قضايا
عصمت نصار: الكذب في الثقافة الإسلامية وغرابيل الفلسفة النقديّة (6)
يبدو أن نهج جل شيوخ المعتزلة سواء في طرح القضايا ومعالجتها، أو في التناظر والتساجل، والتأليف بين الاستنباط والاستقراء، أو في الآليات العقليّة للتأويل: ذلك النهج الذي كان يهدف للجمع بين التصورات النظريّة والحلول الواقعية في تحليل الرؤى ونقد الآراء، والتخطيط للمستقبل، الذي يمكّن القائمين على الفكر الإسلامي من تبليغ الدعوة، والصمود أمام هجمات المغرضين وإحباط مكائدهم لإطفاء النور الإلهي، وتبديد تماسك الأمة الإسلاميّة والدستور الأقوم والمقصد الذي يكفل الأمن والسعادة للناس كافة والتشكيك في آيات الذكر الحكيم.
نعم نحن في حاجة إلى مراجعة دقيقة وإعادة قراءة لتلك القاعدة العقلانية المفعمة برقة الوجدان ونقاء السرائر والضمائر. فقولهم بضرورة تقديم العقل على النقل عند الخلاف قد أثبت فاعليته في التحسين والتقبيح في ضوء كل المتغيرات الثقافية والزمانية والمكانية والاحتياجات البشرية.
وكذا تأكيدهم على ضرورة تأهيل الدعاة والمثاقفين والمتصاولين والمدافعين عن العقيدة الإسلامية بالمناهج العقليّة التي تبدأ بالجدل إلى نقد النقد، أو قراءة القراءة؛ باعتباره هو السبيل الأمثل لكشف الأكاذيب وتبيان مفاسدها وإظهار الحق وتوضيح خيريته وصدقه وصلاحه على مر الدهور.
كما أن حرصهم على غربلة تصانيف كتاب السيرة وجماع الأحاديث المنسوبة للنبي صلوات الله وسلامه عليه بغرابيل تجمع بين العقل والمنطق من جهة والمقصد الشرعي الوارد في آياته القرآنية من جهة أخرى؛ فقد كان ذلك لحماية النبيّ والذكر الحكيم من الدس، وذلك لفضح إفك المتآمرين الذين استندوا على الأخبار المُلفقة وابتداع البدع وتقسيم الأمة الإسلاميّة لفرق ومذاهب عقدية يبرأ منها الله ورسوله؛ ذلك فضلًا عن اختلاق الأغيار لنحل أو أقوال وأحداث لم يقولها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تحدث من صحابته وغير ذلك من شائعات مضلة تعمد إلى تشكيك المسلم في ثوابته الإيمانية التي تقوده إلى الالحاد والمروق.
ناهيك عن حرص شيوخ المعتزلة على وضع شروط للتفسير والتأويل والاجتهاد وأبرزها: التميز بين الدلالة السياقية للألفاظ في كل آية على حدى، والدلالة النسقية للقضايا المعالجة في كل موضوع، والدلالة القصدية للبنية الرئيسة لمجمل الآيات، التي استنبط منها المقصد الإلهي؛ كما يحسن للمفسرين توضيح المقصود بالصيغ البلاغية والإحالات (الإشارية، الرمزية، والوقائع التاريخية)، مع التأكيد على أن هذه التفاسير مجرد آليات للفهم والاستيعاب تبعًا للثقافة السائدة في كل عصر.
وأخيرًا أن إعلاء شيوخ المعتزلة من قدر المعجز الجواني للقرآن الكريم المتمثل في الحكمة الربانيّة سواء في (التشريع أو التوجيه أو الإخبار) على المعجز اللغوي وبيانه في الإبداع والبديع اللفظي. يرجع إلى أمرين: الأول: أن الاعجاز اللغوي لا يعيه إلا الناطقين بلغة نزوله أي العارفين بأسرار اللغة العربية في حين أن أمة الدعوة لا يمكنها استيعاب ذلك الأمر الذي يقطع بأن اتساق الإعجاز الجواني سوف يظل محفوظًا ومقدرًا من قبل العلماء وأصحاب العقول على مرّ الزمان، وليس أدل على ذلك من إيمان غير الناطقين باللغة العربية؛ بقداسة القرآن رغم جهلهم بإعجازه اللغوي ولم يهدهم إلى الإيمان بالقرآن إلا إعجازه الجواني العقلي البرهاني الواضح في دلالات القرآن المترجمة علمًا بأن أولى الترجمات للألفاظ القرآنية كانت شفهية أجراها الحفاظ من كبار الدعاة إلى اللغة الفارسية في منتصف القرن الثاني الهجري أي نحو 723 م.
