قضايا
محمـــد سيـــف: أعَلى قيد الحياة أنت أم على قيد الحلم؟!
سؤالٌ لا يشبه ما سواه، خصوصا حين يتزامن طرحه مع نهاية العام، رغم أن البدايات ليست مرهونةً بباكورة الأعوام، إذْ يمكن أن تتخيّر أي لحظة لتنطلق منها نحو وجهتك الجديدة، ولكن بواكير السنوات تمنحنا نوعًا من التهيّؤ النفسي لبدايات مختلفة، وعَوْدًا على بَدْء، فسؤال: أَعلى قيد الحياة أنت أم على قيد الحلم؟! يوقفنا على حقيقة مُرّة، وهي أن مرور الأيام علينا ونحن بالكاد نتنفس ونتعاطى على وجه الاعتياد مع موائدنا وأَسِرّتنا لا يعني بالضرورة أننا نعيش، فهذا لا يعدو أن يكون شبه حياة ندفن تحتها احتمالات لا نهائية من فرص الازدهار، إلا إن قصدنا بمفهوم العيش معناه البيولوجي لا غير.
ودعوني هُنا أستدعي تصنيفًا ثنائيًا للناس، وإن كنتُ أُكِنُّ خصومةً شخصية شرسة ضد التقسيمات الثنائية، إذْ إن منطق إما أبيض وإما أسود(Black-and-White Perspective) يمجُّه التنوع الذي يكتظ به الواقع، ولكن من باب تقريب الفهم خطوةً أُولى؛ بُغْية التمهيد، فيمكن القول إنّ البشر ينضوون تحت إحدى مظلتين واسعتين، فريق يكون يومُه مكررا لأمسِه، وغدُه تكرارًا ليومه، ليس على صعيد الإنجاز، وإنما على مستوى الاحتياجات البيولوجية من أكل وشرب ونوم وما يتخلّل ذلك من روتين يومي باهت يكفل له احتياجاته تلك كالوظيفة، يفعل ذلك عن رضى وقناعة تامّين، وهكذا تمر عليه السنون سنةً تِلْو الأخرى ولا يتقدم قِيْد أُنْمُلة، ولا يجدّ جديد في حياته، إن صحّ لنا وصف حياته بالحياة!
وفي الضفّة المقابلة نجد الفريق الآخر، الذي وإن كان لا ينكر ضرورة توفير أساسيات الحياة المذكورة آنفًا، لكنه لا يستغرق عمره فيها، ولا يجعلها شغله الشاغل، بل يضيف عليها طبقة أخرى من الحياة، أعمق مستوى وأكثر كثافة، كتلةً من الطموحات والأحلام والأهداف والسعي الحثيث، مركزُها إرادة صارمة تمنحنا تفسيرا وجيها ونبيلا عن: لماذا تطور الإنسان بخلاف السلالات الحيوانية الأخرى، إنه - بإيجاز - يُضفي على حياته معنى! ويمنحها بُعدًا لا يستوعبه كثيرٌ من بني جنسه.
مقالي لا يتطرق - بطبيعة الحال - إلى الفريق الأول، ففي النهاية من حق كل أحد أن يعيش حياته كما يشاء وبالمقاس الذي يلائمه، فَلِعَيش الحياة طرائقُ قِدَدٌ، كما أنّي لا أتحدث عن الفريق الثاني، وماذا عساني أن أتحدث عن فريق رسم لنفسه لوحة حياة متسامية، تتجلى فيها أسنى مستويات الإنسانية؟ وإنما أودّ الإشارة إلى فريق يؤمن بمسار الفريق الثاني، إلا أنّه ما زال حتى اللحظة مسحوقًا تحت أسلوب حياة الفريق الأول!
هذه الظاهرة التي يمتطي أصحابُها صهوة جياد يأنفون منها، ويتخذون شكل حياةٍ لا يشبههم، لها دوافعها بلا ريب، ولعل عامل الخوف يأتي في صدارة القائمة، الخوف في أشكاله كافة، الخوف من مغادرة منطقة الراحة، والخوف الاجتماعي، والخوف من عدم القدرة، والخوف من العواقب الوخيمة المحتملة، والخوف من الخسارة، أكانت مادةً أم علاقات أم أدوارا اجتماعية أم مصالح شخصية.
تناولُ الخوف عملية معقدة، ولست أبالغ إن ادّعيت أنه حاضر في جميع مشاهد حياتنا، كما أن المنسوب المعقول منه هو مطلب صحي - مع اعترافي التام بأنّ وصف (المعقول) نسبي لا يمكن قياسه على وجه الدقة - إلا أن الإفراط فيه حدّ الهَوَس يفوّت علينا حَيَوات كثيرة للغاية.
الخوف في عمقه هو مجرد وَهْم لا وجود له إلا في أدمغتنا - وميكروبات أمعائنا كذلك (Gut Microbiome)، وهذا ربما أُفْرِدُ له مناسبة أخرى للإطناب في الحديث عن دماغنا الثاني! - هذا الوهم هو سيناريو مستقبلي ألّفنا حبكته - من هواجس غير واقعية غالبًا - ثم آمنّا به، وأخذنا نجترّه ليل نهار، حتى أصبح في نظرنا حقيقة خرجت من رحم الواقع لا مِراءَ فيها.
