قضايا

حاتم حميد محسن: لماذا هرب ارسطو من أثينا بدلا من المواجهة؟

اُجبر ارسطو على الفرار من أثينا عندما اندلعت موجة من المشاعر المعادية لمقدونيا. بعد موت الاسكندر الأكبر عام 323ق.م، اكتسحت أثينا مشاعر ضد المقدونيين مما دفع ارسطو لمغادرة المدينة حفاظا على سلامته. كان فيليب الثاني ملك مقدونيا طلب من ارسطو تدريس ابنه الشاب الاسكندر في مدينة ميزا Mieza قرب بيلا Pella في مملكة مقدونيا اليونانية القديمة. وُلد ارسطو عام 384ق.م في ستاجيرا stagira شمال اليونان والتي كانت تحت سيطرة فيليب الثاني في مقدونيا عام 348ق.م. حالا ذاعت شهرة ارسطو اللامع في العالم اليوناني وبرز في النهاية كواحد من أشهر مفكري الفلسفة الغربية. في عمر 17 سنة التحق ارسطو بأكاديمية افلاطون حيث تلقّى التعليم على يد افلاطون في الاخلاق والعلوم والطب وحقول أخرى. مكث في أثينا لمدة عشرين سنة الى ان دُعي من جانب فيليب الثاني لتدريس ابنه الشاب الاسكندر عام 343ق.م

وبعد ان اصبح الاسكندر ملكا، عاد ارسطو الى أثينا واسس مدرسته (ليسيوم)Lyceumعام 335ق.م تحت حماية السلطة المقدونية التي سيطرت على اليونان بعد انتصار فيليب الثاني.

مدرسة الليسيوم وموت الاسكندر الأكبر

 لأكثر من عقد، درّس ارسطو وكتب وأشرف على البحوث في الليسيوم. طريقته المشائية في التدريس نالت شهرة في التحقيق التجريبي، حيث جمع ارسطو من حوله طلابا شاركوه شغفه في الدراسة المنهجية. كتب ارسطو مرة "جذور التعليم مرّة لكن الثمار حلوة" وهو الخط الذي يصف الانضباط المطلوب في الليسيوم.

لكن على الرغم من ان ارسطو يفضل الحياة المخصصة للتأمل، كانت الاحداث تضغط خارج المدرسة. حضوره في أثينا كما بالنسبة لغيرة من الشخصيات المرتبطة بمقدونيا، جرى التسامح معه فقط لطالما بقيت مقدونيا في الحكم. في عام 323ق.م منح الموت المفاجئ للإسكندر الأكبر في بابل أثينا الفرصة للثورة ضد سيطرة مقدونيا. وبين عشية وضحاها تحول المناخ السياسي نحو الشك والغضب والقصاص تجاه أولئك الذين اعتُبروا متعاونين او متعاطفين مع المقدونيين. ارسطو لم يكن استثناءً من هذه الكراهية.

وُجّه الى ارسطو اتّهام بالكفر في صدى للاتهامات التي وُجهت لسقراط قبل ثمانين عاما. التهمة برزت جزئيا من ارتباط ارسطو بمملكة مقدونيا ومن آرائه الفلسفية التي لا تتماشى دائما مع المشاعر الدينية التقليدية في أثينا. هو كتب ترنيمة في تمجيد صديقه هيرميناس الاتارنيوسي، وان بعض الأثنيين فسروا هذه الإشارة كرفع لشأن انسان الى مرتبة الالوهية مما يدعم مزاعم الكفر.

الدوافع السياسية

ان تلك الاتهامات الرسمية كانت تخفي تحتها استياءً سياسيا عميقا. المؤرخ تارن w.w Tarn لاحظ بانه"في أوقات الحماس الأهلي، كانت التقوى الاثنية سلاحا للانتقام السياسي"، وهي الحقيقة التي ادركها ارسطو جيدا. المؤرخ ديوجين لايرتيوس Diogenes Laertius كتب: "ارسطو اتُهم بالكفر من جانب الكاهن الأكبر يوريميدون" او، طبقا للفيلسوف الروماني فافورينوس " لم يغب عن بال ارسطو ان أثينا في أوقات الاضطراب السياسي توجّه قلقها نحو الفلاسفة". المؤرخ ديوجين لايرتيوس ذكر ان ارسطو أشار بعد توجيه الاتهام له "انه لا يسمح للمدينة ان تسيء للفلسفة مرة ثانية". هذا الخط سواء تحدّث به ارسطو شخصيا ام جرى تفسيره من المفسرين اللاحقين يحمل مزيجا من الاستسلام والتحدي. ارسطو اعترف بالخطر ورفض تكرار مصير سقراط. وكما يلاحظ الكلاسيكي الحديث اديث هول Edith Hall لم تكن لدى ارسطو الرغبة في تقديم أثينا شهيدا آخر، هو فضل الحياة واستمرار الدراسة على الموت المبدئي". صيغة أخرى تفسر الهروب من أثينا ترى ان ارسطو غادر لكي يمنع الاثنيين من الوقوع في الذنب تجاه الفلسفة مرتين، وهي ملاحظة تحمل كل من المرارة والوعي التاريخي.