أمّا الأمر الثاني؛ فيبدو في القراءات المتواترة لآيات القرآن الكريم التي كادت أن تمكن الطاعنين في الإسلام والمتشككين في سلامة القرآن، وخلوه من التحريف الذي يفضي إلى الريبة بين العوام في مصداقيته وكذلك تمنع المغرضين من تحريف دلالة سياقاته اللغوية، وقد برهنت الواقعات صدق توقع شيوخ المعتزلة.
فعلى الرغم من سلامة عملية تدوين القرآن الكريم في المصحف الشريف إلا أن الأخطاء في قراءته قد تسللت إليه.
ولم يحد من ذلك الخطر إلا قيام أبو الأسود الدؤلي ( 603: 688 م) بتشكيل ألفاظ القرآن الكريم بتوجيه من علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه.
أمّا خطر تعدد القراءات فقد دفع المتأولين والمجدّفين والمجترئين إلى التلاعب بسياقات معاني الكلمات ودلالتها في النسق القرآني.
وحرض غلاة المستشرقين والمتعصبين، والخوارج من المتأسلمين، والمبتدعين من المتشيعين، والمجترئين المحدثين على الترويج لأفكارهم الضالة، وأكاذيبهم المغرضة لإيهام العوام بأن النص القرآني يجب إدراجه ضمن الموروثات التراثية، ومن ثم يجب خضوعه للتأويلات المعاصرة والنظريات المادية والنفعية المنكرة للثوابت.
ولم يحد من هذا الخطر في صدر الدعوة الإسلامية إلا جهود نصر بن عاصم الليثي (ت. ن 708 م) ويحيي بن يعمر (ت. ن 746 م) بتوجيه من الحجاج يوسف الثقفي (ت. ن 714 م)، فوضعهما النقط على الحروف وتوحيد رسم الكلمات. ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت. ن 786 م) وأضاف الشكل المعروف الآن مثل الضمّة والفتحة والكسرة.
وأخيرًا اجتهد أحمد لطفي السيد (1872: 1963 م) في جمع جل الروايات والأحاديث المؤكدة على توقيفية عدد آيات القرآن الكريم وبداية كل آية ونهايتها، ورفع بذلك تقريرًا إلى الملك فاروق في (أكتوبر عام 1933 م) سواء كانت كتابات تراثية متواترة أو أبحاث حديثة موثوق في محرّرها نذكر منها فهرس زيبا الذي وضعه محمود الوارادري (ت. ن 1646 م) في كتابه "ترتيب زيبا" (عام 1644 م) وفهرس سلامة محمد في كتابه "ترتيب نصوص آيات الذكر الحكيم" (عام 1928 م).
وذلك كله لحماية القرآن الكريم من كيد الكائدين وكذب الكاذبين.
ويعني ذلك أن قراءتنا لنهج شيوخ المعتزلة، ولاسيما في دراستهم العقديّة في صدر الدعوة تعد من أهم المباحث الكلامية التي لم تقف عند تنظير والتصورات الخطابية فحسب بل كان لها تطبيقات في معالجة القضايا التي أثيرت بين الفرق الكلامية. وكان لهم أيضًا رؤية مستقبلية في توجيهاتهم لاصطناع آليات حافظة لسلامة القرآن الكريم ما زلنا نجني فضلها في هذا العصر الشاغل بالفتن والأكاذيب.