ثمّة حكمة بليغة في القصة المشهورة للرجل الذي تأمّل مشهد كلب يحاول الارتواء من بركة ماء وكلما هَمّ بالشرب رأى انعكاس صورته، فإذا به يتراجع؛ فَرَقًا مما يراه، وظل على هذه الحال حتى قرر أن يرتمي في الماء، فشرب حتى ارتوى، مكتشفا أن ذلك التردد في المرات السابقة لم يكن سوى تضييع وقت كاد أن يهلكه، هنا أدرك الرجل درسا عظيمًا مُؤدّاه أنّ أنجَعَ معالجة للخوف هو أن نرتمي فيما نخاف منه، وما إنْ يحدث ذلك حتى يتلاشى الخوف بلا رجعة.
أرجو ألّا يُفهم من طرحي أنني أدعو إلى المجازفات غير المسؤولة وغير محسوبة العواقب بدعوى الشجاعة، فهذه ونظيراتها كثيرا ما تؤول إلى نهاية قاسية كقضبان السجن أو أن يلقى المرء حتفه أو سقوط مُدَوٍ لا نهوض بعده ونقطة سوداء لا رجعة بعدها.
ما أريد لفت النظر إليه هو ضرورة اتخاذ خطوة الإقدام بإرادة ذاتية جادّة، ثم دراسة حيثيات الاختيار بالتحليل الفردي أو استشارة المتخصصين، وما يلزم من سبل الحيطة والحذر؛ لأن الكفّ عن الفعل بداعي خوف غير مبرَّر هو من أشنع الجرائم التي نرتكبها بحق حياتنا، ولستٍ بمُغالٍ إن ادّعيت أن خلف أغلب الحيوات الباهتة رغم إدراك أصحابها بأنهم يتخذون مسارات مغلوطة في نمط حياتهم، إنما يكون الخوف هو المتهم الأول في سبب ذلك! وعادة ما يكون مصحوبا بتبريرات باردة لا أساسَ متينًا لها.
ولتكامُلِ الفهم خليقٌ بي أن أشير إلى أنه لا خطوة للإمام بلا تضحية، وهذا ما يجب أن نتوقعه ونوطّن أنفسنا عليه قبل أي مغامرة نَلِجُ إليها وتمخُر سفنُنا عُبابها، ومع ذلك فإنه يمكن أن نختزل التضحية في جوهرها في التضحية بكل ما له علاقة بنسختنا الذاتية الراهنة التي لم تعد تشبهنا ولا تليق بنا بعد الآن! ولكن نسختنا الذاتية التي نريد أن نكونها تستحق هذه التضحية، فنحن المضحِّي والمضحَّى به!
إنّ الصراخ المحموم الذي يجثم على صدور أولئك الذين يعيشون حياة غير التي يريدونها، هو صراخ داخلي ينهشهم ببطء بلا هَوادَة، فليس ثمّة ما هو أكثر إيلامًا من أن نجد أنفسنا على مسرح الحياة نؤدي أدوارًا ليست لنا ولا تشبه أعماقنا ولا تمتّ إلينا بأي صِلَة، ولكن الحقيقة القاسية هي أن هذه الشريحة من المجتمع ذواتُهم هي العائق الأول وراء تجرّعهم هذه المعاناة!
ما الخوف سوى مشاعر تولّدها أفكارٌ نسجناها بحُرّ أيدينا، وتعززها هرمونات كالأدرينالين لتتفاعل معها أجسامنا، وهذه المشاعر بدورها تعزز أفكار الخوف، وهكذا في عملية تضخيمية دائرية، وقطع هذه الحلقة المكررة يكون بإجراء تعديلات على تصوّرنا وتَمثُّلنا لجانب ما من حياتنا الذي تَمَلّكنا الخوف إزاءَه، ثم تتكفّل أدمغتنا بالباقي! وهذا يتطلب وعيًا بكيفية إعادة تأطير المشهد (Labeling) فالعقبة تغدو فُرصة والخوف يصبح فضولا، ليس لأنه كذلك؛ وإنما لأنّنا عمدنا إلى بؤرة التركيز وقمنا بإزاحة واعية، إزاحة إلى ما يكون في صفّنا، ويصبّ في مصلحتنا.
فالمهارة التي تثير فينا خوفا اجتماعيا، تصبح مصدر دخل كبير، والعلاقة التي نخشى التورّط فيها تستحيلُ طوق نجاة لاستقرار نفسي استثنائي، والمشروع الذي يُحْدث فينا رهبةً قد يلفت انتباهنا لنقطة ضعف فينا يجب أن نوليها اهتمامنا بدل الاستسلام لمشاعر الخوف، والقرار المحوري الذي نهلع من بذل التضحيات الهائلة التي تتضافر حوله، قد يكون منعطفا لحياة رحبة لا تتسع لما نضحي به، إذْ تكون البدائل ألصق بما يليق بنا، وعلى قدر الإقدام يعظُم ما ننالُه من مَرام.
ليس مهما - ما دمتَ تشعر بالرضى - أن تكون على قيد الحياة أم على قيد الحلم، ولكن من المهم بمكان ألا تكون على قيد الحياة، وصدرك مكبوتٌ فيه ألفُ حُلم!
***
محمـــد سيـــف






