قراءة في كتاب
معاذ محمد رمضان: هنري لوفيفر.. ماركس ضد البنيوية
الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر هو الشخصية الثالثة التي درستها أديث كيرزويل في كتابها "عصر البنيوية من ليفي شتراوس الى فوكو".
النقاط الأساسية التي خرجتُ بها من خلال قراءتي المتواضعة هي:
1ـ كان لوفيفر واحداً من أوائل نُقاد البنيوية وأشدهم هجوماً عليها على نحو ما صاغها كل من ألتوسير وشتراوس.
2ـ تُمَثِلُ حياة لوفيفر الممتدة تأريخ اليسار في القرن العشرين، لكل ما في هذا التأريخ من معضلات ومعاناة طرحتها الشيوعية على المثقفين في فرنسا وغيرها من البلدان، فهي حياة تعكس الآمال والإحباطات التي وَلَدَتها الثورة الروسية ونجاح اللينينية وإخفاقاتها وولادة صين ماوتسي تونغ والإنضباط الحزبي القمعي للستالينية.
3ـ "المُجمَلُ والبقية" كتاب لامع لهنري لوفيفر، ولعله أفضل سيرة ذاتية كتبها واحد من "المراجعين" لتأريخ الشيوعية الفرنسية والستالينية.
4ـ ظَلَ لوفيفر على إمتداد عمله كله يحاول محاولة واعية إستيعاب "الوحدة الشاملة" للوجود الإنساني وفَهم "كل شيء" بطريقة هيجلية، فسعى سعياً لا مواربة فيه الى وصل كل ظواهر الماضي بكل ظواهر الحاضر.
5ـ صار لوفيفر ماركسياً بين عامي 1925 و 1930 في وقت يصعب فيه على المرء أن يتغلب على رومانسية شبابه ـ فيما يقول. ولكن الماركسية أزهرت على أطلال هذا الشاب بعبثيته وآماله التي لا تُحد. وفي وقت لم يكن الماركسيون فيه يعرفون شيئاً عن ماركس الشاب، وليس بين أيديهم سوى تفسيرات لينين وستالين في الأغلب.
6ـ يشير كتابه "المادية الجدلية" 1939 الى أن إستخدامه مفهوم الإغتراب لم يكن قاصراً على دراسة المجتمع البرجوازي، بل تجاوزه الى كشف ونقد الإغتراب الأيديولوجي والسياسي في الإشتراكية خصوصاً في المرحلة الستالينية، وقد أدرك لوفيفر أن الكتاب وإن كانت تشوبه بعض الدوجماتية فقد رفض كل النزعات التي تُغلب الإقتصاد أو المجتمع أو تركز على مادية غير إنسانية، ولقد سبب ذلك المشاكل داخل الحزب، المشاكل التي كان لوفيفر يحلها كعادته بالدعوة الى "إعادة قراءة ماركس بعيون جديدة".
ونلمح إختلافاً بَيناً ـ من منظور هذه القراءة الجديدة ـ بين ما كتبه لوفيفر قبل إنفصاله عن الحزب ـ مثل "ماركس والحرية" 1947 و "الماركسية" 1948، وما كتبه بعد الإنفصال مثل "المشكلات الحالية للماركسية" 1958 و "المجمل والبقية" 1959، وقد مضى لوفيفر في نشر عدد من الكتب يطرح من خلالها تفسيراً أفضل لماركس مثل "ماركس فيلسوفاً" 1964 و "ما بعد الفلسفة" 1965.
7ـ عندما واجه لوفيفر نمو الرأسمالية وتجزؤ الطبقة العاملة ونمو النزعات القومية فإنه إنتهى لتخطئة ماركس نفسه، ذلك لأنه لا ماركس ولا لينين قد توقع إبتداع الإصلاح الزراعي الذي قام به الحزب الشيوعي الجزائري، أو بروز الشخصية الوطنية المتميزة للحزبين الفرنسي والإيطالي، أو الأثر الذي يتركه تَعَقد المدينة.
8ـ تناول لوفيفر كل محظور وتعرض لكل المشكلات التي تطرحها الفلسفة الماركسية على الشيوعية "الرسمية" وبدأ في تقديم نقد مُمَنهَجٍ لكلٍ من الدول الإشتراكية والرأسمالية، ذاهباً الى أن ماركس نفسه كان سينتهي الى هذا النقد.
9ـ من حيث الظاهر، فإن ماركس الذي كان يفكر فيه لوفيفر شبيه بماركس الذي عاد اليه شتراوس، كلاهما
قرين مقالات "صحيفة الراين" و "مخطوطات 1844"، لكن بينما كان شتراوس يركز على لغة هذه الكتابات، فإن لوفيفر كان يركز على تأثيرها السياسي.
10ـ في الوقت الذي حاول فيه البنيويون (عدا ألتوسير) إحتواء الماركسية، فإن لوفيفر لم تَفتر همته في إثبات أن الماركسية هي الطرف الأعلى القادر على إستيعاب البنيوية.
11ـ يُقرر لوفيفر أن أداته في معالجة الحداثة هي "التأمل"، ذلك لأن التأمل كان الأداة التصورية الأصلية لماركس، عندما كان عليه أن يتخذ موقفاً نقدياً من الحداثة، ولأن ماركس شبيه بسقراط الذي كان يقرن بين التأمل والسخرية، فأصبحت السخرية هي المبدأ المنظم لكتاب لوفيفر "مقدمة الى الحداثة" 1962، ولكن رغم ما ذهب إليه لوفيفر من أن السخرية سوف تتغلب على نزعته المثالية فقد بدا غير مدرك أنه قام بتمجيد كل القيم التي كان ماركس يهزأ منها.
12ـ كان ألتوسير أبرز معارضي لوفيفر، فماركسيته "العلمية" كانت تهاجم بذاتها ماركس الذي يتنباه لوفيفر وترى فيه مثالياً غير واقعي، وبقدر ما أعلى لوفيفر من شأن ماركس الخاص به، هاجم ألتوسير الذي "يُجمد الماركسية ويقضي على تماسكها ويدمرها بإسم البنيوية".
13ـ يقتنع لوفير بأن العمران المديني سرطان الحياة الحديثة، وأن الدرس الماركسي "للمكان" يمكن أن يكون علاجاً له، لذلك أسس في عام 1970 مجلة جديدة بعنوان "الأماكن والمجتمع".
14ـ لم يستطع لوفيفر أن يتخلى عن قدر بعينه من الدوجماتية، لكن يمكن لحججه المتكررة الجاهزة أن تكون مقنعة عندما يتجاوز تفاؤله الثابت كل العقبات، ولا ينبغي أن تغيب عنا مثاليته، فالديالكتيك الذي تقوم عليه فلسفته لن يغير الواقع الإجتماعي أو المكان.
***
بقلم: معاذ محمد رمضان
....................
يُراجَع:
أديث كيرزويل: عصر البنيوية من ليفي شتراوس الى فوكو، وهو من ضمن سلسلة كتب شهرية تُصدرها دار آفاق عربية للصحافة والنشر، رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة الدكتور محسن جاسم الموسوي، بترجمة: جابر عصفور، الصفحات: من ص65 الى 93