قراءة في كتاب
لغز العقل.. قراءة في كتاب جديد
طبقا للصحفي مينكين H.L.Mencken، كل مشكلة معقدة لها حل واضح وبسيط وخاطئ. كتاب لغز العقل: نظرية جديدة للفهم الانساني للكاتبين عالِم الادراك هوغو مرسير ودان سبيربر خُصص لإختبار مثل هذه المشكلة وحلها. المشكلة في السؤال هي، لماذا يطورالكائن البشري القدرة على التفكير؟ الحل، الذي دافع عنه الفلاسفة طوال التاريخ ومعظم علماء النفس اليوم هو، ان "العقل تبدو له وظيفة واضحة وهي لمساعدة الافراد في انجاز أكبر قدر من المعرفة واتخاذ قرارات جيدة بأنفسهم" (ص175).
الهدف من كتاب لغز العقل هو لبيان لماذا يفشل هذا الحل، ولماذا يكون توضيح بديل آخر هو الأفضل. اذاً ما هو الشيء الخطأ في الفكرة التقليدية بأن "مهمة التفكير هي لمساعدة الافراد في انجاز معرفة اكبر وعمل قرارات جيدة" (ص4)؟ في الحقيقة، نشير هنا لشيئين هامين. الأول هو ان التوضيح التقليدي يجعل العقل قوة عظمى دارونية حقيقية، ومكافأة واضحة لكل حيوان يعيش في أي بيئة. انه ليس كالقدرة على تحديد الموقع باستخدام الصدى، والتي هي قدرة مفيدة فقط للحيوانات التي تعيش في بيئة قليلة الضوء كالخفافيش، ولكن بمزيد من الرؤية، التي تطورت بشكل مستقل والتي هي مفيدة في نطاق واسع من البيئات. لماذا اذا،لم يطوّر أي حيوان آخر قدرة على التفكير بنفس المستوى؟ لماذا تطورت هذه القدرة المفيدة فقط مرة واحدة؟ "ان فهم لماذا عدد محدود من الكائنات فقط لديها قدرة تحديد المواقع بالصدى أمر سهل". يكتب الكاتبان ان "فهم لماذا الانسان فقط لديه عقل هو مسألة أكثر صعوبة" (ص2). الصعوبة الثانية هي انه اذا كان الانسان طوّر قدرة على التفكير لكي يساعد نفسه بشكل أفضل في عمل القرارات، فلماذا لا نعمل قرارات جيدة؟ الدراسات السايكولوجية الواحدة بعد الاخرى أظهرت ما يعرفه معظمنا من التجربة: ان "عقل الانسان هو متحيز وكسول ايضا. متحيز لأنه يجد دائما تبريرات وحجج تدعم وجهة نظره، وكسول لأن العقل يعمل القليل من الجهد في تقييم نوعية التبريرات والحجج التي ينتجها" (ص9). الكاتبان يستنتجان ان "العقل كما فُهم هو لغز مزدوج. هو ليس آلية ذهنية عادية وانما هو قوة عظمى ادراكية وهبها التطور فقط لنا كبشر. واذا لم يكن لغزا كافيا، فان هذه القوة العظمى ستبدو معيبة باستمراريتها في تضليل الناس. هل حقا العقل، هو القوة العظمى المعيبة.؟"(ص4). ان الهدف من كتاب لغز العقل هو لتطوير "فهم علمي جديد للعقل، يمكن فيه حل اللغز المزدوج". الكاتبان يسعيان لبيان ان العقل، "بعيدا عن كونه اضافة ادراكية غريبة، هو قوة عظمى وُهبت للانسان بفعل شذوذ تطوري غير محتمل، تنسجم تماما بشكل طبيعي مع القدرات الادراكية الاخرى للانسان، وبالرغم من الدليل الظاهر المضاد لذلك، فهي تكيفت جيدا مع وظيفتها الحقيقية" (ص5). لذا هما يأملان توضيح لماذا الانسان فقط طور قدرة التفكير، وماذا يعمل العقل بالضبط لنا.
ما هو العقل حقا؟
لكي يقوم الكاتبان بهذا هما اولا يجب ان يعرّفا ما هو العقل بالضبط. طبقا للكاتبين، العقل يجب اعتباره كـ "عنصر واحد للاستدلال من بين العديد من العناصر" (ص328).
كل الحيوانات تستفيد من الاستدلال، الذي يُعرّف كـ "استخلاص معلومات جديدة من معلومات متوفرة سلفا" (ص53). حين يرى او يشم الحيوان النباتي،مثلا، نوعا من النبات، ويستنتج ان النبتة نوع من الطعام او سم، فهو يمارس الاستدلال. الحيوان الذي لا يستطيع الاستدلال ستكون حياته قصيرة جدا.
