارة الأعمار ووزارة المعارف ذات الأهمية للدراسة)، وهناك وثائق عثمانية وحكومية مهمة جداً تجاوزت (26) وثيقة تاريخية كان لها الدور في تعزيز الكتاب، كما اعتمد المؤلف على تقارير وزارة الشؤون الاقتصادية التي تجاوزت (24) تقريراً، فضلاً عن تقارير وزارة التخطيط والشؤون الاجتماعية والصحة والمالية والحكم المحلي، وتقارير حكومية مختلفة، هذا بالإضافة إلى المطبوعات الحكومية ووثائق محاضر مجلس النواب والوثائق الاجنبية، والرسائل والاطاريح الجامعية التي تجاوزت (29) رسالة واطروحة، كما اعتمد المؤلف على المصادر العربية والمعربة التي تجاوزت (93) مصدراً مهماً، فضلاً عن المصادر الاجنبية والمخطوطات والبحوث والصحف والمجلات والمقابلات الشخصية.
الكتاب يعتبر دراسة مهمة فريدة من نوعها في مجال الحياة الاجتماعية للواء الحلة في العهد الملكي، وقد كشفت الدراسة عن بدايات الجانب التعليمي والواقع الصحي للمدينة والعادات والتقاليد والموروث الاجتماعي. في الجانب التعليمي سلط المؤلف الضوء على بدايات التعليم الأولي والثانوي ودور المعلمين والمعلمات والتعليم الثانوي آنذاك في المدينة، هذا فضلاً عن الرعاية الصحية والأمور الحياتية والاجتماعية والاقتصادية، وقد كشفت الدراسة جانب مهم من الاحصائيات المخيفة للواقع الصحي في المدينة وتدهورها قبل عام 1952م، علماً أن وزارة الصحة عام 1952م قد استحدثت وسائل حديثة في متابعة الأمراض المتوطنة والأمراض المنتشرة بسبب سوء الحالة الاقتصادية وقلّة الوعي الصحي بين بعض عوائل المجتمع الديواني.
كما سلط المؤرخ الضوء على دور الطابع العشائري العميق في تركيبة البنى الاجتماعية والمتغيرات واثرها على المجتمع الديواني. الكتاب عبارة عن دراسة حيوية مهمة للمؤسسات التعليمية والصحية في المدينة، حيث وضح الباحث الأسباب الحقيقية لتردي الواقع التعليمي والصحي في المدينة ملفت النظر لأسباب عديدة منها: الاهمال وسوء التغذية وندرة الأدوية والمستلزمات الصحية واهمال متابعة واقع حال المستشفيات والمستوصفات في المدينة فضلاً عن قلّة التخصيصات المالية المخصصة لها، هذا إضافة إلى ضعف التوعية والإرشاد الصحي مما سبب إلى دفع العائلة في المدينة والريف بالألتجاء للطب الشعبي لمعالجة الأمراض.
كان من ضمن العوامل التي أدت إلى تردي الخدمات الصحية من قبل المؤسسات في المدينة هو ندرة الأعداد الحقيقية للإحصاءات الرسمية للمراض المتوطنة وتدهور الأوضاع الصحية والابتعاد عن تشجيع بناء المستشفيات الأهلية آنذاك. إلا أن الدكتور الزيادي يؤكد من خلال دراسته: أن في عام 1952م من خلال تقديم دراسة الأسباب الحقيقية للانخفاض الملحوظ في الأمراض كان بسبب تطور الوعي الصحي والمؤسسات الصحية. أي بمعنى أن الواقع الصحي والخدمي قبل عام 1952م كانت حالة يرثى لها في المدينة.
اهتمت الدراسة التي قدمها الدكتور الزيادي في كتابه هذا على دراسة الواقع الريفي في المدينة والمشيخة والمعضلات الاجتماعية لا سيما الفقر والجهل والتخلف والأمية. وقد عزز المؤرخ كتابه بملحق من الجداول التي تجاوز عددها (20) جدولاً، وكانت الجداول غنية بأعداد الكوادر التعليمية واعداد المدارس وطلبتها، والهياكل الادارية لمدارس المدينة والأقضية والنواحي، فضلاً عن دعم الكتاب بجداول توضيحية للمنشآت الصحية في لواء الديوانية للفترة من عام 1928 ولغاية عام 1958م.
ولا يسعني في النهاية إلا الإشادة بهذا الجهد الكبير والعمل الموسوعي الذي يمثل القدرة الكامنة لدى الباحث في الوصول إلى مكامن الواقع الاجتماعي في المدينة، فعمل كهذا يحتاج إلى جهود عدد من الباحثين، ولا يخلوا الكتاب من أمور تحتاج لدراسة أوسع وجهد أكبر، أرى إن الباحث قادر في المستقبل على سد أي فجوة تظهر وصولا إلى الحقيقة التي يسعى إليها.
***
نبيل عبد الأمير الربيعي