***
وإذا ما انتقلنا إلى أهم القضايا العقديّة التي ناقشها شيوخ المعتزلة الأوّل ووضعوا لها حلولاً مناسبة تتسم بالعقلانيّة فسوف نوجزها فيما يلي وذلك لأن جميعها يتصل اتصالًا مباشرًا بقضية الكذب وتبعاته في الثقافة الإسلامية، وغرابيل شيوخ المعتزلة النقديّة من جهة، والكشف عن مواقفهم التطبيقية والعملية التي تؤكدها التجربة ويدعمها الاستنباط من جهة ثانية، وتعبر كذلك عن نسقية آرائهم واتساقها وخلوها من الاضطراب والتناقض شأن جل الفرق الكلاميّة الأخرى.
ولعلّ أولى القضايا هي قضية التحسين والتقبيح، إذ يرى شيوخ المعتزلة أن فطرة العقل التي خلقه الله عليها لديها القدرة على التميز بين الحسن والقبيح؛ لأن صفة الجمال أو القبح غير مكتسبة في الأشياء؛ وأن الانسان إذا بدل طبيعتها يصبح كاذبًا أي ليس صادقًا مع ذاته.
واعتقد أن ذلك التصوّر لا يخلو من مسحة إيمانية فقد قال تعالى (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) (سورة الشمس، الآية7).
وجاء في الحديث الصحيح عن الرسول، صلى الله عليه وسلم (الحلال بين والحرام بين).
وعليه؛ نتساءل: كيف اهتدى العقل السليم لوجود الباري وأنه أحق بالعبادة قبل الرسالات؟ وكيف يتعرف العقل على الحسن والقبيح والتميز بين الفجور والتقوى قبل أن يكتسب ذلك من الوحي؟ والمراد من قول المعتزلة أن الشرع متممٌ لحكم العقل على الأشياء؛ فإن كان خيرًا فيؤكده؛ وإن كان شرًا فإن الانسان هو الذي قبحه بأفعاله التي خالف فيها ما فُطر عليه.
ويكشف هذا الرأي عن حقيقة قد ذكرناها سلفًا ألا وهي أن العقل عند المعتزلة لا ينفصل عن الحكمة عند اكتماله، ونقاء السريرة إلا إذا اكتسب القبح من بيئته.
ويتفق رأي المعتزلة مع جل ما انتهى إليه العلماء والفلاسفة ألا وهو أن العقل الإنساني مفطور بقوة تميز بين الخير والشر، وإن كان ميلها إلى الخير أكثر غير أن ما يكتسبه العقل من بيئته له عظيم الأثر على توجيه اختياراته، وأن التربية هي التي تقوم هايتك الاختيارات تبعًا للفكر السائد في بيئة ذلك العقل، وقد بينا أثر ذلك على معظم فلاسفة الإسلام الذين تحدثوا عن النفس العاقلة.
وصفوة القول عند المعتزلة أن فطرة العقل التي خلق الله الانسان عليها هي القادرة على التمييز بين الأشياء حسنها وقبحها، وأن الوحي هو الذي يعين الإنسان على تقويم الهوى أو ميله إلى نقيض الفضائل والمحاسن.
أمّا القضية الثانية فتتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي وظيفة الرسل والأنبياء والمصلحين على أن يكون دستورها عندهم هو الأمر بالمعروف والترغيب فيه بغير كراهة أو منكر. والنهي عن المنكر بتقبيحه بالعلم والتربية والقناعة بالمعروف وعليه يرى كل شيوخ المعتزلة أن الإجبار والعنف وإكراه الناس على فعل الخير أو كف الأذى وارتكاب المعاصي مرفوض عقلًا وشرعًا إلا إذا تجاوز شر المجترئين، فأصاب الأمنين أو تجاوز عصيانهم درجة الفجور الذي لا يردعه نصح أو لين. فالدعوة والحرية عند المعتزلة لهما ضوابط عقليّة وشرعية لا ينبغي الخروج عليها قال تعالى (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (سورة النحل آية ١٢٥)
فالأمر بالمعروف عندهم واجب شرعي وعقلي معًا؛ لأن الخير والصدق والإحسان وغير ذلك من الفضائل هي رسالات على الانسان أن يوصلها لبني جنسه ويذيعها في مجتمعه، وكذا النهي عن المنكر والضرب على يد من ارتكب الآثام والشرور، وعلى رأسها الكذب الذي لا ينبغي على من يطلب الصلاح أن يروج له ولمشتقاته من خيانة وطمس للحقائق؛ فالمنكر هو الجنس الأكبر للكذب (فكل كذب هو منكر وكل منكر هو طمس للحق وهو باب للضلال) مع مراعاة المصلحة والموضوعية في الحكم على القدرة إذا استلزم الأمر استخدام القوة وذلك إذا ما تعرضت الأمة إلى خطر يهدد أمنها ويشتت جمعها.
