قراءة في كتاب
خالد الحلِّي: عقيل منقوش في الضفة الخضراء البعيدة
بحثٌ عن الذات.. وعقود حافلة بالأحداث والتجارب
بحميميةٍ وصفاء، ينقلنا الشاعر عقيل منقوش، إلى تجربة دافقة بمشاعر الاغتراب الوجودي والإنساني، عبر سيرة اقترب نسيجها الإبداعي كثيراً من النسيج السردي الروائي، بغض النظر عن اختلاف الأمكنة وتباعد الأزمنة.
حملت هذه السيرة، التي كان الشعر يتنفس في كثير من سطورها عنوان "الضفة الخضراء البعيدة"، وصدرت عن دار قارات للنشر والتوزيع في بغداد بـ 230 صفحة من القطع الوسط.
وابتداءً من إهدائه للكتاب والتمهيد الأولي الذي وضعه له، يجرّنا كاتب السيرة إلى قاربه لنبحر معه، مشاركين إيّاه التفاعل مع الآخرين، والتأثر بإفرازات الواقع المعاش والمفترض والمتخيل، عبر عقود من الزمن، كانت حافلة بالأحداث والتجارب التي تحمل أجواءها الخاصة، ورؤاها المتميزة، والتي توزعت بين العراق والمملكة العربية السعودية وأستراليا.
بعد أن يهدي كتابه " إلى الأرواح القريبة منه، تلك التي غادرت دونما وداع يليق بها"، نجده في تمهيده للكتاب، يحمل اسم "تموز بن عربي" الذي يستيقظ من نومه المعتاد فلا يجد نفسه، فيبحث عنها في كلّ مكان، في بطانة الفراش، تحت المخدة، أسفل الشراشف، قرب سريره الخشبي، في زوايا الغرفة، خلف الستائر، في الخزانات، على الرفوف، لكن بلا جدوى. لم يستطع أن يعثر عليها. ومع استمراره في البحث، يتذكّر صديقته زلفة الأسمر فربّما تعرف شيئا عن اِختفاء نفسه فهما يقضيان معظم الوقت معا، فتفاجئه بالقول: ماذا جرى لكً يا تمّوز أما زلت تبحث عنّها؟ ربما تجدّها حيث تركتها. بقي على هذا الحال أيّاماً، شهوراً، سنواتٍ، حتى اختفى.
ومن هذه الأجواء الغرائبية ينقلنا إلى الحديث عن منابعه الأولى، عن ذكريات طفولته وصباه وشبابه، فينقل لنا الجميل والمبهر من الحكايات والصور، التي تجسد خصوصيات لا يعرفها الكثيرون عن مدينة كربلاء، كما يحدثنا عن الأوضاع التي مرت بها في ظل عهود سياسية متتابعة، بشكل إنسيابي دافق عصي على الإيجاز والإختصار، ولكنه يفيض بدلالاته وإيحاءاته.
ومع تسلسل الأحداث وتلاحقها، يروي لنا حكايات لافتة عن مراحل عسكرة المجتمع العراقي في ثمانينيات القرن المنصرم، ومرارات الحرب العراقية الإيرانية، التي وصفت بأنها حرب مجنونة، مخلّفة، كما يؤكد منقوش في الكتاب " أكثر من نصف مليون قتيل ومليون جريح وعشرات الآلاف من الأسرى والمفقودين وخسائر ماديّة لا تقدّر بأثمان، دون أن تحققّ أي من المكاسب للطرفيّن".
ولكن هذه الحرب المدمرة أريد لها أن تلد حرباً أخرى، فتم غزو الكويت، وجرت أحداثٌ قاسية متتالية، انتهت بإخراج القوات العراقية، ثم التوقيع على اتفاقية خيمة صفوان. وبهذا الصدد يقول المؤلف :" بكل بساطة أصبح العراق وعمره الذي يزيد على ثمانيّة آلاف سنة تحت وصايّة الأمم المتحدة وعمرها الذي لا يزيد عن ست وأربعين سنة، بموجب الفقرة السابعة من قانون العقوبات الذي يحتّم على العراق التخلي عن سيادته وثرواته".
ويذكرنا بمرارة كيف أن جمهوريّة العراق وعاصمتها ومدنّها جميعا، كانت قد تعرضت لأكبر إعتداء عسكري في التاريخ الحديث، حيث أُسقط في ليلتين فقط على عاصمة البلاد بغداد ستون ألف صاروخ. كما دُمّرت الجسور والبنايات والمصانع، ولم تنجُ حتى الملاجئ كملجأ العامريّة في بغداد والذي راح ضحيّته عشرات المدنيين من القتلى.
ويشير المؤلف إلى انه كان عيّن ذلك الوقت، مدرّسا في إعداديّة الطليعة في محافظة السماوة في العراق بسبب الحاجة الماسة لمدرسي إختصاص لغة عربيّة ورياضيات ولغة إنكليزيّة. ويخبرنا كيف انه استيقظ مع نزلاء فندق القشلة الواقع في الصوب الكبير، الذي كان يسكنه، على أصوات طائرات أف 16 الأمريكيّة، وهي تشعل هدوء السماء في ذلك الصباح الصيفي الساخن بدويّ محرّكاتها الهائلة، وصواريخها التي بدأت تتساقط على المدينة الفقيرة متهالكة البناء.
ثم يحدثنا كيف وجد نفسه بين لاجئي ومحتجزي مخيم رفحاء بالمملكة العربية السعودية، ويقدم صوراً عن معاناته ومعاناة الآخرين هناك، ثم يحدثنا عن انتقاله إلى أستراليا وما مرت به حياته الجديدة هناك.
إنّ هذه السيرة – الرواية، هي عصية على الإيجاز والإختصار، كما أشرنا سابقاً، وقد مرت بنا ونحن نقرأها بعض الأحداث والذكريات والانطباعات الموثقة مع ذكر أسماء حقيقية وتواريخ محددة بين ثناياها، وهذا ما يمكن أن يلمسه القارئ بشكل واضح وانسيابي لدى قراءته إيّاها.
***
خالد الحلِّي