هذا لا يعني ان البقرة ترى العشب وتظن مع نفسها، "انها تستطيع تناول ذلك العشب". معظم الاستدلال الذي يتم بواسطة الحيوانات هو غير واعي. في الحقيقة، الاستدلال الواعي هو الاستثناء وليس القاعدة. ولكن بين الوعي الكامل والاستدلال اللاواعي بالكامل تكمن منطقة رمادية هامة، يقع ضمنها الحدس. فمن جهة، "محتوى الحدس هو واعي". ولكن من جهة اخرى، "المرء لديه القليل من المعرفة او لا معرفة بأسباب الحدس، ولكن من المسلم به وجود أسباب جيدة بما يكفي لتبرير الحدس، على الأقل بمقدار معين" (ص66). بكلمة اخرى، البداهة تخبرك لتؤمن بشيء – انها عادة تخبرك به بثقة تامة حتى عندما تكون مخطئة – لكنها لاتخبرك لماذا انت يجب ان تعتقد بها. الكاتبان يصفان البداهة كـ "جبل جليد ذهني: نحن ربما نرى فقط القمة لكننا نعرف ان تحت السطح هناك الكثير منها، والتي لا نراها" (ص7).
العقل عادة يتعارض مع البداهة، حيث يُعتقد انهما مختلفان جوهريا – وحتى متضادان – بطبيعتهما. هذا خطأ كما يرى الكاتبان، لأن العقل هو في الحقيقة شكل متخصص من البداهة: "العقل"، كما يكتبان،"هو آلية للاستدلال البديهي حول نوع من التمثيلات، أي الأسباب" (ص7). العقل يعطيك حدسا بأن (س) سبب للاعتقاد بـ (ص). انه لا يعطيك سببا لماذا (س) سبب للاعتقاد بـ (ص). وتفكير آخر، بالطبع، قد يُظهر هكذا سبب، لكن اذا ظهر فعلا،فان ذلك السبب الآخر سيكون هو ذاته حدسا.
يرى الكاتبان اذا كنا لا نستطيع الاعتماد على بداهتنا حول الأسباب، يجب ان يكون لدينا سبب (ج) للاعتقاد ان (س) هو سبب لـ (ص)، ومن ثم سبب (ق) للاعتقاد ان (ج) هو سبب للاعتقاد ان (س) سبب لـ (ص)، وهكذا الى الأبد. وكما يلاحظ الكاتبان، هذه مفارقة استكشفها ليوس كارول Lewis Carroll في ورقة ساخرة بعنوان "ماذا قالت السلحفاة الى أخيل" (ص131-132). يرى الكاتبان ان "التفكير ليس بديلا للاستدلال البديهي، التفكير هو استعمال الاستدلال البديهي حول الأسباب" (ص133). لذا السؤال يصبح، لماذا الانسان وليس أي مخلوق آخر يطور هذه المقدرة؟
مجتمع العقل الانساني
كما لاحظنا، الجواب على سؤال لماذا يطور الانسان مقدرة على التفكير لا يمكن ان يكون لأن العقل يساعد الافراد في طرح استدلال أفضل. لأنه اذا كان الامر هكذا، نحن سوف نكون جميعا أفضل به الآن. بدلا من ذلك، "العقول هي بالأساس للاستهلاك الاجتماعي" (ص127). اي، ان العقول، طبقا للكاتبين تخدم وظيفتين اجتماعيتين رئيسيتين – وظيفة تبريرية justificatory function ووظيفة جدالية argumentative function. الوظيفة التبريرية تبرز لأننا دائما نهتم بما يفكر به الآخرون عنا. اذا كان الآخرون يثقون بنا ويتعاونون معنا، فانهم يحتاجون معرفة لماذا نحن نقوم بما نقوم به. التفكير الواعي يجعل بالإمكان ان نوضح انفسنا للآخرين وتقييم التوضيحات التي يعطيها الآخرون لنا حول سلوكهم . وكما يقول الكاتبان، "إعطاء اسباب لتبرير المرء والوصول للأسباب التي يعطيها الآخرون هي اولا وقبل كل شيء طريقة لبناء السمعة ولتنسيق وترتيب التوقعات" (ص143).
