قراءة في كتاب
بعد آخر في جدل الدين والتراث الديني..الذاتي والعرضي في الأديان
في كتابه المثير للجدل "بسط التجربة النبوية" خصص عبد الكريم سروش فصلا موسعا لتفصيل رؤيته حول ما يصفه بالذاتي والعرضي في الاديان. والحق ان معظم مقولات سروش تتجاوز الحدود المتعارفة للنقاش في قضايا الدين. فهي تطرح تحديات عسيرة لمعظم ما ألفناه من مسلمات، نقرأها دائما أو نسمعها، ثم نعيد قولها دون ان نتوقف لحظة للتأمل في حقيقتها أو مراميها النهائية، أو قابليتها للصمود في وجه المساجلة العقلية المتحررة من الشوق للقبول او الرغبة في التبرير.
يرجع مفهوم "الذاتي والعرضي" في الأشياء والافكار، الى نقاشات الفلسفة اليونانية القديمة حول الجوهر والعرض. فالجوهر عند ارسطو مثلا هو حقيقة الشيء وعماد وجوده، القابل للتحديد والتعريف بمفرده، الذي لا يحتاج في وجوده إلى عامل خارجي يعرفه او يحدده. أما الاعراض فهي ما يلتحق بالذات او الجوهر، ليلعب دورا اضافيا مثل التحسين او الايضاح او الربط. وهي أدوار لا تؤثر في وجود الذات او الجوهر، لكنها تنظم علاقته بالذوات والاعراض الأخرى في محيطه.
اراد سروش من وراء هذه المساجلة ايضاح الفارق بين الدين والتراث الديني، اي مجموع المعارف التي نشأت حول الدين، من تفاسير وآراء واجتهادات وتجارب وتاريخ وثقافة شعبية وفولكلور، وغير ذلك من المكونات المادية والنظرية والذهنية التي تدور في فلك الدين، لكن لا وظيفة لها من دونه، ولم تحصل على وصفها الخاص او قيمتها قبل ارتباطها به.
أظن ان كثيرا من الناس يوافقون سروش في هذه الرؤية، من حيث العموم على الاقل. لكنها مع ذلك واجهت معارضة شديدة. فهي، في نهاية المطاف، تقول ان المعارف المرتبطة بالدين، ليست جزء منه، ولا تملك صفة الاطلاق والعمومية الخاصة به.هذا يعني ببساطة ان ما أنتجه السابقون وما ينتجه المعاصرون، أي مجموع المعارف التي اعتدنا فهم الدين من خلالها، ليست سوى معارف عادية، يمكن للمسلم ان يستفيد منها، دون ان يلتزم بمقولاتها، كما يمكن له ان يضعها على الرف فلا يسأل عنها.
بديهي ان الأغلبية الساحقة من المشتغلين بالعلم الديني، لن ينظروا لهذه الأقوال بعين الرضا. فهم اعتادوا على فهم الدين، نصا وفكرا، بالرجوع الى أفهام السابقين وتفسيراتهم. وهم لا ينكرون نسبية هذه الأفهام، لكنهم يرونها أبوابا للدين يستحيل عليهم الوصول الى جوهر الدين دون عبورها. بل يمكن القول ان كلا منهم مضطر الى هذه الأبواب، لأنه لا يعرف غيرها ولم يعتد على سواها. وهذه حال كل واحد منا. نحن نفهم الاشياء لاننا ننظر اليها من زوايا محددة، تصف لنا ما نراه وتبرره، ولو نظرنا اليها من زوايا مختلفة، فلربما لم نعرف ما ننظر اليه.
لكن سروش لا يتوقف عند هذه النقطة. فهو يأخذ القاريء الى غور بعيد، يتعلق بالنص ذاته، حين يضع أمامه السؤال المحير: هل النص بذاته هو ذات الدين او جزء من ذات الدين، أم هو من أعراضه؟. بعبارة أخرى: هل جرى اختيار لغة النص والقصة والمثال ونظام الجملة التي استعملت في النص، باعتبارها جميعا جزء من ذات الدين وجوهره، أم ان دورها وظيفي بحت، مثل الظرف الذي تقدم فيه الرسالة، أو الطبق الذي يقدم فيه الطعام؟.
***
د. توفيق السيف
كاتب ومفكر سعودي