ويختلف شيوخ المعتزلة في ذلك كل الاختلاف عن الخوارج، قدماء كانوا أو محدثين، أولئك الذين ابتدعوا مفاهيمَ مغايرة للمقاصد العقلية الشرعية، وجعلوا السيف والعنف واستباحة قتل الأغيار والاستيلاء على أموالهم والحط من شأنهم وغير ذلك من شرور لا يمكن أن نصف بها خير أمة أخرجت للناس.
ولا يفوتنا في هذا السياق التأكيد على أن هناك شروط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند كل شيوخ المعتزلة أولها الفطنة، والعلم، والدراية بالحلال والحرام، والقدرة على تقدير الوقائع والواقعات وأثرها على الفرد والمجتمع، وعليه فالأمر والنهي فرض كفاية على العلماء والمصلحين وهو واجب أي فرض عين على الحاكم والقضاة، والخروج عنهم لا يخلو من المخاطر، أمّا الثورة عليهم تشترط القدرة وتأمين الآمنين؛ الأمر الذي يقطع ببطلان حُجة الوهابيين والداعشيين ومبتدعي نظريّة الحاكمية والإخوان المتأسلمين، ومن سلك مسلكهم.
وحريُّ بنا أن نشير كذلك إلى أن شيوخ المعتزلة قد ربطوا بين هذه القضية وقضية الإمامة أو الخلافة أو الفكر السياسي وأمور الحكم، وكذا قضية الحريّة ومرتكب الكبيرة والالزام الأخلاقي والالتزام بالآداب الشرعيّة، فالإنسان العاقل بالمفهوم المعتزلي يستطيع أن يفصل في كل هذه القضايا وتظل وظيفة المصلحين هي التنبيه والإرشاد والتذكرة ما دامت الحريّة لا تتعدى حدودها فتصبح قيودًا للآخرين أو اعتداءً عليهم أو فوضى وعبثية ومجوناً يزدريها العقل ويمُجُّها المجتمع وتهدد العدالة والأمن والاستقرار.
أمّا القضية الأخيرة وهي المنزلة بين المنزلتين (الإيمان، الكفر)، فيمكن إيجازها في ضوء ما أوردناه سلفًا في أن الشر الذي يصاحب الجرم الأخلاقي لا ينبغي التسرع في الحكم على أثره أو القطع في مآله الشرعي في الدنيا والاخرة؛ فالزاني أو السارق هو مُعتدي على حق غيره، وهو كاذب على ضميره، ومعارض ومنكر لصريح المعقول وصحيح المنقول أيضًا، وهو في هذه الحالات أمره إلى الله إن شاء غفر له إذا تاب وأناب أو عذبه، وفق إرادته ورحمته ولطفه. أمّا عن حكمه في المجتمع فهو فاسق إذا لم تثبت عليه شروط العقوبة الشرعية، وهو غير كافر لأنه عاصي لأوامر الله دون إنكار له.
أمّا العاصي الفاجر المستبيح للمحارم، فيعاقبه الله القادر الجبار بعدله.
وليس للحديث بقيّة عن غرابيل النقد عند المعتزلة، وسوف ننتقل إلى موقف الفلاسفة من الكذب في كتاباتهم الأخلاقية والسياسية.
***
بقلم: د. عصمت نصّار






