قضايا
محمد الهادي حاجي: التكنولوجيا والتغير الاجتماعي
أدت التكنولوجيا الحديثة إلى تغير في القيم الاجتماعية، وهي عنصر من عناصر التغير الذي يشهده العالم اليوم وله تأثير في بنية العمل والمواقف والاتجاهات والقيم الإنسانية لدى أفراد المجتمع والتأثير في الثقافة الموروثة للمجتمعات، وقد أدت ثورة المعلومات والاتصال إلى تبدل في حياة الأفراد، وهي اليوم من أكبر العوامل التي تعقد تشكيل خبرات وثقافة وأذواق وسلوكات الفرد والجماعة، وقد ترتب عن هذه الثورة المعلوماتية حدوث تغير اجتماعي في القيم والمعايير والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية والانفتاح الإعلامي الثقافي الحضاري العالمي بفضل وسائل الإعلام السريعة. والملاحظ في الواقع يكتشف مدى التطور السريع للتكنولوجيا التي لا تعبأ بماهو موجود وكائن من قيم وعادات وأنماط وتقاليد وثقافات. فمن يمتلك القدرة التكنولوجية سوف يملك القدرة أيضا على بث ونشر الرسائل الثقافية بكل ما فيها من قيم يريد نشرها هذا إن كانت قيما، وهو ما يسمى بالغزو الثقافي ويهدد الخصوصية الثقافية (1) تحت مظلة "الانفتاح على الآخر" أو "العصرنة" أو "التقدم". وهو ما جعل الفرد يعيش الاغتراب والعزلة داخل مجتمعه حيث تداخلت أمامه حدود العالم المعيش والعالم الافتراضي الذي تعكسه وسائل التواصل الاجتماعي أو الوسائط، التي غيرت البيئة في مختلف مستوياتها.
فتغيرت الروابط الأسرية الترابية، وضعفت العلاقات الأولية ضمن بيئة تختلف عن الماضي، فأصبح التمسك بثقافة وقيم ومفاهيم أخذت قاعدتها الاجتماعية والمادية والتربوية تتزعزع أمام قوى التكنولوجيا الملحة علينا بالانفتاح بالمعرفة والصورة والصوت فالتغير حاصل رغم النقد والتردد، في بيئة تعج بالشاشات التلفزية والحواسيب والبث الفضائي و"الانترنت'' والهواتف الجوالة وغيرها من الوسائط المختلفة، وهو ما يجعل قيم الأطفال والشباب تتغير بدواعي التحضر والانفتاح، لأن الأداة المستوردة لا تدخل المجتمع مجردة، فهي محيطة بالرموز من الخارج، وغالبا ما تحدث اضطرابا في المجتمع التابع. فمن دون توجيه الأطفال والشباب وترشيدهم فيما يختارونه، أمام هذا الزحف، وهو ما يؤثر على القيم التربوية بتغيير مناهج ووسائل التربية القديمة المحافظة، إلى مناهج متحررة تجعل من الذاتية بديلا عن كل قيمة، صبغت القيم الاجتماعية بتغليب مبدأ التحرر والحرية والانفتاح غير المدروس.
فمظاهر التغير في ضعف التواصل الأسري، وتراجع سلطة الوالدين في السيطرة وضبط السلوك للأبناء وعلاقة الرجل بالمرأة التي كانت تتحدد ضمن النظام الأبوي وهيمنة الكبار على الصغار وضعف قيم الشرف والطاعة والاحتشام والجماعية والتضامن، كلها عناصر أساسية تغيرت بين الماضي والحاضر وتبدو جلية، فالمتأمل في العقود السابقة يرى أن الأسرة كانت تلعب دورا هاما في تكوين مدارك الإنسان وثقافته وتشكيل منظومة القيم لديه، وما يفرزه ذلك من عادات وتقاليد في السلوك، عبر ما يسمى بعملية التنشئة الاجتماعية أما اليوم فإن هذا الدور تقلص وانتقل بشكل كبير إلى العالم الافتراضي والأنترنت وألعاب الفيديو والهواتف المحمولة، وهو يمكننا من القول بأن دور المساهمة في بناء المعرفة والثقافة انتقل من البيئة التقليدية "الملتزمة" بقيم محددة إلى مجتمع آخر افتراضي اتصالي لا يحبذ نفس القيم وليست له نفس المراجع، فقد كان في الماضي الخروج من المنزل بغرض كسب المعارف والتعلم والتفاعل مع المحيط الخارجي لاكتساب الخبرات وبناء الذات وتنمية القدرات والمهارات، أما اليوم فإن البقاء في البيت يتيح لك باقة أخرى من الاختيارات تعلما وتسلية ومتابعة العالم كقرية صغيرة لكنها من نوع اخر.
و من هذا المنطلق يمكن القول أن دراسة القيم في الدراسات الاجتماعية يعتبر محورا مهما للاطلاع على عمق التغير الاجتماعي ودرجاته (2). ويعتبر بعض الدارسين أنها الشرط الأساسي من شروط التغير الاجتماعي. فهي المساعد للتغير والمعيق له في نفس الوقت، وذلك حسب مدى استجابته أو تلاؤمه مع القيم الاجتماعية في إطار المصادر المنتجة لهذه القيم كالعائلة وأنماط المعيشة والدين.