وظيفة المحاججة تُعتبر هامة لأننا نهتم بما يعتقد ويعمل به الآخرون. نحن عادة نحب ان يعملوا اشياءً نريدها، او يشتركون بعقيدة معنا، لكنهم ربما لايميلون للقيام بهذا. لذلك فان المحاججة تساعدنا لنكون قادرين لإعطاء الناس اسبابا لماذا هم يجب عليهم الموافقة معنا. والعقل ايضا يساعد الناس في تقييم الاسباب التي تُعطى لهم، والاّ، سنكون اداة طيّعة في أيدي أي سارق محترف. ولهذا، التفكير الواعي له "وظيفة محاججة مزدوجة: للمتصل، التفكير الواعي وسيلة لإنتاج حجج لكي يقنع جمهورا يقظا، وللجمهور، يكون التفكير الواعي وسيلة لتقييم هذه الحجج وقبولها عندما تكون جيدة او رفضها عندما تكون سيئة" (ص288).
لذلك، يرى الكاتبان، ان العقل هو "اولا وقبل كل شيء كفاءة اجتماعية" (ص11): "نحن نطرح اسبابا لكي نبرر افكارنا وأفعالنا للآخرين ولإنتاج حجج لإقناع الآخرين ليفكروا ويعملوا كما نقترح. نحن ايضا نستعمل العقل لا لتقييم افكارنا بقدر ما هو تقييم الأسباب التي ينتجها الآخرون لتبرير أنفسهم او لإقناعنا" (ص7). هذه النظرية، طبقا للكاتبين، توضح تماما الطبيعة الغامضة المزدوجة للعقل. لماذا الانسان وليس المخلوقات الاخرى تطور مقدرة على التفكير؟ ذلك لأننا حقا اجتماعيين بشكل استثنائي. لا مخلوق آخر منشغل في مستوى التنسيق الاجتماعي المعقد الذي كان يمارسه الجنس الانساني منذ ايامه الاولى. هما يوضحان "العقل هو تكيّف لـ المكانة المفرطة اجتماعيا التي بناها الانسان لنفسه"، (ص33).
النظرية ايضا تخبرنا لماذا أثبت الكائن البشري المنعزل انه سيء جدا في التفكير الواعي: لنفس السبب حين أثبت الناس انهم سيئون في التنفس تحت الماء. "في اتجاهنا التفاعلي، الظروف الطبيعية لإستعمال التفكير هي اجتماعية، وبتحديد اكثر هي حوارية. خارج هذه البيئة، لا ضمان هناك بان التفكير يعمل لمصلحة صاحب التفكير الواعي، وهذا لا يعني ان التفكير معيب، ببساطة انه اُخذ خارج ظروفه الطبيعية" (ص247). الناس عادة يكونون بارعين جدا في استدعاء بعضهم لتقديم حجج سيئة والانخراط في تفكير كسول. في الحقيقة، المجموعة العلمية طورت هذه الممارسة الاجتماعية لمستوى عال: انها هي التي جعلت بإمكان تلك الجماعة الحصول على المعرفة الرائعة. اذا لم يطلب الناس منهم توضيحا عندما يخطئون، فانه حتى أرقى الأذهان العلمية قد تذهب في أوهام مؤلمة . كان لينوس بولنك Linus Pauling وهو الشخص الوحيد الذي ربح جائزتي نوبل، لديه قناعة غريبة بان فيتامين C قد يمنع السرطان – وهو الايمان الذي لم يتخل عنه حتى بعد تشخيصه بالسرطان (ص205-207).
هناك الكثير مما يقال حول كتاب غموض العقل، انه كتاب ثري ومعقد لدرجة انه جمع عددا كبيرا من الأدلة العلمية والفلسفية، في الختام سنشير لملاحظة فلسفية . الكاتبان يقولان ان أول فيلسوف غربي عظيم، فهم الطبيعة الاجتماعية للجدال جيدا هو سقراط، وبالنسبة للفلاسفة المبكرين مثل افلاطون، "يمكن النظر الى التفكير السقراطي كتفكير بامتياز" (ص197). مع ارسطو اتخذت الفلسفة اتجاها مختلفا وفر صورة جديدة للمفكر المنطقي الشائع: "بدلا من محاولة سقراط إقناع محاوره والمحاور يفهم قوة الجدال السقراطي، نموذج التفكير الواعي جسّد تفكير العالمِ المستقل للوصول لفهم افضل للعالم" (ص198). لذا اذا اريد الايمان بصحة رؤية الكاتبين، ولو اردنا ان نفهم العقل بشكل صحيح، سنحتاج لنكون سقراطيين أكثر مما نكون ارسطيين.
كتاب لغز العقل: نظرية جديدة للفهم الانساني، للكاتبين Dan Sperber وHugo Mercier صدر عن دار Allen Lane عام 2017 في 416 صفحة.
***
حاتم حميد محسن