الهروب الى خالكيزا Chalcis

 غادر ارسطو الى مكان ليس بعيدا، حيث قصد مدينة خالكيزا في جزيرة ايبوس Euboes الموطن الأصلي لامه. هناك وجد ملاذا ربما مؤقتا الى ان يستقر الوضع السياسي في أثينا. انسحابه لم يكن كرجل مهزوم وانما قرار مدروس من شخص يقيّم الأفق البعيد للحياة الفكرية مقابل الدراما المباشرة للمواجهات السياسية. "ان حياة الذهن أفضل وألطف" كما كتب مرة، وهي مشاعر توضح خياره بوضوح اكثر من أي حسابات سياسية. سنته الأخيرة في خالكيزا كانت قصيرة. ارسطو توفي هناك عام 322ق.م . بعد سنة من وفاة الاسكندر التي قلبت العالم اليوناني. طلابه استمروا بنفس عمله، واستمرت مدرسته لأجيال كمركز للتعليم . مع ذلك، رحيله من أثينا يبقى رمزا للعلاقات الملتبسة بين الفلسفة والمدينة – وهو التوتر الذي واجهه سقراط مباشرة بينما ارسطو تصرّف بحذر استراتيجي.

آراء العلماء المعاصرين حول هروب ارسطو من أثينا

الفيلسوف جوناثان بارنز Jonathan Barnes يقترح ان ارسطو "يفهم أفضل من أسلافه بان الفلسفة لا تُخدم بالاستشهاد وانما بالبقاء". في هذا التفسير، ارسطو يبرز كبرجماتي، شخص اعترف بان الافكار تعتمد على الناس للحفاظ عليها وان واجب الفيلسوف يتضمن العيش ليعلّم ويراجع ويحفظ المعرفة. علماء اخرون يرون ان رحيله عن أثينا يمثل تحذيرا لهشاشة المؤسسات الفكرية. اليسيوم خلافا لأكاديمية افلاطون كانت مرتبطة بقوة بقيادة ارسطو الشخصية. غيابه أجبر أعضاء المدرسة على التكيف بسرعة، وعلى الرغم من استمرار المدرسة بالبقاء، لكنها شهدت اضطرابا. وكما يذكر المؤرخ بيتر غرين، ان كفاح ارسطو "يكشف مدى هشاشة التحقيق الفلسفي امام رياح السياسة".

الكاتب الحديث مارثا نوسباوم Martha Nussbaum يجادل" الفلسفة تتحدد دائما ببيئتها السياسية، لكنها يجب أيضا ان تقف بعيدا عنها. ارسطو فهم ذلك التوتر وعند الضرورة تنحى جانبا للحفاظ على ما يستطيع". لذلك، فان هروب ارسطو من أثينا هو اكثر من هامش لسيرة ذاتية. انه يوفر نافذة للكيفية التي يبحر بها الفيلسوف في السياسة، كيف تتحمل الأفكار الاضطراب، وكيف يكون البقاء ذاته كفعل فلسفي. في مغادرته أثينا، ارسطو حمى ليس فقط نفسه وانما الميراث الفكري الذي صاغ قرونا من الفكر. مدرسته استمرت، كتاباته نُشرت ووُزعت، وتأثيره امتد بعيدا الى ما وراء المدينة التي وقفت يوما ضده. من خلال الحكمة وليس الموت، هو اطمئن ان "فاكهة" الفلسفة ستبقى متوفرة للأجيال القادمة.

***

حاتم حميد محسن

............................

 *GreekReporter.com. Dec8,2025

في المثقف اليوم