و جدير بنا الإشارة في هذا السياق إلى أنواع القيم التي يمكن للتكنولوجيا أن تؤدي لتغيرها:
- تحدث التكنولوجيا تغيرا في مجال العلاقات الاجتماعية والبنى الفوقية من الإنتاج الفكري والثقافي ويكون كل نتيجة تغير نمط الإنتاج المكون لعلاقات الإنتاج ووسائل الإنتاج. وصنف ماركس القيم ضمن البناء الفوقي إلى جانب الدين والأخلاق، وكشف في تحاليله عن علاقاتها بالبناء التحتي، الذي تشكله قوى وعلاقات الإنتاج المادي، ولكنه لم ينكر الاستقلال النسبي للقيم عن البنية الاقتصادية للمجتمع بحكم امتداد عبر الزمان والمكان. فهي عناصر مترابطة، فكلما تطور الجانب التكنولوجي تغيرت القيم الاجتماعية.
- القيم ذات العلاقة بمصادر الثروة وأدوات الإنتاج ووسائله التكنولوجية التي تعتمد على تقسيم العمل وكثرة الإنتاج والسرعة في الإنجاز.
- القيم المرتبطة بين الوسيلة والغاية، كما هي في التصور العلمي والربط بين تفكير الإنسان وأهدافه وسعيه الدؤوب لتحقيق الأهداف في استغلال الطبيعة والسيطرة عليها أكثر وتعتبر التكنولوجيا وسيلة لتحقيق هذا الهدف.
- القيم ذات العلاقة بإمكانيات الإنسان والتحكم في مصيره كلما ازداد تسلحا بالمعرفة والقيم الروحية، وهي مسؤولية الإنسان في المجتمع وما يحيط به من ظروف وقوى.
- القيم المرتبطة بتلاؤم الإنسان مع البيئة المادية، والتوافق مع الاختراعات العلمية في الميدان التكنولوجي، ومن هذا المنطق فإن التوافق مطلوب بين النمط الثقافي والتنمية المستعملة لأن لكل تقنية تأثير على المستخدم، وهي بذلك مظهر من مظاهر البيئة المادية التي لابد أن يتوافق معها المجتمع. وعندما يعمل الفرد على تغيير محيطه يغير ما بنفسه أيضا. ومن ذلك فإن القيم لا تكون ثابتة، فهي متغيرة وقابلة للتغيير والتطور نتيجة علاقة التفاعل بين الفرد ومحيطه الاجتماعي.
وفي هذا السياق يمكن القول بأن التغيير التكنولوجي يمكن أن ينجر عنه، أزمة قيمية واغتراب ثقافي، خاصة إذا ارتبط بالمجتمعات التقليدية التي هي غير قادرة على الاستفادة من العلوم والتقنية، وإنما تستهلك فقط. فالثورة الكونية في مجال المعلومات والتكنولوجيا، تساهم فيها بالاستهلاك (3).
وجدير بنا الإشارة في هذا السياق إلى أن انتشار النمط الاستهلاكي للتقنية المستوردة في مجتمع تابع لا يقوم بتصنيعها أو إنتاجها يؤدي إلى ازدواجية في مستوى عناصر الثقافة الاجتماعية، جراء تصادم منظومة الثقافة التقليدية ومنظومة الثقافة الحديثة الوافدة التي أنتجت المعايير البضاعية التبادلية والتقنية، الناجم عن الاختلاف في تقبل التحديث جراء تباين المناطق (ريف/حضر)، وتباين وتمايز الفئات الاجتماعية، وجراء عدم التوازن بين التطور الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي. كما أن الثقافة الحديثة ليست فقط عناصر مادية وإنما هي عناصر معنوية تتلاءم والعناصر الأولى، فهما متلازمان، فإذا كان ممكنا استيراد الهاتف الجوال فليس من السهل بل من المستحيل استيراد قيمه وعناصره الرمزية التي أنتج في سياقها، مما يجعل المستخدم في المجتمع المستورد يعيش حالة الاضطراب الناجمة عن ازدواجية القيم ونماذج السلوك، وهو ما يُنتج أزمةَ قيمٍ يصعب حلها لأنها تراكمت وطال أمدها، ثم لأنها تعددت مستوياتها وجوانبها (4).
فالاستهلاك ليس فقط تبعية اقتصادية وتقسيماً عالمياً للعمل وغنىً وفقرا، وإنما هو ثقافي بالأساس، وما التعدد الذي تسببه الأنماط الاستهلاكية أو الازدواجية إلا دليل على ذلك فنجد تقنية مستوردة عالية الجودة التكنولوجية في متناول أفراد المجتمع الذين لا يفقهون طريقة استخدامها أو حتى فتحها وهو ما يؤدي إلى خلق نموذج من الثقافة المهجنة والتابعة مرجعيا وفكريا، وتعتبر التقنية من هذا المنظور مصدر تخلف في ممارستها، نظرا لهدمها لنظام توازن داخلي وفرضها لنمط تحديثي شكلي سطحي وتابع. لكن ذلك لا يعني عدم الاستفادة منها وإنما وجت تطويعها والسيطرة على انزلاقاتها خاصة اليوم أمام تحديات الثورة في مجال الذكاء الاصطناعي وعالم الروبوتية وما له من تداعيات على جوهر انسانية الانسان المبدع الحالم الذات فهل سيستطيع هذا الأخير تحصين نفسه ضد هذا الطوفان الجارف.
***
د. محمد الهادي حاجي - تونس
........................
1- أبو عودة (أنور)، العولمة، الأمركة، وجهان لعملة واحدة، دار الجيل للطباعة والنشر، بيروت 2003، ص321.
2-غيث (محمد عاطف)، التغير الاجتماعي في المجتمع القروي، دار المعارف، القاهرة، 1964، ص 204- 206.
3- الجابري (محمّد عابد)، المسألة الثقافية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1993، ص 44.
4- عبد الدائم (عبد الله)، "مستقبل الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها"، مجلة المستقبل العربي، العدد 260، أكتوبر 2000.






