قراءة في كتاب
طه جزاع: «أبو خولة» الذي راقب الموت بالتأهب
من بين اهتماماته المتشعبة في تأليف الكتب الفكرية والإيديولوجية والسياسية والحزبية والأدبية، كان للتصوف حصة متميزة في فكر وحياة وسلوك عزيز السيد جاسم، الذي بدأ نشاطه السياسي اليساري المبكر في ناحية الغازية قبل أن ينتقل إلى العاصمة بغداد نهاية الستينيات وهو لم يبلغ بعد الثلاثين عاماً. وقد يجد القارئ غرابة في كتاب «متصوفة بغداد» عندما يعده مع مؤلفاته الأخرى المنغمسة في قضايا وهموم ومسائل ومشكلات وطروحات تبدو بعيدة عن هذا الميدان الروحي الفريد الذي تبلور في بغداد منذ القرن الثاني للهجرة، وتحول إلى مدرسة أصبحت أصلاً لجميع مدارس التصوف واتجاهاته اللاحقة، غير أن المعلومات التي وصلتنا من أصدقاء وزملاء كانوا قريبين جداً من عالم عزيز السيد جاسم « أبو خولة « تؤكد أنه كان يتصف بالعفة والزهد في ملذات الدنيا، كتب عن متصوفة بغداد فأحب أن يقتفي أثرهم، ويسير على دربهم، وأن يراقب الموت بالتأهب وفق نهجهم، « فكان ما كان مما لستُ أذكرهُ / فظنّ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ»!.
يخصص المؤلف بداية كتابه لتسمية بغداد ونشأتها وأسباب اتخاذها عاصمة للدولة العباسية، وهي أسباب لا تتعلق بالموقع الجغرافي وحده، إنما تتعداها إلى رؤية أبعد من ذلك تتعلق بقيمتها الاستراتيجية والدور المستقبلي لأن تكون مركزاً ووسطاً لا للعراق وحده بل للدولة الإسلامية كلها التي اتسعت رقعتها في مشارق الأرض ومغاربها، لذلك فأن بغداد قد ولدت بموعد مع القدر التاريخي، أو أنها ولدت بضرورات تاريخية حاسمة بحسب قوله، مؤكداً أن هذه المراجعة التاريخية الموجزة جداً عن مدينة السلام « تشير إلى أن الأهمية الاستراتيجية للموقع الذي شغلته بغداد، كانت معروفة في أزمنة أسبق من الزمن العباسي والخليفة أبي جعفر المنصور، ومما له دلالته الخاصة – هنا – أن المكان المميز لا يستطيع إدراك مكانته الاستراتيجية غير العقل السياسي الثاقب الذكاء، وقد تظل أمكنة ذات امتياز جغرافي وتاريخي مهملةً نتيجةً لعدم وجود الوعي السياسي المدرك لقيمة تلك الأمكنة». والحق فإن ما أسماه بالمراجعة التاريخية « الموجزة جداً « هي مراجعة مهمة أخذت ربع عدد صفحات الكتاب من أجل أن يمهد لظهور وازدهار التصوف في بغداد، والعوامل التي أدت إلى ذلك ومنها اتساع مكانة بغداد، وموقعها الاستراتيجي، ومركزها الديني، ودورها التاريخي باعتبارها عاصمة الإسلام والمسلمين وقبلة الناس، «وكان التوثيق الفلكي لتحول المنصور إلى مدينة بغداد بياناً صريحاً بالاهتمام الخاص الذي أولاه الخليفة لقُّراء النجوم»، لتكون عاصمة العراق الذي «جعل الله فيه خزائن العلم ومسكن الرحمة».
يبدأ عزيز السيد جاسم بأبي هاشم الكوفي المتوفي في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، وهو أول من لقب بالصوفي «وكان يقرن علمه بسلوكه مطهراً نفسه من الرياء»، ومشيراً كذلك إلى صاحب الكيمياء من أهل الكوفة جابر بن حيان الذي نعته المستشرق ماسينيون بهذا الوصف أيضاً لمذهبه الخاص بالزهد، ثم ينتقل لمتصوفة بغداد، معروف الكرخي القائل : « أن التصوف التوقي من الأكدار، والتنقي من الأقذار»، وبشر الحافي : « لا تكون كاملاً حتى يأمنك عدوك، وكيف يكون فيك خير وأنت لا يأمنك صديقك «، ومنصور بن عمار : « اتركْ نهمة الدنيا تسترحْ من الغّم ، وأحفظْ لسانك تسترحْ من المعذرة «، والحارث المحاسبي الموصوف بالجهبذ في مدرسة بغداد الصوفية، والمعروف بكثرة مؤلفاته حتى قيل عنه « إنه أعظم مؤلف صوفي في القرن الثالث الهجري»، والسري السَّقَطِي امام البغداديين « تارك الغفلة «، القائل: « من تَزَيَّن للناس بما ليس فيه، سقط من عين الله عز وجل»، وأبو سعيد الخراز الذي انتشرت بركاته على أصحابه ومتّبعيه، ورويت عنه العديد من الكرامات، وأبو الحسين النوري الذي تعرض لمحنة الاتهام بالزندقة وهو القائل: « ليس التصوف رسوماً ولا علوماً ولكنه أخلاق»، والجنيد البغدادي «بهلوان العارفين» كما يصفه السبكي: «وهو سيد الطائفة، ومقدم الجماعة، وامام أهل الخرقة، وشيخ طريقة التصوف، وعَلَم الأولياء في زمانه»، والحسين بن منصور الحَّلاج الغني عن التعريف، والذي يخصص له المؤلف صفحات للحديث عن زهده والسياسة في حياته وصوفيته وشطحاته ومؤلفاته ومنها «طواسين الأزل» و» كتاب العدل والتوحيد» و « كتاب تفسير قل هو الله أحد» ومحاكمته الكبرى، وآخر ما قاله من كلمات قبل حز رأسه، وأخيراً أبو بكر الشبلي « السكران»: «وهو أول من سمّى التصوف بعلم الخٍرَق، في مقابل علم الورق»، والمقصود بالسكران السكرة الروحية التي تأتيه أثناء المناجاة فيرى فيها الخلاص من ربقة الدنيا.
أُنجزت على امتداد العقود الماضية المئات من الدراسات والرسائل والأطاريح الجامعية، وصدرت عشرات الكتب عن مدرسة بغداد الصوفية ومتصوفيها من قبل باحثين اكاديميين، غير أن كتاب»متصوفة بغداد» يأتي من خارج الصفوف الأكاديمية، من كاتب جذبه التصوف إلى عالمه، ومنحه شيئاً من أسراره وشطحاته، وأشياء من روحه وسمو أخلاقه، ذلك أن معظم من بحثوا في التصوف تأثروا بالنص الصوفي لما يمتلكه من طاقة سحرية وروحية تنغرز في ثنايا الروح، فتهذب النفوس، وتُجَّمِل الخلق، وتُشذب السلوك.
من جميل ما يقتبسه عزيز السيد جاسم عن قطب الزمان الشيخ عبد القادر الكيلاني قوله : «عَثر الحَّلاج ولم يكن له من يأخذ بيده، ولو أدركتُ زمانه لأخذتُ بيده «.
***
د. طه جزاع