قراءة في كتاب
صائب المختار: الرسائل الفارسية في النهضة الأوروبية
يعتبر مونتسكيو (1689 – 1755) واحدا من أبرز فلاسفة عصر النهضة الأوروبي. هو قاض وأديب وفيلسوف. تخلّى عن ممارسة مهنة المحاماة ليتفرغ للدراسة والبحث والكتابة. حقق نجاحاً باهراً في كتابه المسمى "الرسائل الفارسية" في عام 1720م. في هذا الكتاب، يهدف المؤلف مونتسكيو، إلى تنبيه الناس إلى الفساد الأخلاقي والاجتماعي المستشري في المجتمع الفرنسي (الأوروبي) من خلال رواية خيالية رسمها في خياله تدعو إلى كشف المظاهر السيئة التي اعتاد عليها المجتمع الأوروبي، بأسلوب ممتع ومشوّق. والرواية عبارة عن مجموعة من الرسائل (161 رسالة) كتبها المؤلف من خلال شخصيتين وهميتين، تمثلتا في رجلين من بلاد فارس، أسماهما أوزبك وصديقه ريكا، وكانا قد ارتحلا من بلادهما إلى فرنسا طلباً للمعرفة والتقدم الحضاري، فكتبا انطباعاتهما عن المجتمع الفرنسي ومشاكله وعيوبه من وجهة نظرٍ فارسية، وبأسلوب ادبي ساخر وممتع. وكذلك تتحدث الرسائل عن واقع حال المجتمع الفارسي المسلم، ومظاهر حياتهم الشرقية، حيث يراسل الرجل الفارسي (اوزبك) زوجاته الأربع بشوق وغزل بسبب الفراق، وتراسله زوجاته بنفس الأسلوب، وهو ما يندهش له الأوروبيون كونهم لا يعرفون مثل هذه العادات الاجتماعية، وهي غريبة عن واقعهم الاجتماعي. وأقتَبِس من هذه الرسائل، الرسالة الثلاثون، لِما فيها من مغزى ومعاني واهداف مهمة لمجتمعنا الحالي. هذه الرسالة كتبها (ريكا) إلى صديقه (أبين) في مدينة ازمير ليُخبره عن ردود فعل الباريسيين على الملابس والحلة التي يرتديها باعتبارها تدل على الأعراف الاجتماعية في بلاد المشرق.
يقول في الرسالة الثلاثون:
"أهل باريس في درجة من التَطلّع والفضول تصل إلى حد الافراط، إذ أنه عندما وَصَلت إليها كانت تتطلع إلىَّ الأنظار كأنني هابط من السماء، فالشيوخ والرجال والنساء والأطفال كلهم يحبون أن يروني. وإذا خَرَجت أطلّ الناس جميعاً من النوافذ. وخلاصة القول: إن الأنظار لم تتجه إلى أحد كما اتجهت إلىَّ. وأرى أن الشرف العظيم لا يكون إلاّ بما يبرره، ولا أرى نفسي شيئاً بالغ الغرابة ولا نادر الوجود. ومع أني أحسن الظنَّ بنفسي، لم أتصوّر مطلقاً أنني جدير بأن أقلق راحة مدينة كبيرة لم أُعْرف فيها قط. وقد حملني ذلك على أن أخلع الثياب الفارسية وأرتدي الأوروبية، لأرى هل يبقى في سحنتي شيء مُعجِب. وهذه التجربة عرّفتني قيمتي الحقيقية، إذ أنني لمّا تخلصت من كل حلية أجنبية قُدّرت تقديراً أدق. وكان من حقي أن أتألم من الخياط الذي أفقدني انتباه الجمهور وتقديره في لحظة واحدة، وحرمتني حلته اعتباري، واهتمام الناس بي؛ وكأني لم أكن شيئاً مذكورا، فصرت أحيانا اقضي ساعة في جماعة دون أن يلتفت إلىَّ أحد، أو يتيح لي فرصة أن أفتح فمي؛ لكن إذا حدث عرضاً أن يخبر أحدٌ الجمع أنني فارسيّ سمعت حولي على الفور لغطاً فيقول قائل: وي! وي! هل السيد فارسيّ؟ هذا أمر غريب؟ كيف يمكن أن يكون الإنسان فارسياً! (باريس في 6 من شوال سنة 1712)
***
تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يمثل تجربة حقيقية، حدثت فعلاً على ارض الواقع، واعطت نتائج جيدة ومُرضية، تتمثل في أنَّ القرّاء استوعبوا الأفكار التي طرحها مونتسكيو، والتي تدعو إلى نبذ المظاهر السيئة التي تسود المجتمع الفرنسي. وإنَّ التجربة اعطت ثمارها في بعث نمط جديد من الأفكار التي أرادها المؤلف أن تشحذ عقول الناس، وتوسع آفاق ومدارك الفكر، واستخدام التفكير العقلاني بدلاً من نمط التفكير التلقيني الذي كان سائداً في تلك العصور. إنَّ مثل هذه التجربة الناجحة، والأسلوب الجيد الفعّال في التأثير على طريقة التفكير عند افراد المجتمع حريٌ بها أن ُتدْرس بإمعان وتَرَوّي، لتكون منهجاً يفيدنا في تطوير نمط التفكير السائد عندنا (والذي هو تفكير تلقيني لا عقلاني) لتكون نقطة بداية ومنطلق نحو افق سامي من آفاق النهضة.
