قراءة في كتاب
مـولود حــمروش ورؤيته للظاهـرة العـسكرية في إفريقيا
إن الحديث عن السياسة وقضايا الثقافة السياسية هو أمر ضروري لا مناص منه؛ فقد حظي مفهوم الثقافة السياسية بعناية فائقة من لدن العديد من الباحثين في العالم العربي والغربي؛ فهو اهتمام يرجع -كما عبر ألموند- إلى تلك المرحلة التي بدأ فيها الإنسان الحديث الكتابة عن السياسة، حيث انطلق العديد من الدارسين في تدبيج الأسطار التي تتصل بالمتغيّرات الثقافية، ومع تطور علم الاجتماع خلال القرن التاسع عشر بدأ الاعتراف بالمتغيّرات الذاتية في تفسير الظاهرة السياسية والاجتماعية؛ وتدريجيا برز مفهوم الثقافة السياسية واكتسح ميدان علم السياسة،وبشّر بإمكانات هائلة؛ إذ بدا واعداً بتجاوز كثير من المشكلات المثارة في علم السياسة، ولاسيما ما يتصل بالمعضلات المتعلقة بكيفية تأثير الناس في النظام السياسي، وطبيعة تفاعلهم معه على المستويين الكلي والجزئي(1)، ولا جدال في كون الفكر السياسي الحديث يضطلع بدور أساس في انتقال المعارف، وتشكُّل حقولٍ معرفيّة جديدة، وهناك عدة أسئلة رئيسة يهتم بها الفكر السياسي، ويجتهد المهتمون في الإجابة عنها، واقتراح أفضل نموذج للنظام السياسي، والمجتمع المثالي، ومن بين هذه الأسئلة: من له حق السلطة في الدولة أو النظام السياسي؟ وما هو دور السلطة المدنية في المجتمع البشري ؟ وما هو أحسن نظام للسلطة الحكومية،وأين يجب أن تتمركز السلطة؟ وما هو أفضل نموذج للحكومة؟ وما هي طبيعة الإنسان فطرياً وكيف يجب أن تكون معاملاته مع أخيه الإنسان في المجتمع المتمدن(2)؟
ومما لا يخامره أدنى شك أن الظاهرة الانقلابية في إفريقيا تحتاج إلى المساءلة، والمدارسة، والتفسير، ومن بين الكُتب المتميّزة، والدراسات الجادة التي سعت إلى تفسير الظاهرة العسكرية في إفريقيا بعُمق؛ كتاب: «الظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء»لمولود حمروش؛ الذي لم يحظ بعناية فائقة من لدن العديد من الباحثين والدارسين، على الرغم من أنه يُمثل مساهمة بحثية عميقة في تحليل إشكاليات عديدة تتصل بقضايا شائكة ذات صلة وشيجة بالظاهرة العسكرية في إفريقيا، وانطلاقاً من الوصف الذي قدمه المؤلف لدراسته؛ فهي تأخذ بالبحث والتنقيب عن الأسباب والظروف التي عملت على صعود العسكريين الأفارقة إلى الحلبة السياسية، وجعلتهم يتربعون على كرسي الحكم، كما أنها في الآن ذاته محاولة لإلقاء الضوء على العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية التي جعلت من الأنظمة السياسية الإفريقية أنظمة ضعيفة ومعرضة للإطاحة بها من طرف العسكريين، ويُحدد مولود حمروش الهدف من دراسته في«إبراز الخفايا السياسية والاجتماعية للظاهرة العسكرية التي برزت بدول إفريقيا السوداء، وبصفة خاصة في الدول الحديثة العهد بالاستقلال، وقد وقع الاختيار على الدول الإفريقيّة الواقعة جنوب الصحراء؛ وذلك بسبب الظروف الاجتماعية المُتشابهة والأحداث السياسية المتكررة التي وقعت بها»(3).
