قراءة في كتاب
ناجي ظاهر: خطوات في عالم النكران والجحود
يشكو الكاتب المبدع الدكتور عبد الغفار مكاوي، في كتابه "النبع القديم"*، مرّ الشكوى من نكران الاصدقاء وجحودهم، ويخرج عن طوره الهادئ بطبيعته المعروفة باتزانها، فيصفهم بالجراء التي طالما أعطاها من عمره ومن علمه، وينزف مُرّ الشكوى وكأنما هو يريد أن يصفّي حسابًا آن له أن يصفّيه مع هؤلاء وربّما مع الحياة، وهو ما يذكّر بشكوى أخرى مشابهة ضمّنها الكاتب المفكر الفرنسي جان جاك روسو في كتاب مذكراته "الاعترافات".
عبد الغفار مكاوي (11 كانون الاول 1930 - 24 كانون الثاني2012)، أستاذ فلسفة ومترجم وباحث أدبي وفلسفي مصري. يُعتبر من أفضل المترجمين من اللغة الألمانية للعربية. ترجم أعمالًا للفيلسوفين الالمانيين عمانوئيل كانط ومارتن هيدجر، إضافة لأعمال أدبية ونقدية كثيرة. وهو مؤلف العديد من الكتب المثيرة في مقدمتها كتابه "البير كامي- محاولة لدراسة فكره الفلسفي"، وكتابه عن الشاعرة الاغريقية القديمة "سافو"، وهو مؤلف الكتاب الهام جدًا "ثورة الشعر الحديث"، الذي جاء في جزأين ضخمين، في الاول تحدّث عن ثورة الشعر الحديث، أبعادها، معانيها وأعلامها المُجلّين، وفي الثاني ترجم نماذج من روائع الشعر الاجنبي لأبرز الشعراء في العالم.
أما شكواه المشار إليها فقد وردت في كتاب "النبع القديم"، وهو كتاب يضمّ في قسمه الاول سرديات نثرية، أوحت إليه بها قراءاته الواسعة في الادب، شعرًا ونثرًا، ويتحدّث في قسمه الثاني فيه عن حياته غير المعروفة لدى الكثيرين حتى من المقربين إليه، ويبدو في هذه المذكرات إنسانًا مكافحًا من أجل العلم والارتفاع بمستواه في بلاده، رغم ما حاق به وأحاطه من عقبات وعثرات، كما يبدو إنسانًا صريحًا يعرف قدر نفسه ولا يبالغ في تقديره لذاته، فيقول مثلًا إنه حاول كتابة الشعر في بداياته الاولى، إلا أنه ما لبث أن انفضّ عنه وعن كتابته له، لأنه عرف أنه لن يقول فيه ما يذكر!!
في شكواه التي يدور الحديث عنها يقول: "عندما تسير على الطريق، فتُدمى قدميك الاشواك، وتهب عليك الرياح المسمومة من كلّ ناحية، وتتكالب عليك الجراء التي طالما أعطيتها من عمرك ومن علمك لتجرّب فيك أظافرها ومخالبها وأنيابها الصغيرة، وتتقافز القرود فوق الاكتاف وتتصارع على العروش الوهمية التي كانت بالأمس تزينها كبرياء الاسود، حينئذٍ لا تملك إلا أن تهتف: يا ربي. لِمَ ولدت في هذا المكان .لِمَ وجدت في هذا الزمان؟ ويتابع قوله هذا. يقول: أنت" تعلم أن السؤال عقيم لا جواب عنه، لكنك تتحسّر وتتمنى . تتحسر على عمر يضيع وطاقة تُبدد وكرامة تُنهش، ومرارة تتراكم في القلب كجبال الملح وموهبة تُطفأ شمعتُها الواهنة يومًا بعد يوم كلّما حاولت أن تسرجها.
يحاول المكاوي أن يتراجع عن تحسره هذا، فلا يتمكن. عندها يتذكر في محاولة للتعزّي على ما يظهر، يتذكر واحدة من خواطر الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال الذي طالما أحبه، يقول:" أرى هذه الفضاءات الكونية المخيفة التي تحوطني، وأجد نفسي مقيّدًا إلى رُكن من هذا الامتداد الهائل، بغير أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون غيره، وإلا لماذا حددت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قُدر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها، لا في نقطة أخرى من الازلية التي سبقتني أو الابدية التي ستأتي. لست أدري من كلّ ناحية إلا هذه النهايات التي تحبسني، كأني ظلٌّ لا يدوم إلا لحظة واحدة وبلا عودة (الخاطرة رقم 194 من ترقيم برونشيج لخواطر باسكال).
يستحضر مؤلف الكتاب شخصية أدبية مبدعة عُرفت بإبداعاتها المشهود لها، وعن غيابها عن الساحة الادبية المصرية فترة من الزمن، فيغمرها النسيان وتعيش في أخريات أيامها، وهي أيام اللقاء بها. يقول له صاحب هذه الشخصية، ضمن سردية مؤثرة يحمّلها عنوانًأ مرعبًا هو "كوجيتو مصري**"، يقول عن صاحب هذه الشخصية وما قاله له في زيارته الاخيرة له وهو يرسل نحوه ابتسامة مُرّة، فيسأل نفسه وهو يرسل ابتسامة اخرى مُرةّ مماثلة:" أصحيح أن الانسان عندنا لا يوجد إلا حين يتظاهر ويدّعي ويعلن عن نفسه في كل بوق وبكلّ وسيلة؟".
رحم الله كاتبنا الراحل المبدع، فقد عاش حياة حافلة بالعطاء كتابة وترجمة، ورحل كما يبدو من نبعه القديم، وعلى شفتيه علامة أسى وفي قلبه حزن وحسرة.. فهل يرحل هكذا مبدعونا الحقيقيون.. وهل يصدُق عليهم ما قيل عن اولئك المبدعين وهو: إنهم عندما يحلّقون بعيدًا ويوغلون في السموات العليين.. فلا يراهم مَن هُم على الارض؟
***
ناجي ظاهر
........................
*النبع القديم. د. عبد الغفار مكاوي. سلسلة كتاب الهلال الشهرية. العدد 670 – صدر في تشرين الاول من عام 2006.
**الكوجيتو هو المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لإثبات الحقائق بالبرهان وهو عبارة عن قضية منطقية.