يُعبّر مونتسكيو في هذه الرسالة عن رمزية استبدال اللباس التقليدي باللباس الاجنبي، وهي رمزية عامة تشمل عناوين مختلفة وعديدة، مثل التراث أو التاريخ أو اللغة أو الاسم، أو غيرها مما شابهها. وتوضح الرسالة بأسلوب ممتع ومشوًق، شعور ريكا عندما نزع لباسه الأصلي واستبدله بلباس أجنبي مما تسبب في أن يفقد اهتمام الناس به، وخسرانه كل مزاياه في المجتمع الغريب الذي لا ينتمي إليه، حيث أصبح شخصاً اقل من عادي، لا يهتم به أحد، ولا يسمع له أحد ولا يناقشه أحد، وهو المثقف الذي جاء لهذا البلد للتعلم والدرس. وقد انتابه شعور بالإحباط، كونه يعرف قيمة نفسه وشخصه. ومن البديهي أن لبس اللباس التقليدي واستبداله بالأجنبي ليس هو المقصود حصراً، لكن الحبكة الروائية اقتضت أن يكون اللباس رمزاً لما يعتز به المجتمع وافراده. ويلاحظ في مجتمعاتنا مثلاً، بين الحين والآخر، ظهور أصوات تتحدث عن، أو تنادي وتدعو إلى التقليل من شأن وأهمية التراث والتاريخ، بل ويعتبره البعض مشوشاً ومزيّفاً أو مليء بالأكاذيب. وهناك من يثير التساؤل عن أهمية وجدوى بحث ودراسة المخطوطات ومصادر التاريخ القديم الذي مضى عليه أكثر من ألف عام، وتضييع الوقت في دراستها، فهي حقبة قد ولّت وانتهت. وهم في ذلك ينكرون الماضي والتراث القديم، بل ويدعون إلى تركه واهماله كلياً. مثل هذه الأصوات قد تكون جاهلة بأهمية التراث والتاريخ بالنسبة للمجتمعات، بسبب قلة الوعي الثقافي عندهم، أو أن يكونوا عارفين ولكنهم مغرضين يحاولون التنكيل بالمجتمع. والحقيقة، أنهم بفعلهم هذا، إنما يقللون وينتقصون من شأن أنفسهم ومن مجتمعهم وافراد مجتمعهم، مما يجعل المجتمعات الأخرى أن تنظر لهم نظرة دونية، فمن لا يحترم تراثه وعاداته وتاريخه لا يحترمه الناس. إن التخلي عن، أو التقليل مما يمتلكه الفرد من تراث أو ثقافة اجتماعية تجعل الآخرين أن ينظروا له بأقل مما يستحق، إذا كان فعلاً يستحق الاهتمام. وهي رسالة لكل شعوب العالم بالاعتزاز بما لديهم من تراث أو تاريخ أو حضارة. ومثال صارخ آخر من واقع مجتمعنا الحالي، هو تفضيل اللغة الإنكليزية على العربية، وهي اللغة الأم والأصل، على اعتبار أن الإنكليزية لغة تحضّر وتقدم، وإن اللغة العربية لغة متخلّفة كونها صعبة ومعقدة. وهذا بحد ذاته يمثل إهانة وانتقاص لتراث وحضارة المجتمع العربي والإسلامي، كون اللغة هي ركيزة مهمة واساسية في قِيَّم وهوية المجتمعات. ومن النادر أن تجد مجتمعاً متحضراً يفضل اللغة الإنكليزية على لغته الاصلية. فالمجتمع الفرنسي والألماني والإيطالي، على سبيل المثال، يرفض تماماً التكلّم بغير لغتهم الأم، لأنهم يعتزون بها، فهي اساس عزتهم وكرامتهم. إلا اننا نلاحظ، وبكل أسف، انتشار هذه الظاهرة في المجتمعات العربية، فهم يعتقدون أن في هذا مظهر من مظاهر الرقي والتحضّر. وهذا يعني أن الفكر العربي لا يَعي أهمية اللغة من حيث كونها مكوّن أساسي لتراث المجتمع وقيَّمه وقيمته الاجتماعية.
أظهر مونتسكيو، في كتابه هذا، ذكاء وحنكة متميزتين، تمثلت باستخدامه أسلوب الرواية المشوّقة لإيصال أفكاره إلى القارئ، الذي استمتع بقراءتها واستوعبها بشكل سلس وممتع. تجنب مونتسكيو الكتابة الفلسفية بأسلوبها الجاف والممل. ومعلوم أن القراءة بالأسلوب الفلسفي تتميز بالتعقيد وصعوبة الفهم، وغالباً ما تكون هذه الكتابات مملة اثناء القراءة، وبالتالي تتشتت فكرة المقال. لقد اقبل الناس على شراء وقراءة الكتاب بنهم منقطع النظير ونفذت عدة طبعات منه في عام واحد.
والملاحظ ان بعض الكتّاب والمؤلفين يعتمدون في مؤلفاتهم وكتاباتهم الثقافية على الأسلوب الفلسفي الصعب الممل، ويميلون إلى استعمال المصطلحات الفلسفية والكلمات الأجنبية بدلا من مرادفها العربي، ظناً منهم ان استعمال هذا الاسلوب في المؤلفات والكتب والمقالات المنشورة يجعلها بمستوى أرقي مما هي عليه. والحقيقة انها لا تؤدي الغرض المطلوب بسهولة ودقة عالية ولا تكسب المقالة أهمية أكثر مما يستحق. وقد تكون هذه فائدة أخرى تستحق المراجعة.
***
د. صائب المختار