قدم مولود حمروش في الفصل الأول من الكتاب لمحة تاريخية عن المؤسسة العسكرية الإفريقية، وقد خرج بنتيجة واضحة؛ وهي أن الجيوش الإفريقية بصفة عامة تعتبر وحدات عسكرية موروثة قلباً وقالباً عن الاستعمار، ما عدا جيوش الجزائر والموزنبيق وغينيا-بيساو وأنغولا؛ التي بها جيوش وطنية مهدت لبروزها الثورات الوطنية المُسلحة بهذه البلدان الأربعة، وقد كانت في جوهرها نواة للانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال الأجنبي المُسلط عليها، كما تحدث مولود حمروش في هذا الفصل عن تجنيد الأفارقة لخدمة النظام الاستعماري، ومن أبرز القضايا التي توقف معها في الفصل الثاني من الكتاب؛ دوافع تكوين الجيوش الوطنية الإفريقية، حيث يذهب إلى أن هناك جملة من الأحداث الحاسمة التي أترث في رؤساء عدد من الدول الإفريقية، ودفعت بهم إلى اتخاذ مجموعة من القرارات المستعجلة بغرض إيجاد جيوش وطنية، وقد كانت هذه الأسباب خارجية أكثر منها داخلية، ومن أبرز تلك الأحداث المهمة؛ أزمة الزائير وتدخل الأمم المتحدة بقوات عسكرية لحفظ الأمن وحماية الوحدة الوطنية من الانهيار؛ وذلك في أعقاب تفكك وحدات قوات الأمن العمومية التي تركها البلجيكيون، وظهور الصراعات الجهوية والعرقية، ويُضاف إلى هذا السبب مشاركة بعض الدول الإفريقية في القوات الأممية بوحدات عسكرية موروثة عن الإدارة الاستعمارية؛ وخاصة أنها كانت تحت قيادة ضباط أجانب في بعض الحالات(نيجيريا وغانا)، وقد خلقت هذه المشاركة حساسيات وترتبت عنها أثار ليس في الداخل فقط، بل وفي الدول المجاورة أيضاً، كما اضطرت الحكومات الإفريقية، وتحت ضغط من الدول الاستعمارية في كثير من الحالات، إلى استيعاب الوحدات العسكرية المتروكة، والمتكوّنة من جحافل الجنود الأفارقة المسرحين من الجيش الاستعماري؛ وذلك بسبب التهديد بقطع المساعدات المالية والعسكرية، ويضاف إلى هذا الأمر وجود تخوف منهم، وقد كان لظهور معضلات ومشاكل وأزمات الحدود الإقليمية للدول الإفريقية الحديثة العهد بالاستقلال أهمية في تشكيل الجيوش الوطنية الإفريقية، كما أثرت الانشقاقات العرقية والجهوية التي هددت وحدة هذه الدول، وأفقدت الحكومات والأنظمة السياسية القائمة السيطرة على الوضع بالبلاد في تكوين جيوش وطنية إفريقية؛ حيث إن الحكومات الإفريقية اضطرت إلى استخدام وحدات عسكرية لحماية الأرواح والأموال والقضاء على التمردات وحفظ الوحدة الوطنية؛ وبذلك فقد تبدت مزايا إنشاء جيوش وطنية فاعلة في الميدان.
وقد حلل مولود حمروش بعمق ودقة وإسهاب أسباب صعود الجيوش الإفريقية إلى الحلبة السياسية؛ إذ يعتقد أن ضعف البنيات الاجتماعية والسياسية بإفريقيا قد جعل من التدخل العسكري وانغماس مجموعة الضباط في الحياة السياسية ليس فقط شيئاً مُمكناً ومقبولاً، ولكن محبذاً أيضاً من طرف المجتمعات الإفريقية نفسها؛ ومن هنا يكون ظهور الجيش على المسرح السياسي استجابة للصعوبات التي واجهت وما زالت تُواجه هذه المجتمعات وقياداتها في طريق تحقيق الوحدة الاجتماعية والوطنية والدفاع عن المشروع الوطني، وقد ربط بين انهيار البنية الاجتماعية والسياسية وبروز الظاهرة العسكرية؛ حيث يقول عن هذا الأمر: «ليست هناك ظاهرة عسكرية فريدة ومستقلة عن الظواهر الاجتماعية الأخرى حتى يُمكن دراستها وتحليلها بعيداً عن باقي المشكلات والتناقضات الاجتماعية الأخرى وتأثيرها؛ فظواهر المجتمعات الإفريقية الاقتصادية والثقافية، وكذلك مجموع بنياتها مبنية كلها أساساً على التناقض الصارخ والحاد، ويتضح هذا التناقض من خلال الفجوة العريضة التي تفصل بين الفئة المتعلمة والفئة الجاهلة، وفي الفوارق الكبيرة بين سكان المدن وسكان الأرياف، وفي التعارض الحاد القائم بين التطوريين والتقليديين، وأخيراً في انقطاع حلقات الاتصال بين الحاكمين والمحكومين لتوصيل الطلبات واستيعاب القرارات السياسية»(4).
ولم يُغفل مولود حمروش الحديث عن العنف الاجتماعي المسلح الذي يدفع بالجيش إلى تصدر الأحداث؛ وقد رأى أن العجز عن استحداث أنماط جديدة من الروابط والعلاقات الاجتماعية وتأسيس تنظيمات متطورة، قد أدى إلى منع حدوث أي تغيير أو تطور على المستوى السياسي، وذلك على الرغم من أن التغيرات التي وقعت في المجالين الاجتماعي والاقتصادي؛ قد حطمت أو زعزعت على الأقل، العلاقات والارتباطات التي كانت تشد الأفراد إلى المنظمات الاجتماعية القديمة، وأوجدت بذلك الظروف الموضوعية المواتية لإعادة قولبة المجتمع على أسس عصرية.
***
د.محمد سيف الإسلام بوفلاقة
كلية الآداب، جامعة عنابة، الجزائر
.....................
الهوامش:
(1) عبد السلام علي نوير: الاتجاهات المُعاصرة في دراسة الثقافة السياسية، مجلة عالم الفكر؛ مجلة دورية مُحكَّمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، العدد:01، المجلد:40، يوليو-سبتمبر2011م،ص:7-8.
(2) فايز صالح أبو جابر: الفِكرُ السّياسيّ الحديث، منشورات دار الجيل،بيروت،لبنان، ومكتب المحتسب،عمّان،الأردن،1405هـ/1985م،ص:14.
(3) مولود حمروش: الظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء، منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع،الجزائر، 1981م،ص:01.
(4) مولود حمروش: الظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء، ص:67.